25%

الفصل الخامس

الصلابة والبأس الشديد

في مسيرة الركب التاريخيّة

انطلق الركب الحسيني بمسيرته التاريخيّة من المدينة المنورة إلى مكّة المكرمة، البلد الأمين، دار السلام والاطمئنان. وبعدما أضحت مكّة غير ذات أمان مهتوكة الحرمة، ولأسباب متظافرة اتجهت المسيرة العملاقة نحو الشمال إلى العراق حيث إقليم الكوفة فكربلاء.

وأخذ الركب يلفّ الصحراء ويطوي البيداء، ويعبر ويصعد الهضاب، ويقطع السهول، متجاوزاً التلال والمرتفعات، يحثّ خطى السير لا يلوي على شيء، قد حملت الجمال معدات السفر والعتاد ومحامل النساء، فيما امتطى الفرسان صهوات جيادهم.

وقد لحقهم مئات من الرجال النفعيّين الذين ظنوا بإقبال الدنيا على الحسين (عليه السّلام)، وقد أدرك الإمام (عليه السّلام) دوافعهم؛ فسلك معهم عدة أساليب لإرجاعهم وإبعادهم عن جهاده النقي، وللإبقاء على صفوة الرجال وخلاصة الرساليِّين الأبطال ممّن لا منفعة دنيوية تحدوهم، ولا مصلحة شخصيّة تدعوهم إلاّ إعلاء كلمة الله بإظهار الحق ودمغ الباطل(١) .

مرّ الركب بعدة مناطق في الطريق؛ كمنطقة الصفاح، وزرود، والخزيميّة، ومنطقة الثعلبيّة... إلخ.

وهنا في هذه المنطقة بالذات حيث بلغها الركب في المساء، وعليّ الأكبر يسير معهم ليلاً نهاراً، يسير كلّما ساروا، ويقف كلما وقفوا، ويحثّ جواده كلما حثوا الجياد حتّى بلغ منهم النصب وأخذهم التعب.

وفي ذلك المساء بتلك المنطقة غفا الإمام الحسين (عليه السّلام) وأخذه الكرى، فرأى في نومه المؤقت رؤيا أزالت عنه الكرى، وفتح عينيه على أثرها، وأخذ يسترجع:(( إنّا لله وإنّا إليه راجعون )) (٢) . وهذا عبارة عن تعقيب على مضمون الرؤيا ومعناها.

فانتبه نجله علي الأكبر الذي كان يسير على مقربة منه، فالتفت حالما سمعه ليستفسر من والده العظيم عمّا دعاه للاسترجاع، فأجابه الأب القائد:(( رأيت فارساً وقف عليّ وهو يقول: أنتم تسيرون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة. فعلمت أن أنفسنا قد نعيت إلينا )) . وفي رواية لا توجد عبارة (إلى الجنّة).