وبعد , فإنّ أهم دليل اعتمد عليه هؤلاء هو الرواية المنسوبة إلى النبي الأكرمصلىاللهعليهوآله ، والتي تضمّنت النهي عن جعل قبرهصلىاللهعليهوآله عيد. وقد قال الحافظ المنذري : يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبرهصلىاللهعليهوآله ، وأن لا يهمل حتّى يكون كالعيد الذي لا يؤتى في العام إلاّ مرتين. قال : ويؤيّده قوله : (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً )) أي لا تتركوا الصلاة فيها حتّى تجعلوها كالقبور التي يصلّى فيها(١) . ونحن وإن كنّا نحتمل المعنى الذي ذكره المنذري ، إلاّ أنّ ما جعله مؤيّد لا يصلح للتأييد ، إذ إنّ الظاهر هو أنّ هذه الفقرة في صدر بيان كراهة جعل القبور في بيوتهم. وإنّ دفن النبيصلىاللهعليهوآله في بيت ابنته فاطمة(٢) إنما كان لمصلحة خاصة اقتضت ذلك ، فليس لهم أن يتخذوا ذلك مؤشّراً على رجحان الدفن في البيوت ؛ وذلك لأن للأنبياء خصوصية ليست لغيرهم ، وهي أنهم يدفنون حيث يقبضون(٣) . فلا يصحّ ما ذكروه من أنهصلىاللهعليهوآله لم يدفن في الصحراء ، لئلاّ يصلّى عند قبره ، ويتخذ مسجداً فيتخذ قبره وثناً(٤) . وذلك لِما قدّمناه من الرواية المقتضية للخصوصية.. هذا بالإضافة إلى أنّ دفنه في بيته أدعى لأن يتخذ مسجد ، خصوصاً وأنه متّصل بالمسجد النبوي ، ولو كان في الصحراء لأمكن المنع بصورة أسهل وقد منع عمر من الصلاة عند شجرة بيعة الرضوان ، فامتنع الناس ، ولذلك نظائر اُخرى(٥) . وأمّا بالنسبة لفقرة : ( لا تتخذوا قبري عيداً ) فيحتمل قوي أن يكون المراد أنّ اجتماعهم عند قبرهصلىاللهعليهوآله ينبغي أن يكون مصحوباً بالخشوع والتأمّل والاعتبار ، حسبما يناسب حرمته واحترامهصلىاللهعليهوآله ، فإن حرمته ميتاً كحرمته حي.. فلا يكون ذلك مصحوباً باللهو واللعب والغفلة والمزاح ، وغير ذلك مما اعتادوه في أعيادهم. ولعلّ هذا هو مراد السبكي حينما قال : ويحتمل لا تتخذوه كالعيد في الزينة والاجتماع وغير ذلك ، بل لا يؤتى إلاّ للزيارة والسّلام والدعاء(٦) . أمّا الرقص والغناء وغير ذلك من المحرمات ، فهي من الاُمور الممنوع عنها من الأساس فلا يبقى مجال للإشكال به ، حسبما ورد في كلام ابن الحاج وابن تيمية.
____________________
(١) كشف الارتياب / ٤٤٩عن السمهودي ، والصارم المنكي / ٢٩٧ ، وراجع / ٣٠٠ ، وعون المعبود ٦ هامش / ٣١ - ٣٢ ، وشفاء السقام / ٦٧ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيِّين / ١٢٢ ، وزيارة القبور الشرعية والشركية / ١٥.
(٢) لقد نشرنا مقالاً أثبتنا فيه أنهصلىاللهعليهوآله دفن في بيت فاطمة لا في بيت عائشة فراجع كتابنا دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج١.
(٣) مقدمة شفاء السقام / ١٢٥-١٢٦والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيِّين.
(٤) راجع : مقدمة شفاء السقام ، المسمّاة : تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد / ١١٨ ، والصارم المنكي / ٢٦١-٢٦٢ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيِّين / ١٥١.
(٥) راجع الدر المنثور ٦ / ٧٣ ، عن مصنف ابن أبي شيبة ، وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي / ١٤٤و١٤٥ ، السيرة الحلبية٣ / ٢٥ ، وفتح الباري ١ / ٤٦٩ ، و٧ / ٣٤٥ ، وإرشاد الساري ٦ / ٣٥٠ ، وطبقات ابن سعد ٢ ، قسم ١ / ٧٣ ، وشرح النهج للمعتزلي ١ / ١٧٨ ، وراجع الغدير ٦ / ١٤٦و١٤٧ عن مَن تقدم وعن غيره ، وكذا كتاب التبرك / ٢٢٦-٢٣٥ عن مَن تقدم وغيره.
(٦) كشف الارتياب / ٤٤٩ عن السمهودي في وفاء الوفاء , وشفاء السقام / ٦٧ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيِّين / ١٢٢ ، والصارم المنكي / ٢٩٧.