وإذا ما رأينا أحياناً بعض المواقف الحادّة والفاصلة للأئمةعليهمالسلام ، فإنما هو في مقابل اُولئك الذين حاولوا ضرب أساس الإسلام ، وتقويض دعائمه ، من أمثال أبي الخطاب ، والمغيرة بن سعيد ، وأضرابهما من الغلاة والنواصب ولسنا في مجال استقصاء ذلك هنا.
وبعد أن تحقّق لدينا أنّ طريقة القرآن ، ونهج الإسلام إنّما هو الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن … وأنّ الأساس والمنطلق هو الحوار الموضوعي المنصف ، القائم على قاعدة :( وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ … ) .و( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ ) .و( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) وذلك في ظل العقل ، وحرية التعبير وحرية الموقف. وعرفنا كذلك أنّ الرفق والرضا والتفاهم وروح التعاون في البحث الموضوعي النزيه والهادف … هو الجوّ الطبيعي الذي يريده الإسلام ، ويرى أنّه يتهيّأ له في ظلّه تكريس وجوده ، وتأكيد واقعيّته وأصالته إذا عرفنا ذلك كلّه فإننا ندرك أنّ ما يدينه الإسلام ويرفضه ويسعى إلى إزالته ، هو حالة تكبيل العقل في الهوى والعواطف والشهوات ، والمصالح الشخصية والقبلية ، والأهواء والعصبيّات … فهو يرفض ويحارب ظاهرة :( وَجَحَدُوا بِهَا ) من أجل الحفاظ على بعض الامتيازات الظالمة التي جعلوها لأنفسهم ، أو استجابة لدواعٍ غير واقعية ولا أصلية ، أو من أجل الحصول على بعض الملذّات الزائلة والتمتّع بها ، أو من أجل الحفاظ على مركز اجتماعي ، أو على وضع اقتصادي ، أو سياسي معيّن ، وإن كان ذلك على حساب( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) ، أو حتّى على حساب كلّ المثل والقِيَم الإنسانيّة ، وكل الضوابط والمعايير والأحكام الإلهية …
هذا ، بالإضافة إلى أنّ اُولئك الجاحدين بموقفهم الجحودي ذلك ، إنما يعاندون قناعاتهم ، ويضطهدون عقولهم( وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) فيجعلون عقولهم ووجدانهم وفطرتهم ، وكل النبضات الإنسانيّة الحيّة في وجودهم ، في سجن تلك الأهواء والمصالح ، ويثقلونها بالقيود ، ولتكون نتيجة ذلك هي إلقاءها في سلّة المهملات مع نفايات التاريخ. فيأتي الإسلام … ويقف في وجه هذا البغي ، ويعمل على تحطيم هذا الطغيان ، فيحرر العقل والفطرة من قيد الجمود هذا ، لينطلق إلى الحياة باحث ومنقّب ، وبعد ذلك مستنتج وصاحب قرار وتصميم ، حينما يستكشف كلّ معاني السموّ والخير والسعادة ، بعيداً عن النزوات البهيمية وصراع الشهوات ، ومزالق العواطف غير المتّزنة ولا المسؤولة
وهذا ما يفسّر لنا ما نجده في القرآن من كونه يؤنّب أشدّ التأنيب هذا النوع من الناس ، وينعى عليهم ارتكابهم تلك الجريمة النكراء في حق فطرتهم وإنسانيّتهم ، والأهمّ من ذلك في حقّ عقلهم ووجدانهم …