وتوجيه الحلبي لذلك : بأنّ من الممكن أن يكون أبو لهب قد أعتقها أوّلاً لكنه لم يذكر ذلك ولم يظهره ، ورفض بيعها لخديجة ؛ لكونها كانت معتوقة ، ثمّ عاد فأظهر ذلك …(١) .
هذا التوجيه غير وجيه ؛ لأنّ من غير المعقول أن لا يظهر الناس ولا يطّلعوا على عتقه لجاريته طيلة حوالي خمسين سنة ، كما أنّ هذه الجارية التي اعتقها لماذا بقيت عنده طيلة هذه المدّة المتمادية وهي خارجة عن ملكه ؟ ولماذا لم يظهر ذلك إلاّ بعد هجرتهصلىاللهعليهوآله ؟ فما هو الداعي له للكتمان , ولا سيّما قبل النبوة ؟ وما الداعي للإظهار , ولا سيّما بعد الهجرة ؟
وأوردوا أيضاً على الرواية بأنها مرسلة ، وبأنه لا حجيّة في المنامات ، وبأنها مخالفة لظاهر القرآن الذي يقول عن الكفار :( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ) (٢) ولكن إذا ثبت أنّ الرائي هو النبيصلىاللهعليهوآله ، كما هو مقتضى رواية اليعقوبي ، كان المنام حجّة.
كما أنّهم قد ناقشوا في هذا الاعتراض الأخير بما لا مجال لذكره ، فلتراجع المصادر المتقدّمة ، فالعمدة هو ما ذكرناه نحن آنفاً , ونذكر أخيراً أنّ فرحه لو كان استجابة لحاجة نفسية طبيعية ، ولم يكن لله ، فلماذا يثاب عليه ؟!
ونجد في كلماتهم أيضاً الاستدلال بفعل حاكم أربل ، الذي ابتكر عمل المولد على ذلك النحو المخصوص حسبما ذكروه ، وقد كان فاضلاً ورعاً ديّناً إلى آخر ما وصفوه به(٣) .
ولكنه استدلال لا يصحّ أيضاً ؛ لأن التشريع لا يصحّ من أحد إلاّ من صاحب الشريعة ، ولم يكن هذا الرجل من العلماء ، حتّى يحمل عمله على أنه قد استند فيه إلى دليل شرعي ، فلعلّه كان غافلاً عن اللوازم الفاسدة لمثل هذا العمل ، أو حتّى متعمّداً لها إلاّ إذا كان المقصود والاستدلال على هذا الأمر بالإجماع المتحقّق في زمانه ، وحضور العلماء وغيرهم لتلك المناسبات كما يظهر من سياق كلامه … ولسوف نشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
ولكنه أيضاً استدلال باطل عندنا ؛ لأننا نعتقد أنّ الإجماع بما هو هو لا حجيّة فيه ، إلاّ بسبب اشتماله على قول المعصومعليهمالسلام ، أو قول أحد الأئمة المعصومين ؛ أمّا دون ذلك فلا اعتبار به ، ولكن المشهور عند أولئك المستدلّين بهذه الأدلّة هو حجيّته متى تحقّق ، حتّى ولو بعد عصر النبيصلىاللهعليهوآله ، ثمّ ما تلاه من أعصار فيكون حجّة عليهم ، فراجع كتب الاُصول(٤) .
____________________
(١) السيرة الحلبيّة ١ / ٨٥.
(٢) راجع : فتح الباري ٩ / ١٢٤ - ١٢٥ ، وإرشاد الساري ٨ / ٣١ ، وعمدة القاري ٢٠ / ٩٥ ، والقول الفصل / ٨٤ - ٨٧.
(٣) راجع : رسالة حسن المقصد للسيوطي ، والمطبوعة مع كتاب النعمة الكبرى على العالم / ٨٠.
(٤) راجع : المستصفى , وفواتح الرحموت ، والأحكام في اُصول الأحكام ، وإرشاد الفحول - بحث الإجماع.