ثم مضى صلوات الله عليه، فانتبهت فزعاً إلى الدُّعاء والبكاء والبث والشكوى إلى وقت طلوع الفجر، فلمّا أصبحت ابتدأت في تأليف هذا الكتاب ممتثلا لامر ولي الله وحجّته، مستعيناً بالله ومتوكّلا عليه ومستغفراً من التقصير، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
اما بعد فانَّ الله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: «وإذ قال ربّك للملئكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة - الاية »(٢) فبدأ عزّ وجلّ بالخليفة قبل الخليقة، فدلَّ ذلك على أنَّ الحكمة في الخليفة أبلغ من الحكمة في الخليقة، فلذلك ابتدأ به لانّه سبحانه حكيم، والحكيم من يبدء بالاهمِّ دون الأعمِّ، وذلك تصديق قول الصادق جعفر بن محمّدعليهماالسلام حيث يقول: « الحجّة قبل الخلق، ومع الخلق، وبعد الخلق » ولو خلق الله عزّ وجلّ الخليقة خلوا من الخليفة لكان قد عرضهم للتلّف، ولم يردع السّفيه عن سفهه بالنوع الذي توجب حكمته من اقامة الحدود وتقويم المفسد. واللّحظة الواحدة لا تسوغ الحكمة ضرب صفح عنها(٣) ، إنّ الحكمة تعمُّ كما أن الطاعة تعمُّ، ومن زعم أن الدنيا تخلو ساعة من إمام لزمه أن يصحح مذهب البراهمة في إبطالهم الرسالة، ولو لا أنَّ القرآن نزل بأنَّ محمداًصلىاللهعليهوآلهوسلم خاتم الانبياء لوجب كون رسول في كلَّ وقت، فلمّا صح ذلك لارتفع معنى كون الرَّسول بعده وبقيت الصورة المستدعية للخليفة في العقل، وذلك أنَّ الله تقدس ذكره لا يدعو إلى سبب إلّا بعد أن يصور في العقول حقائقه، وإذا لم يصوّر ذلك لم تتّسق الدعوة ولم تثبت الحجّة، وذلك أنَّ الاشياء تألف أشكالها، وتنبو عن أضدادها. فلو كان في العقل إنكار الرُّسل لما بعث الله عزّ وجلّ نبيّاً قط.
مثال ذلك الطبيب يعالج المريض بما يوافق طباعه، ولو عالجه بدواء يخالف طباعه أدّى ذلك ألى تلفه، فثبت أن الله أحكم الحاكمين لا يدعو إلى سبب إلّا وله في
__________________
(١) العنوان هنا وما يأتي في المقدمة منا أضفناها تسهيلا للباحثين.
(٢) البقرة: ٣٠.
(٣) يعنى عن اقامة الحدود.