التاريخ الصحيح
لا يكون إنبعاث أيّة فِرقة من الفِرق إلى تدوين التاريخ، أقلّ من إنبعاث أخواتها إليه، فكلٌ يتحرّى منه غاية؛ ويرمي إلى غرض يخصّه، فإن كان المؤرّخ يريد به الحيطة بحوادث الدهر، والوقوف على أحوال الأجيال الغابرة، فالجغرافيّ يطلبه لتحقيق القسم السياسيّ به لاختلافه بتغلّبات الدول، وانعكاف أُمم على خطط معيّنة وانثيال أُمم عنها.
وإن إنبعث الخطيب إلى سبر غور التاريخ لما فيه من عِبَر وعِظات بالغة في تدهور الأحوال، وفناء الأجيال وهلاك ملوك، واستخلاف آخرين، وما انتاب أقواماً من جرّاء ما اجترحوه من السيَّئات، وما فاز به آخرون بما جاؤا به من صالح الأعمال؛ فالدينيّ يبتغيه لِلوقوف على ما وطّد به اُسس المعتقد؛ وعلّى عليها صروحه وعلاليه، وإفرازه عمّا كان حوله من لعب الأهواء وتركاض أهل المطامع.
وإذا كان الأخلاقيّ يقصد به التجاريب الصالحة في ملكات النفوس التي تحلّى بالصحيحة منها فِرقٌ من الناس فأفلحوا، وتردّى بالرديئة منها آخرون فخابوا، فيستنتج من ذلك دستوراً عامّاً للمجتمع ليعمل به متى راقه أن يأخذ حذراً عن سقوط الفرد أو ملاشاة الجامعة، فالسياسيّ يريد به الوقوف على مناهج الأُمم التي تقدَّم بها الغابرون، ومساقط الشهوات التي أسفّت بمعتنقيها إلى هُوّة البوار والضعة فغادرتهم كحديث أمس الدابر، ويريد به البصيرة فيما سلفت به التجاريب الصحيحة في المضائق والمآزق الحرجة، وافتراع عقبات كأداء، فيتّخذ من ذلك كله برنامجاً صالحاً لرقيّ أُمّته، وتقدّم بيئته.
والأديب يقتنص شوارد التاريخ؛ لأنّ ما يتحرّاه من تنسيق لفظه، وفخامة معناه، وما يجب أن يكون في شعره أو نثره من محسَّنات الأسلوب، ومقرّبات المغزى بإشارة أو إستعارة، منوطٌ بالإطلاع على أحوال الأُمم والوقوف على ما قصدوه من دقائق ورقائق.
وإذا عمَّمنا التاريخ على مثل علم الرجال والطبقات، فحاجة الفقيه إليه مسيسةٌ في تصحيح الأسانيد، وإتقان مدارك الفتاوى، وبه يظهر إفتقار المحدّث إليه في مزيد الوثوق برواياته، على أنّ لِفنَّ الحديث مواضيع متداخلة مع التاريخ كما يُروى من قصص الأنبياء وتحليل تعاليمهم، حيث يجب على المحدّث المحاكمة بين ما يتلقّاه! و