والشريعة الإسلامية لم تخالف حكم العقل ولا سيرة العقلاء ، بل أمضتها قولاً وفعلاً وتقريراً ، وليست التقية إلاّ شعبة من شعب حكم العقل بوجوب دفع الضرر بما يتناسب مع ذلك الضرر المحتمل ، وليست موارد المواجهة الحسنة إلاّ استثناء من حكم العقل وسيرة العقلاء ، وفي غير ذلك لا تكون التقية إلاّ ضرورة عقلية جرى عليها العقلاء في سيرتهم وتعاملهم مع الآخرين ، وخصوصاً ولاة الجور وسفّاكي الدماء ، وهذا ما لوحظ بوضوح في محنة خلق القرآن الكريم كما تقدم بعض أمثلة ذلك ، حيث التجأ المسلمون إلى التقية ؛ حفظاً على دمائهم وأعراضهم وأموالهم .
ويجد الإنسان أمثلة ذلك كثيرة جداً في نفسه ويومياته ، بل يتجلّى ذلك بوضوح لمَن راجع التاريخ ولاحظ كيفية تعايش المستضعفين والمضطهدين مع جبابرة عصرهم وطغاة زمانهم .
ومن هنا نفهم أنّ التقية لم تكن معاصرة للشرائع السماوية فحسب ، بل هي فطرة غرزها الله تبارك وتعالى في البشرية منذ أن كوّنها وخلقها .
والحاصل : أنّ التقية حكم عقلي وعقلائي أمضاه الشارع وعمل بها المسلمون .
لم تكن التقية حكماً عقلياً وعقلائياً فحسب ، بل هي حكم فطري ، فكل إنسان فطره الله عزّ وجل على حفظ حياته وكلّ ما يتعلّق به من أموال أو عرض أو معتقد ، ولذا يحاول أن يتستّر بفطرته على بعض تلك الأمور إذا أحس بالخطر في الإعلان عنها والإدلال عليها ، فهو يُخفي بمقتضى تلك الفطرة أي كمال من الكمالات إذا وجد أنّ إخفائه أبقى لوجوده من الإعلان عنه
وهذه الفطرة سلاح زوّده الله تعالى المستضعفين لمواجهة الجبابرة والطغاة الظالمين ، ومن هنا نجد أنّ العقل السليم والعقلاء لم يلغوا هذه الفطرة ، بل أقرّوها وساروا على هديها ، وأقرّهم الشارع على ذلك ؛ لأنّ الدين الإسلامي لم يأت لإلغاء العقول أو التعدّي على مقتضيات الفطرة البشرية أو إلغاء دور العقلاء في السير الاجتماعي ، بل جاء لتهذيب بعض الانحرافات التي قد تحصل بسبب ما تمليه النفس الأمّارة بالسوء على الفرد أو المجتمع .