نعرات الجاهلية الأولى
( إِنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ
الْهُدَى الشّيْطَانُ سَوّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ )
ربما يجد الباحث في بعض تآليف المستشرقين في التاريخ الإسلامي رمزاً من النزاهة في الكتابة والأمانة في النقل وخلوَّ كلِّ محكيٍّ عن أيِّ مصدر (هبه غير وثيق) من التحريف والتصرُّف فيه، وتجرُّده عن سوء صنيع الكتبة، وبعده من الإستهتار، وهذا جمال كلّ تأليف وشأن كلّ مؤلِّف مهما كان شريف النفس، وهو حقُّ كلِّ رائد، و الرائد لا يكذب أهله.
غير أنَّ في القوم من ألّف وسخف فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذا كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. فكأنَّ الجهل لم يمت بعدُ وقد مات أبو جهل، ولهب الضلال لم يخمد بعدُ وقد اتَّقد أبو لهب في درك الجحيم، وكأنَّ الدنيا ترجع إلى ورائها القهقري، وعاد الإسلام كشمس كادت تكون صلاءً(١)
جاء من القوم بعد لأي مِن الدهر مَن يدعو الناس إلى الجاهليَّة الأولى وإلى حميَّتها البائدة، ولا بُقيا للحميَّة بعد الحرائم(٢) نهض يبشِّر عن مسيح مركَّب من طبيعتين: (إلهيَّة وبشريَّة) ويحسب نفسه قد أبهر في تأليفه وأتى بأمر جديد، فأخذ كالمتفلسف يتتعتع ويتلعثم، ويحرِّف الكلم عن مواضعه، ويُؤوِّل الكتاب الكريم برأيه الضئيل، ويتحكَّم في الحديث بفكرته الخائرة، ويرى النبيَّ الأعظم من المبشِّرين بنصرانيَّته الصحيحة التي ليست هي إلّا الضَّلال المحض، وهو مع ذلك مائنٌ في نقله، خائنٌ في حكايته، غاشٌّ في نصحه، مدنِّسٌ في كتابته، مهاجمٌ على قدس صاحب الرِّسالة
_____________________
١ - مثل يضرب في قلة الانتفاع بالشيء
٢ - الحريمة ما فات من كل مطموع فيه.