الفصل الثامن
الشهيد
ما إن تناهى إلى مسامع أبيه الحسين (عليه السّلام) صوتُ حبيبه وسلامُ ريحانته حتّى طفق نحو الساحة معتلياً جواده، كأنه في سرعته طائر ينقضّ من علو الفضاء. ولكن بأي حال وجده، أم بأي وضعية رآه! لقد وجده جسداً ممزّقاً، مبعثر الأشلاء، متناثر الأعضاء، تتدلى بعضُ أوصاله من جانبي جواده الذي كساه الدم الزاكي حلة حمراء، هكذا تركوه!
فلم يتركوه إلاّ بعد أن مثّلوا به سريعاً؛ إذ احتوشوه من كل جهة، وما أسرع ما وضعوا سيوفهم وحرابهم وسكاكينهم ليقطّعوه تقطيعاً، ويمزّقوا جسمه تمزيقاً؛ ليشفوا غيظ صدورهم، ويرووا حقد قلوبهم ممّا أدخله عليهم من عذابٍ دنيوي هذا الشاب العطشان الشجاع الذي شكّل جيشاً يقابلهم بمفرده، وعسكراً لوحده، وأُمّة بذاته.
كان (سلام الله عليه) صلباً صابراً في البأساء، شديداً في الله، غليظاً على الأعداء؛ الأمر الذي يفسّر شوق ابن العبدي للانتقام منه، ثمّ أشواق اُولئك المرتزقة الذين آلوا إلاّ أن يشبعوا غريزة الانتقام، وكان كل منهم أراد أن يتبرّك بجسده، ويتزلف للشيطان بطعنه وغرز حربته بعضو من أعضائه الشامخة التي أذاقتهم مرّ الحياة، وحنظل المواقف العسكرية.
ولولا مجيء الإمام الحسين (عليه السّلام) لأكلوه، لأكلوا كبده وقلبه، وما يدريك؟ ولِم العجب؟! ألم تلك (آكلة الأكباد) هند الاُمويّة كبد عمّه حمزة الذي كان يجول في بطحاء الجزيرة؟! أجل لولا إسراع الحسين (عليه السّلام) لأتوا على أشلائه بأنيابهم فضلاً عن حرابهم، ولكان أثراً بعد عين، وتلك سجية الأجلاف.
وصل الإمام (عليه السّلام) إليه، وأخذ يطيل النظر إليه، ثمّ التحق به شباب هاشم، فأخذوا مواقعهم حول الجسد الصريع وهم يقرؤون آيات البطولة الرساليّة والعظمة على صفحات جسده وعظامه المهشّمة.
وهدأ جيش الأعداء بعد ضجيج دام خلال الجولتين، وسكن العسكر بعد اضطراب طويل؛ فتنفسوا الصعداء، وانشغل بعضهم بجرّ القتلى مع أوزارهم، ودفن الجثث البالية، فيما انشغل الجرحى بدمل جراحهم وأنين الشقاء يصدر منهم، بينما انشغل الباقي بتراشق التهم والعيوب، وكلّ منهم يعيّر صاحبه بالهزيمة، ويتبرأ كذباً من الهروب.