الفصل التاسع والعشرون
في الحريق الحادث في زماننا بعد العمارة السابقة وما ترتب عليه
ألحقته هنا مع إلحاق ما تقدمت الإشارة إليه في الفصول السابقة ، لحدوثه بعد الفراغ من مسودة كتابنا هذا لأني توجّهت إلى مكة المشرفة للاعتمار أول شهر رمضان عام ست وثمانين وثمانمائة ، فورد علي بها عدة كتب من الصادقين في الخبر ، وشافهني من شاهد الأمر والأثر ، بما حصل من الخطب العظيم ، والرزء الجسيم ، باحتراق المسجد النبوي أول الثلث الأخير من ليلة الثالث عشر من شهر رمضان ، وذلك أن رئيس المؤذنين وصدر المدرسين الشمسي شمس الدين محمد بن الخطيب قام يهلّل حينئذ بالمنارة الشرقية اليمانية المعروفة بالرئيسية ، وصعد المؤذنون بقية المنائر ، وقد تراكم الغيم فحصل رعد قاصف أيقظ النائمين ، فسقطت صاعقة أصاب بعضها هلال المنارة المذكورة ، فسقطت في المسجد وله لهب كالنار ، وانشق رأس المنارة ، وتوفي الريس المذكور لحينه صعقا ففقد من كان على بقية المنائر صوته ، فنادوه فلم يجب ، فصعد إليه بعضهم فوجده ميتا ، وأصاب ما نزل من الصاعقة سقف المسجد الأعلى بين المنارة الرئيسية وقبة الحجرة النبوية فثقبه ثقبا كالترس ، وعلقت النار فيه وفي السقف الأسفل ، ففتح الخدام أبواب المسجد قبل الوقت المعتاد وقبل إسراجه ، ونودي بالحريق في المسجد ، فاجتمع أمير المدينة وأهلها بالمسجد الشريف ، وصعد أهل النجدة منهم بالمياه لإطفاء النار ، وقد التهبت سريعا في السقفين ، وأخذت لجهة الشمال والمغرب ، فعجزوا عن إطفائها ، وكلما حاولوه لم تزدد إلا التهابا واشتعالا ، فحاولوا قطعها بهدم بعض ما أمامها من السقف ، فسبقتهم لسرعتها ، وتطبق المسجد بدخان عظيم ، فخرج غالب من كان به ، ولم يستطيعوا المكث ؛ فكان ذلك سبب سلامتهم ، وهرب من كان بسطح المسجد إلى شماليه ، ونزلوا بما كان معهم من حبال الدلاء التي استقوا بها الماء بخارج المسجد على الميضأة والبيوت التي هناك وما حول ذلك ، وسقط بعضهم فهلك ، ونزل طائفة منهم إلى المسجد من الدرج فاحترق بعضهم ولجأ بقيتهم إلى صحن المسجد مع من حالت النار بينه وبين أبواب المسجد ممكن كان أسفل ، ومنهم صاحبنا الشيخ العالم صدر المدرسين الشمسي شمس الدين محمد بن المسكين المعروف بالعوفي ، فمات بعد أيام لضيق نفسه بسبب الدخان مع توعك سابق ،رحمهالله تعالى! واحترق من الخدام الزيني شند نائب خازن دار الحرم ، تغمده الله برحمته! ومات جماعة تحت هدم الحريق من الفقراء وسودان المدينة ، وجملة من مات بسبب ذلك بضع عشرة نفسا ، وكانت سلامة من بقي بالمسجد على خلاف القياس ؛ لأن النار عظمت جدّا حتى صارت كبحر لجي من نار ، ولها زفير وشهيق وألسن تصعد في الجو ، وصار لفحها يؤثر من البعد حتى أثرت في النخلات التي بصحن المسجد ،