وثانياً:
إنّ هذه الظاهرة يمكن أن نطرح في تفسيرها نظريّةً أُخرى، تنسجم مع الأساس الموضوعي لوجود الظاهرة القرآنية نفسها، وهذه النظريّة هي أن يقال:
إنّ الحديث عن تفاصيل التشريع في مكّة كان شيئاً سابقاً لأوانه، حيث لم يستلم الإسلام حينذاك زمام الحكم بعد، بينما الأمر في المدينة على العكس، فلم يتناول القسم المكّي تفاصيل التشريع؛ لأنّ ذلك لا يتفق مع المرحلة التي تمرُّ بها الدعوة، وإنّما تناول الجوانب الأُخرى التي تنسجم مع الموقف العام، كما سوف نشرح ذلك قريباً.
وقالوا: إنّ القسم المكّي لم يتناول أيضاً الأدلّة والبراهين على العقيدة وأُصولها، على خلاف القسم المدني؛ وهذا تعبير آخر أيضاً عن تأثُّر القرآن بالظروف الاجتماعية والبيئيّة، إذ عجزت الظاهرة القرآنية - بنظر هؤلاء - عن تناول هذا الجانب الذي يدل على عمق النظر في الحقائق الكونيّة، عندما كان يعيش محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله) في مكّة مجتمع الأُمّيّين، بينما ارتفع مستوى القرآن في هذا الجانب عندما أخذ محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله) يعيش إلى جانب أهل الكتاب في المدينة، وذلك نتيجةً لتأثُّره بهم؛ لأنّهم أصحاب فكرٍ وفلسفةٍ ومعرفة بالديانات السماوية، ولتطوّر الظاهرة القرآنية نفسها أيضاً.
وتُناقش هذه الشبهة من وجهين:
الأوّل:
أنّ القسم المكّي لم يخلُ من الأدلّة والبراهين بل تناولها في كثيرٍ من سوره، والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة وفي مجالات شتّى، فمن نماذج وموارد الاستدلال على التوحيد قوله تعالى:
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ* وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ