وعاد ولكن ليرجع، عاد كيما يعود إليهم؛ إذ توعدهم، ثمّ إنّه على موعد مع الله سلفاً، موعد لا يخلفه في مكان وزمان سوى، غير أنه الآن عطشان لحدٍّ قد يمكّن العدو منه، فهو ظمآن إلى درجة تفقده الرؤية الجيدة، فلا يرى الأوباش ولا يميّز الأشياء.
عاد.. عاد وهو يحمل رأس أحد فرسان الاُمويّة المدعو بكر بن غانم الذي تحدّى عليّاً وصمم على قتله بقوله: لأثكلن أباه. لكن علي الأكبر تلقّاه فبارزه حتّى صرعه وأرداه، وحمل رأسه وهو يحس بالجهد الشديد الوطأة، فوصل المخيم الحسيني وقد رمى بالرأس وهو يردد:
صيدُ الملوكِ أرانبٌ وثعالبُ | وإذا برزت فصيديَ الأبطالُ |
هذا ما جاء في رواية، بينما أجمعت الروايات حول عودته المؤقّتة على جفاف حشاشته، ويبوسة فمه، وذبول شفتيه، حتّى بلغ لسانه أقصى حدود الذبول بعظم الظمأ الذي ناله.
فهل كان متيقناً أو معتقداً حصوله على جرعة ماء يطفي بها لهيب العطش؟ فحن نقرأ له كونه طلب من أبيه شربة من الماء: يا أبه، العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة من الماء سبيل أتقوى بها على الأعداء(١) ؟
فترقرقت واغرورقت عينا أبيه.
وأي سبيل هذا يا سيدي، أم كيف؟! ليت شعري! أومَا يرى عليٌّ حال أهله وذويه، ويبوس حتّى شفتي أبيه، وإنّ فاقد الشيء لا يعطيه؟!
وكأني به يجيب فيقول: أجل، وهو كذلك، فأنا أدرى بسر الحال، ولكن الأمل.. إنه الأمل في إطفاء غائلة الظمأ.
إنّه يعلم جيداً، بيد أنّ أمله كان قويّاً، وأراد أن يقتنع أو يقنع نفسه فقط؛ فهي حالة نفسيّة ألحّت عليه بالعودة، وإلاّ فالماء غير موجود،( إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قضاها ) (٢) .
وهذا الحدّ الأدنى من أمل الارتواء النسبي لم يتحقق؛ ولذا دمعت عينا أبيه الحسين (عليه السّلام)، ولا أدري كيف دمعت وسالت الدموع حينما أجاب الأب العطشان ولده بقوله:(( وا غوثاه! ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسِه شربة لا تظمأ بعدها أبداً )) .
____________________
(١) الفتوح ٥ / ٢٠٩، مقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي ٢ / ٣٠ - ٣١.
(٢) سورة يوسف / ٦٨.