4%

هجاؤه

أخرج القرن الرابع شعراء هجّائين قد اتَّخذ كلُّ واحدٍ منهم طريقة خاصَّةً من فنون الهجاء، وكلُّ فنّ مع هذه نوعٌ فذُّ في الهجاء، يظهر ميزه متى قرن بالآخر و منهم مُكثرٌ و منهم من استقلَّ، وشاعرنا من الفرقة الثانية، وله فنُّ خاصُّ من الهجاء كان يختاره ويلتزم به في شعره.

ولعلّك تجده في فنِّه المختار مجلوب خلايقه الحسنة، ونفسيّاته الكريمة، وملكاته الفاضلة، فكأنّه قد خمرت بها فطرته، ومزجت بها طينته، أو جرت منه الدم، واستولت على روحه، وحكمت في كلِّ جارحةٍ منه، حتّى ظهرت آياتها في هجاؤه النادر الشاذّ، فيخيَّل إليك مهما يهجو أنَّه واعظٌ بارُّ يخطب، أو نصوحٌ يُودِّد و يُعاتب، أو مجادلٌ دون حقِّه يُجامل، لا أنَّه يغمز ويعيب، ويغيظ في الوقيعة ويُناضل، ويثور ويثأر لنفسه، وتجده قد اتَّخذ الهجاء شكَّة دفاع له لا شكَّة هجوم، وترى كلَّ هجاؤه خليّاً عن لهجةٍ حادَّة، وسُبابٍ مُقذع، عارياً عن قبيح المقال وخبث الكلام، بعيداً عن هتك مهجوِّه، ونسبته إلى كلِّ فاحشة، وقذفه بكلِّ سيِّئة، غير مُستبيح إيذاء مُهجوِّه، ولا مُستحلّ حرمته، ولا مجوِّز عليه الكذب والتهمة، خلاف ما جرت العادة بين كثير من اُدباء العصور المتقادمة، فعليك النظر إلى قوله في بعض إبناء رؤساء عصره وقد أنفذ إليه كتابا فلم يجبه عنه:

هاقد كتبتُ فما رددتَ جوابي

و رجَّعتَ مختوماً عليَّ كتابي

وأتى رسولاً مستكيناً يشتكي

ذلَّ الحجاب ونخوة البوّابِ

وكأنّني بك قد كتبت معذِّراً

وظلمتني بملامةٍ وعتابِ

فارجع إلى الإنصاف و أعلم أنَّه

أولى بذي الآداب والأحسابِ

يا رحمة الله التي قد أصبحت

دون الأنام عليَّ سوط عذابِ

بأبي و اُمّي أنت من مستجمع

تيه القيان ورقَّة الكتّابِ

وقوله الآخر في هجاء جماعة من الرؤساء:

عدمت رئاسة قوم شقوا

شباباً ونالوا الغنى حين شابوا

حديثٌ بنعمتهم عهدهم

فليس لهم في المعالي نصابُ