ثمّ إنّ المغيبات التي أشرنا إليها إجمالاً، دلّت قبل كلّ شيء على كون القرآن كتاباً سماوياً، أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه، فإنّ الإخبار عن المغيبات الكونية، والنواميس السائدة في الوجود، أو الإخبار عن الاُمم البائدة على النحو الذي ذكرناه أو الإخبار عن شؤون البشر في مستقبل أدواره، والإيماء إلى الملاحم والفتن، والتي لا يدل عليها ولا يرشد إليها الحس، أمر خارج عن طوق البشر، فلا مصدر لها إلّا كونها وحياً أو إلهاماً، من خالقه إلى مخلوقه ورسوله الذي ارتضاه فهو عالم الغيب والشهادة فلا يطلع على غيبه أحداً إلّا من ارتضاه من رسول، فمستند النبي في مثل هذه المغيبات هو الله علام الغيوب.
وقد عرفت أنّ الإخبار عن الغيب بأقسامه الثلاثة كثير في القرآن المجيد، وأنّ استقصاء الموضوع بعامّة نواحيه، يحوج الباحث إلى تأليف مفرد. وقد قام عدة من الفضلاء في عصرنا بجمع الآيات التي أخبرت عن النواميس السائدة على الكون من أسرار الخلقة ونواميس الطبيعة، مما كانت مختفية في عصر نزول القرآن، ولم يكن سبيل إلى استكشافها إلّا من طريق الوحي ففسرّوها وأوضحوا مداليلها(١) وبذلك أغنونا عن أفاضة القول في هذا القسم من الغيب، وأمّا غير هذا القسم من أقسام المغيبات التي جاءت في القرآن فمجمل القول فيه :
إنّ المتفحّص في ما أخبر القرآن به من أحوال الاُمم والحوادث الماضية، يجد من نفسه أنّ المصدر الوحيد لبيان تلك الحوادث هو الوحي الالهي ليس غير وأنّ النبي الأعظمصلىاللهعليهوآله لم يتلقها من مثقفي عصره ولا من الكتب الدارجة في عهده، التي تنسب إلى الوحي وتعزى إلى الأنبياء، إذ لو فرضنا أنّه أخذ ما أتى به من القصص من أحبار اليهود وأساقفة النصارى وقسيسيهم وكهنة العرب والكتب الدينية الرائجة من التوراة
__________________
(١) راجع كتاب العلوم الطبيعية والقرآن، والقرآن والعلوم الحديثة وغيرهما.