50%

الاستئذان للنزال

اتّجه نحو أبيه الإمام (عليه السّلام) فاتّخذ له موقفاً أمامه، وظل صامتاً مطرقاً برأسه، نظر إليه والده الحسين (عليه السّلام) فأدرك ما يريد، فكلّ ما ظهر عليه من لامة حربه ومدرعته وإسراجه لفرسه يدل على عزمه للمضي على ما مضى عليه مَن سبقوه، يدل على لهفته لمباشرة الجهاد المسلّح.

وراح الحسين (عليه السّلام) ينظر إليه بنظرات ملؤها الرفق والحنان والإشفاق، أخذ يطيل النظر إليه، فاتّخذت عواطف الاُبوة الطاهرة مستقرها بين جوانح الأب العظيم.

دار التفاهم على صعيد الصمت، وتمّ تبادل البيان من خلال مؤشرات موقف الأشجان، ولم يكن الفراق عجيباً ولا غريباً إذا(( خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ))، (( لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه فيوفّينا أجور الصابرين )) كما في خطابه التاريخي بمكّة.

ترى هل عزّ على الحسين (عليه السّلام) فراق حبيبه وريحانته وذكرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ هل يا ترى يمنعه عن التسرع أو يؤجل دوره إلى حين؟ نعم عزّ عليه ولكنه لا يمنعه أو يؤجّل جهاده.

عزّ عليه عزّاً لا حد له، بيد أنّ الحسين يسيطر عليه أمر أكبر وأخطر؛ ذلك هو عزّ القضية التي من أجلها نهض بنهضته وصدع بمبدأ الجهاد. فبعز رسالته هان عليه عزّ الأحبة وآلام الوحدة والغربة؛ فالموقف شجي ومحرج لكنه في غاية التحرّج في قضية الدين، بحيث هوّنت عليه فقد الحياة وحراجة تقديم البنين.

وأخذت الآهات مأخذها في داخل صدره، وراح ينظر إليه، إلى أشبه من وطئ الحصى بجدِّهِ النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله). واغرورقت عيناه بالدموع، وطفق إليه ليضمّه ليحتضنه ويلثمه، ووقف الشباب الهاشمي أمام المشهد الحزين وقد دام العناق طويلاً، فماذا تتصور عن عناق صدق الأشواق، عناق لحظات الفراق؟! أجل إنّها آخر فرصة لتبادل القبلات المنغصة.