رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (1) .
قال الزمخشري: هذا مَثل ضَربه الله للحقّ وأهله والباطل وحزبه، فكنّى بالماء عن العِلم، وبالأدوية عن القلوب، وبالزَبد عن الضلال.
إنّ الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، كلٌّ بقدرها، وهو بطبيعة جريه وسيلانه يلمّ في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه صورة زَبد، هي الشكوك الحاصلة من تضارب الآراء وحجاج الخصوم، حتى ليحجب الماء أي الحقيقة في بعض الأحيان.
وقد يكون هذا الزَبد نافشٌ رابٍ منتفخ، ليبدو فخيماً في شكله وظاهر صورته، ولكنّه في حقيقته غثاء، أمّا الماء من تحته فهو ساربٌ ساكنٌ هادئ، لكنّه الماء الحامل للخير والحياة، وسرعان ما تنصع حقيقته الصافية، وينقشع عن وجهه غبار الأوهام.
كذلك يُتصوّر في المعادن والفلزّات التي تُذاب لتصاغ منها الحُلي أو الأواني والآلات النافعة للحياة، فإنّها عند الذوبان يطفو عليها الخبث وقد يحجب وجه الفلزّ الأصيل، ولكنّه بعدُ خبثٌ يذهب جفاء، ويبقى الفلزّ نقيّاً خالصاً نافعاً في الحياة.
وذلك مثل الحقّ يُجلّله غبار الباطل أحياناً، لكنّه لا يلبث أن ينصدع فتتجلّى الحقيقة ناصعةً بيضاء لامعة. ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) ومِن ثَمّ عقّبه بقوله: ( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) (2) تصف ألسنتكم الكذب من تشكيك وأوهام وخرافات (3) .
للكناية فوائد وحِكم ذكرها أرباب البيان، ولخّصها جلال الدين السيوطي في
____________________
(1) الرعد: 17.
(2) الأنبياء: 18.
(3) الكشّاف: ج2 ص523، المَثل السائر: ج3 ص63، في ظِلال القرآن: ج5 ص85.