وقام الإمام الحسن (عليه السّلام) مع بقية إخوانه بتجهيز أبيه، فغسّلوا الجسد الطاهر وأدرجوه في أكفانه وصلّوا عليه، وفي الهزيع الأخير من الليل حملوا الجثمان المقدّس إلى مقرّه الأخير، وكانت معهم العقيلة زينب(١) وهي تذرف الدموع، وقد نخب الحزن فؤادها، ودفنوا الجثمان المعظّم في النجف الأشرف حيث مقرّه الآن كعبة للوافدين، وجامعة من أهم الجامعات في الإسلام.
لقد شاهدت السيّدة زينب الكوارث والخطوب التي أحاطت بأبيها، فملأت قلبها الزاكي أسى وحزناً، وعرفتها بما تكنّه قريش من الحقد والحسد لأبيها، وسائر أبناء الاُسرة النبويّة.
وفي صبيحة اليوم الذي وارى فيه الإمام الحسن (عليه السّلام) جثمان أبيه انبرى إلى جامع الكوفة يحفّ به إخوته وسائر بني هاشم، وقد اكتظّ الجامع بمعظم قطعات الجيش وقادة الفرق والوجوه والأشراف، فاعتلى المنبر فابتدأ خطابه بتأبين أبيه عملاق الفكر الإسلامي، وكان تأبينه منسجماً تمام الانسجام مع سموّ شخصية أبيه؛ فقد وصفه بأبلغ وأروع ما يكون الوصف.
وصفه بهذه الكلمات الذهبية:«لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولم يُدركه الآخرون بعمل» .
ومعنى ذلك أنّ أباه نسخة فريدة لا مثيل لها في تأريخ الإنسانيّة في جميع الأزمان والآباد؛ فإنّ من المحقّق أنّه ليس في ميدان الإصلاح الاجتماعي والسياسي زعيم كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في نزاهته وتجرّده من جميع النزعات المادية؛ فقد
____________________
(١) زينب الكبرى / ٣٨.