وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) علماً بالتحرّكات السياسيّة من بعض أصحابه، وأنّهم عازمون ومصرّون على صرف الخلافة عن أهل بيته، وإفساد ما أعلنه غير مرّة من أنّ عترته الأزكياء هم ولاة أمر المسلمين من بعده، فرأى (صلّى الله عليه وآله) أن يحكم الأمر ويحمي اُمّته من الفتن والزيغ، فقال لمَنْ حضر في مجلسه:«ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً» (١) .
حقّاً إنّها فرصة من أثمن الفرص وأندرها في تأريخ الإسلام، إنّه التزام واضح وصريح من سيّد الكائنات أنّ اُمّته لا تُصاب بنكسة وانحراف بعد هذا الكتاب.
ما أعظم هذه النعمة على المسلمين، إنّه ضمان من سيد الأنبياء أن لا تضلّ اُمّته في مسيرتها وتهتدي إلى سواء السبيل في جميع مراحل تأريخها، واستبان لبعض القوم ماذا يكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إنّه سينصّ على خلافة عليّ من بعده، ويعزّز بيعة يوم الغدير، وتضيع بذلك أطماعهم ومصالحهم، فردّ عليه أحدهم قائلاً بعنف: حسبنا كتاب الله.
ولو كان هذا القائل يحتمل أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) يوصي بحماية الثغور، أو بالمحافظة على الشؤون الدينية ما ردّ عليه بهذه الجرأة، ولكنّه علم قصده أنّه سيوصي بأهل بيته وينصّ على خلافة عليّ من بعده.
وكثر الخلاف بين القوم؛ فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبي (صلّى الله عليه وآله)، وطائفة اُخرى أصرّت على معارضتها والحيلولة بين ما أراده النبي (صلّى الله عليه وآله). وانطلقت بعض السيّدات فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو في الساعات الأخيرة من حياته، فقلن لهم: ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟!
فثار عمر وصاح فيهنّ؛ خوفاً أن يفلت الأمر منه ومن حزبه، فقال للسيدات:
____________________
(١) الرواية أخرجها البخاري ومسلم، والطبراني في الأوسط، وغيرهم.