تناهى إلى مسامع الفاطميات خبرُ مصرع علي الأكبر، ووصول جثمانه الموزّع والمقطّع بالحراب والأسنّة، فكان للحادث وقعه العميق على النساء المخدّرات، وأي وقع أم أي عمق وهنّ ينظرن إلى شبيه جدهنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) محمولاً وقد فارقت روحه الطاهرة جسده الزكي! هذا الذي كنّ يجدن أسعد ما هنّ فيه ساعات اللقاء به والتحدث إليه، وإذا به قد آثر الصمت والرحيل إلى حيث لا عودة أو رجوع.
إنّه لَمصاب جليل على أُمّه، أخواته، عماته، وأعظمهن مصاباً عمّته الكبرى عقيلة بني هاشم، حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) الحوراء زينب (عليها السّلام)؛ إذ التاعت ألماً، وازدادت أسىً وتفجّعاً، وقيل: إنّها خرجت تندبه وتنادي باسمه.
فعن أبي جعفر الطبري، عن شاهد عيان - حميد بن مسلم الأزدي - جاء هذا القول: وكأني انظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة، تنادي يا: أُخيّاه! ويابن أخاه! قال: فسألت عنها، فقيل لي: هذه زينب ابنة فاطمة ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(١) .
زينب التي إذا خرجت هرعت خلفها النساء من داخل خدورهنّ وخيامهنّ، وإذا قالت قلن معها، وإذا سكتت سكتن، وإن عادت عُدن؛ اقتداءً بها، ومواساةً لها، وهكذا بدأ رثاء المجاهد الكبير الشهيد العظيم.
ولمّا كان موكب النسوة يولّد موقفاً سلبياً؛ لأنه سيُشمت الأعداء، ويسرهم ويبهجهم، ولمّا كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) شديد الحرص على ألاّ يدخل السرور على الأعداء، وألاّ يشمتوا بأهل الحق، فقد رأى أن ترجع جميع النساء فوراً، ولكن من يستطيع إرجاعهنّ، أو يقدر أن يسيطر على موقف العواطف المتدفقة ساعات الأسى العميق واللوعة الكبيرة؟!
فمن الصعب أن يصغين لدعوة الرجوع من أحد سوى الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي وجد في شقيقته الحوراء زينب أوّل من ينبغي أن تعود؛ لأنّ الباقيات الصالحات سيتبعنها بالتأكيد. فأخذ الإمام (عليه السّلام) بيدها وأرجعها إلى الخيمة(٢) .
ورجعن جميعهن إلى خيامهن كسرب طيور تؤوب إلى أوكارها، رجعن كيلا يشمتن الأعداء، فلم يظهر منهنّ صوت حزن عالياً، لا سيما ولهنّ فيما بعد أوقات طويلة للبكاء والنحيب، يروّحن بها عن أنفسهن، وجراح صدورهن، وتصدعات قلوبهن، وهو ما أشار إليه الإمام (عليه السّلام) ورجاهنّ الصبر:(( أن اسكتن؛ فإنّ البكاء أمامكن )) .