أهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم

أهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم

 

د. نعمان جغيم

تدل صيغ العموم على مدلولاتها من طريقين: أحدهما أصل وضعها على الاطلاق، أي المدلول الذي وضعت له أصالة في وضع اللسان، فمثلاً لفظ (الناس) في أصل وضعه يعمّ كلّ مَن يتصف بصفة الإنسية، ولفظ (الدابة) يدلّ بأصل وضعه على كل ما يدب على الأرض. والثاني باعتبار الاستعمال، أي باعتبار ما قصد إليه المتكلم من معنى، أو بما شاع في عُرف أهل اللغة من استعمال اللفظ فيه، وإن كان مخالفاً لأصل الوضع اللغوي.

فإذا ورد لفظ عام في الخطاب تردد بين كونه مقصوداً به أصل الوضع اللغوي، وكونه يَحمِل دلالة خاصة قصدها المتكلم أو جرى بها العرف اللغوي، ويكون الحكم في توجيه اللفظ إلى المقصود منه لمقتضى الحال، أي ما يحف بالخطاب من قرائن. وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: (وبيان ذلك هنا أن العرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه، مما يدل عليه معنى الكلام خاصة، دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي؛ كما أنها أيضاً تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع. وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال؛ فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره، وهو لا يريد نفسه ولا يريد انه داخل في مقتضى العموم، وكذلك قد يقصد بالعموم صنفاً مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع، دون غيره من الأصناف، كما أنه قد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم ومراده من ذكر البعض الجميع .. فالحاصل أن العموم إنما يُعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان).

وانطلاقاً من الاعتبار الاستعمالي لصيغ العموم ذهب الشاطبي إلى أن ما اعتبره جمهور الأصوليين من تخصيص العام بالمخصصات المنفصلة مثل العقل والحس وغيرهما لا يُعد في الحقيقة تخصيصاً لأن ذلك العام هو من العام الذي أريد به الخصوص، أي أن الشارع قاصد به معنى خاصاً لا معناه في أصل الوضع اللغوي، وذكر أن القاعدة في اللغة أنه إذا تعارض الوضعان الاستعمالي والقياسي كان الرجحان للوضع الاستعمالي.

والعرب قد تخاطب بالعام وتريد به الخاص، ومن أمثلة ذلك لفظ (الناس) فهو في أصل الوضع اللغوي عام يستغرق جميع ما يصلح له، فيكون شاملاً لجميع البشر، ولكن العرب تطلق لفظ الناس وتعني به بعض الناس، والذي يحدد المقصود منه هو السياق والقرائن الأخرى.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) آل عمران/ 173. فكلمة (الناس) في قوله: (الذين قال لهم الناس) ليست على عمومها، بل المقصود بها واحد فقط، هو نعيم بن مسعود، وقيل غير ذلك، وكلمة (الناس) في قوله: (إن الناس قد جمعوا لكم) ليست على عمومها، وإنما المقصود بها أبو سفيان ومَن خرج معه من الكفار لقتال المسلمين في غزوة أحد فقط.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) البقرة/ 199، فقد قيل إن المراد بالناس هنا إبراهيم (ع).

وقد اختلف الأصوليون في العام الذي سيق لغرض هل يعمّ كل ما يصلح له؟ أم أنه يخص ما سيق له فقط، ولا يدخل فيه غيره إلا بدليل آخر؟ ومثال ذلك قوله (ص): (فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) فإنه سيق لبيان المقدار الواجب في إخراج الزكاة لا لبيان الواجب فيه، فهل يستدل به على ما سيق له فقط فلا يكون حجة في إيجاب الزكاة في كل ما سقت السماء؟ أم أنه يكون عاماً في كل ما يصلح له فيستدل به على وجوب الزكاة في الخَضراوات، كما ذهب إليه الحنفية؟

ومن أمثلة ذلك الاستدلال على تحديد وقت صلاة الظهر، فقد استدل الحنفية بقول أهل الكتاب: (نحن أكثر عملاً وأقل عطاء) في حديث البخاري عن عبدالله بن عمر بن الخطاب (رض) أن رسول الله (ص) قال: (إنما مثلكم واليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال: مَن يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود على قيراط قيراط ثم عملت النصارى على قيراط قيراط ثم أنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغارب الشمس على قيراطين قيراطين فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل عطاء، قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا. فقال: فذلك فضلي أوتيه مَن أشاء). على كون وقت الظهر أطول من وقت العصر. واعترض عليهم الجمهور بأن سياق الحديث لم يكن لبيان أوقات الصلوات، وإنما لبيان فضل هذه الأمة على سائر الأمم فيضعف ما تقتضيه إشارة النص من كون وقت الظهر أطول من وقت العصر، خاصة وأنه قد وردت أحاديث أخرى في سياق بيان أوقات الصلوات تدل على خلاف ذلك، فيكون الأخذ بها أولى لأنها سيقت لخصوص ذلك، فهي أقوى.

ومنها قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة/ 34، فإنه لما سيق للوعيد على ترك الزكاة، لم يصح الاحتجاج به على وجوب الزكاة في قليل الذهب والفضة وكثيرهما.

ومن هنا يتبين أن العموم يمكن أن يُخصص بالقرائن والسياق، لأنه بالسياق يقع تبيين المجملات، وتعيين المحتملات. ومن باب تخصيص العام بالسياق اللغوي تخصيصه بالاستثناء، والشرط، والغاية، والصفة.