وهذا على الرغم من أنّ الحقّ ربما يكون مرّ ، أو مخجلاً لكثير من اُولئك الذين اختاروا الانحراف عن جادّة الحق ، والابتعاد عن الطريقة القويمة ، والخطّة السليمة المستقيمة.
نعم ، لربما تمسّ الحاجة - وذلك كثير في القرآن أيضاً - إلى تصعيد التحدّي إلى حدّ التلويح أو التصريح بما لو لم يبادر إلى التلميح أو التصريح به لكان خطراً على الإسلام وعلى قواعده ومبانيه من الأساس ؛ ولكنها تكون حالات استثنائية - يعقبها الاستدلال والتفهيم مباشرة - ولا يمكن أن تتخذ الصفة الطبيعية التي يفترض جعلها أساساً للتحرّك في المجال العام للدعوة الإسلامية.
هذه كلها لو لم نقل إنّ المنطلق الإسلامي لكل حوار منصف وهادف وبنّاء هو قوله تعالى : ( وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ … )(١) ؛ حيث يريد سبحانه أن يهيّئ الطرف الآخر للبحث العلمي القائم على أساس الدليل الساطع والبرهان القاطع ، بعيداً عن أجواء التشنّج والانفعال والشكّ والريب ولعلّ هذا بالذات هو المقصود من المجادلة بالتي هي أحسن … حسبما نصّت عليه الآية آنفة الذكر.
ونجد إلى جانب ذلك أنّ طريقة أئمتنا عليهم الصلاة والسّلام وخطّتهم لم تتعدَ هذا النهج ؛ وذلك تأسّياً منهم بالنبي الأكرمصلىاللهعليهوآله ، والتزاماً منهم بالهداية القرآنية وعلى هذا الأساس ، فإننا نجد أنّ دعوة عليعليهالسلام أصحابه إلى عدم سبّ أهل الشام ، ولكن بإمكانهم أن يصفوا أعمالهم ، معلّلاً ذلك بأنه أصوب في القول ، وأبلغ في العذر(٢) .
إنّ هذه الدعوة قد جاءت منسجمة كلّ الانسجام مع تعاليم القرآن الكريم ، وتوجيهاته السامية في مجال الهداية إلى سبيل الله ، والدعوة إلى دينه مع أنّهعليهالسلام يستحل دماءهم ، ويباشر قتلهم ، حتّى لقد قيل : إنّهعليهالسلام قد قتل منهم بنفسه عدّة مئات في ليلة واحدة ، وهي المسمّاة ب- (ليلة الهرير).
ولم يكن موقفه هذا , وهو الالتزام بالكلمة المهذّبة ، والعمل بالهدى القرآني الرائد خاصّاً بالذين حاربوه في صفين ، أو في الجمل ، والنهروان ، وإنما هو ينسحب على مجمل مواقفه في حياته( صلوات الله وسلامه عليه) وعلى أبنائه الأئمة الميامين الطيبين الطاهرين.
____________________
(١) سورة سبأ / ٢٤.
(٢) راجع : نهج البلاغة بشرح محمّد عبده ٢ / ٢٢١ ، وتذكرة الخواصّ / ١٥٤ ، وصفّين لنصر بن مزاحم / ١٠٣ ، والأخبار الطوال / ١٦٥.