تعرْيف التعَارضْ

تعرْيف التعَارضْ

 محمود الهاشمي

التعارض لغة:

التعارض، لغة من (العرض) وهو ذو معانٍ عديدة. والظاهر أن المعنى الملحوظ من بينها في هذه الصياغة هو العرض بمعنى جعل الشيء حذاء الشيء الآخر وفي قباله، والعرضية بهذا المعنى كما قد تكون بملاك التماثل والمباراة بين الشيئين، فيقال عارض فلان شعر المتنبي، بمعنى أنشد مثله، كذلك قد تكون بملاك التناقض والتكاذب بين شيئين، فإنه أيضاً نحو تقابل ومباراة بينهما يجعل أحدهما في عرض الآخر. فبهذه المناسبة وعلى أساس هذا الاعتبار سمي الكلامان المتكاذبان بالمتعارضين.

التعارض اصطلاحاً:

لقد نسب الشيخ الأنصاري ـ قده ـ للمشهور تعريف التعارض بأنه "تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد" ولكن المحقق الخراساني عدل عن ذلك إلى تعريف آخر، فذكر أنه "تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات، على وجه التناقض أو التضاد" مبرراً هذا العدول: بمحاولة إخراج موارد الجمع العرفي عن نطاق التعريف، إذ التنافي بين المدلولين ثابت في موارد الجمع العرفي أيضاً فيشمله تعريف المشهور بينما لا يشمله التعريف الآخر، لعدم التنافي بحسب الدلالة مع وجود الجمع العرفي.

وقد انتصرت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ لتعريف المشهور، مؤكدة عدم شموله لموارد الجمع العرفي، لعدم التنافي بين المدلولين في هذه الموارد.

وقد أوضح ذلك السيد الصدر بأن الدليلين إذا كانت نسبة أحدهما إلى الآخر قابلة للجمع العرفي، بأن كانت نسبة التخصص أو الورود أو الحكومة أو التخصيص فلا يوجد أي تناف بين مدلوليلهما، ويخرجان عن التعارض.

"أما التخصّص، فخروجه ـ عن التعارض ـ واضح. فإن التخصّص هو خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الآخر بالوجدان، فلا مجال لتوهم التنافي بين الدليلين أصلاً. فإذا دل دليل على حرمة الخمر مثلاً لا مجال لتوهم التنافي بينه وبين ما دل على حلية الماء، إذ الماء خارج عن موضوع الخمر بالوجدان.

وأما الورود، فإنه أيضاً رفع أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر تكويناً، غاية الأمر: أن هذا الرفع يتم بواسطة التعبد الشرعي، فإنه بالتعبد الشرعي يتحقق أمران، أحدهما: تعبدي، وهو ثبوت المتعبد به، والآخر: وجداني وهو ثبوت نفس التعبد، فإنه عند قيام الأمارة في موارد الأصول العقلية يرتفع موضوع الأصل العقلي وجداناً، ولكن بواسطة التعبد، لأن موضوع الأصل العقلي هو عدم البيان ولو بالحجة التعبدية فثبوت التعبد بنفسه يكون بياناً، فيرفع موضوع الأصل العقلي، فلا منافاة بينهما.

وأما الحكومة، فالوجه في خروجها عن التعارض: هو أن الحكومة على قسمين. الأول: ما يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحاً للمراد من الدليل الآخر، إما لورود أداة التفسير فيه مثل (أي) و(أعني)، أو لصيرورة الدليل الحاكم لغواً عند فرض عدم وجود الدليل المحكوم، كما في قوله (ع) "ولا ربا بينَ الوَالدِ وَوَلَدِهِ" الشارح لعقد الوضع في دليل حرمة الربا، فيكون نافياً للحكم بلسان نفي الموضوع أو قوله (ع): "لا ضَرَر ولا ضرار" وقوله تعالى" (مَا جَعَلَ عَليكم في الدّين مِنْ حَرَجٍ) الشارح لعقد الحمل في الأدلة المثبتة للتكاليف بعمومها في موارد الضرر والحرج، وبيان أن المراد ثبوتها في غير موارد الضرر والحرج.

الثاني: ما يكون أحد الدليلين رافعاً بمدلوله لموضوع الحكم في الدليل الآخر وإن لم يكن بمدلوله اللفظي شارحاً له، وذلك: كحكومة الأمارات على الأصول الشرعية، فإن الامارات لا تكون شارحة للأصول فإن جعل الإمارة لا يكون لغواً لو لم يكن الأصل مجعولاً، ولكن الأمارة تكون موجبة لارتفاع موضوع الأصل بالتعبد الشرعي، ولا تنافي بينهما ليدخل في التعارض.

والوجه في ذلك: أن الدليل المحكوم متكفل لبيان حكمه ولا يكون متكفلاً لتحقق موضوعه بل مفاده قضية شرطية، وأما الدليل الحاكم، فهو يتصدى لبيان انتفاء الشرط ولا تنافي بين القضية الشرطية التي تدل على ثبوت التالي عند ثبوت الشرط وبين القضية الدالة على انتفاء الشرط، لأن القضية الشرطية لا تتكفل بيان تحقق الشرط. ففي الأصل والأمارة يكون الموضوع المأخوذ في أدلة الأصول هو الشك، وأما أن المكلف شاك أو غير شك فهو خارج عن مفادها، والأمارة ترفع الشك بالتعبد الشرعي فلا يبقى موضوع للأصل.

وظهر بما ذكرناه: أن الدليل الحاكم يتقدم على المحكوم ولو كان بينهما عموم من وجه، لارتفاع موضوع المحكوم في مادة الاجتماع بلا فرق بين كون الحاكم أقوى دلالة من المحكوم أو أضعف.

وأما التخصيص: فالوجه في خروجه عن التعارض هو أن حجية العام ـ بل حجية كل دليل ـ تتوقف على أمور ثلاثة: صدوره عن المعصوم، وكون ظاهره مراداً للمتكلم، وأن إرادته له جدية. ومن المعلوم أن بناء العقلاء على العمل بالظواهر إنما هو في مقام الشك في المراد الاستعمالي أو المراد الجدي دون فرض العلم بإرادته خلاف الظاهر. فلا يمكن الأخذ بالظهور مع قيام القرينة على الخلاف، بلا فرق بين كونها متصلة أو منفصلة، غايته أن القرينة المتصلة تمنع عن انعقاد الظهور من أول الأمر، دون القرينة المنفصلة فإنها تكشف عن كونه غير مراد للمتكلم.

وأيضاً، لا فرق بين القرينة القطعية والقرينة الظنية، كالخبر فإنه قرينة قطعية غير وجدانية بل قرينة تعبدية، غايته: أن القرينة القطعية مقدمة على الظهور بالورود، لارتفاع موضوع حجيته وجداناً، إذ لا يبقى معها شك في المراد، بخلاف القرينة الظنية فإنها مقدمة بالحكومة لارتفاع موضوع حجيته بالتعبد الشرعي.

فالدليل الخاص وإن كان مخصصاً بالنسبة إلى الدليل العام لكنه حاكم بالنسبة إلى دليل حجية العام، لأنه يرفع الشك في المراد من العام تعبداً، فمرجع التخصيص إلى الحكومة بالنسبة إلى دليل الحجية فلا منافاة بينهما.

كما أن مرجع الحكومة إلى التخصيص فإن مفاد قوله (ع) ( لا ربا بين الوَالد وَوَلَدِه) هو نفي حرمة الربا بينهما، وإن كان بلسان نفي الموضوع، فهو تخصيص بالنسبة إلى الأدلة الدالة على حرمة الربا عموماً. لكنه تخصيص بلسان الحكومة.

فتحصل، مما ذكرنا: أن الخاص يقدم على العام من باب الحكومة بالنسبة إلى دليل حجية العام، وإن كان تخصيصاً بالنسبة إلى نفس العام. وهذا هو الفارق بين التخصيص والحكومة المصطلحة فإن الدليل الحاكم حاكم على نفس الدليل المحكوم في الحكومة الاصطلاحية، بخلاف التخصيص إذ والخاص ليس حاكماً على نفس العام بل حاكم على دليل حجيته.

ولابد من تمحيص الآراء الثلاثة السابقة للتعارض:

أما فيما يتعلق بالأمر الأول، فالصحيح هو أن التنافي في موارد الجمع العرفي كما يوجد كذلك بين المدلولين يوجد كذلك بين الدلالتين، سواء كان المراد من الدلالة الظهور أو الحجية. أما التنافي بحسب الظهور، فلأن الدليل المنفصل لا يرفع الظهور فيبقى بين الدليلين المنفصلين في موارد الجمع العرفي محفوظاً.

وأما التنافي بحسب الحجية فلأن حجية العام مع حجية ظهور الخاص لا محالة متنافيتان. نعم، لو أريد من التنافي بحسب الدلالة ما سوف نشير إليه من التنافي بحسب اقتضائي دليل الحجية لشمولهما، فلا يكون تنافٍ في موارد الجمع العرفي، لأن اقتضاء دليل الحجية لشمول العام معلق على عدم مجيء الخاص. غير أن هذا ليس مقصوداً للمحقق الخراساني ـ قده ـ بقرينة أنه يرى التعارض هو التنافي بين الدلالتين على وجه التناقض أو التضاد ومن الواضح أن التنافي بين اقتضائي دليل الحجية يكون بنحو التضاد دائماً، لأن حجية كل من المتعارضين أمر وجودي مضاد لحجية الآخر.

وأما الأمر الثاني الذي يرتبط بمدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ ففيما أفيد فيها بالنسبة إلى الحكومة يرد عليه.

أولاً ـ ثبوت التنافي بين مدلولي الدليلين في موارد الحكومة بجميع أقسامه، وما ذكره السيد الصدر من أن المحكوم لا نظر له إلى موضوعه فلا يتنافى مع مدلول الحاكم النافي لموضوع المحكوم، غير تام. ومنه يعرف أن محاولة إرجاع التخصيص إلى الحكومة لو صحت فهي لا تجدي في رفع التنافي بين المدلولين أيضاً.

ثانياً ـ أن عدم التنافي بين المدلولين في موارد الحكومة إن تم فإنما يتم في موارد الحكومة التي تتحقق بملاك رفع الدليل الحاكم لموضوع المحكوم، وأما في موارد الحكومة المتحققة بملاك النظر في الدليل الحاكم إلى عقد الحمل من الدليل المحكوم محضاً دون تصرف في موضوعه، كما في حكومة (لا ضرر) على أدلة الأحكام الواقعية، فلا يتم ما ذكر لنفي التعارض بين المدلولين، لوضوح أن مفاد الحاكم والمحكوم في تلك الموارد ثابتان في عرض واحد، فيتنافيان لانحفاظ الموضوع فيهما معاً مع تنافي محموليهما.

وفيما أفاده بالنسبة إلى التخصيص يرد عليه:

أن الكلام في وجود تنافٍ بين المدلولين وعدمه إنما هو في مدلولي الدليلين الذين يتحقق الجمع العرفي بينهما، فما هو محط الجمع العرفي هو محط البحث أيضاً في تنافي المدلولين وعدمه، وفي موارد التخصيص يوجد عندنا أنحاء ثلاثة من التقابل. أحدها: التقابل بين دليل الخاص ودليل حجية العام. الثاني: التقابل بين دليل حجية الخاص ودليل حجية العام. الثالث: التقابل بين نفس الدليل الخاص والدليل العام. أما التقابل الأول، فلا تنافي فيه أصلاً، إذ لا تعارض ولو بنحو غير مستقر بين دليل الخاص ودليل حجية العام، لأن مفاد الأول حكم واقعي ومفاد الثاني حكم ظاهري، ولا مانع من اجتماع هذين الحكمين معاً ثبوتاً، بأن يكون الحكم الواقعي على طبق الخاص، ويكون ظهور العام حجة أيضاً.

وأما التقابل الثاني، فيقدم فيه دليل حجية ظهور الخاص على دليل حجية ظهور العام بالورود، باعتبار أن دليل حجية العام يقيد بعدم قيام الخاص على خلافه، وبشمول دليل الحجية لظهور الخاص يرتفع هذا الموضوع وجداناً.

وأما التقابل الثالث، فيقدم الخاص على العام بالتخصيص الذي هو علاج عرفي لتعارض غير مستقر بين الخاص والعام، حيث يفترض العرف أن للمتكلم في مقام تحديد مراده أن يعتمد على القرائن المنفصلة أيضاً، وهذا بنفسه السبب والمبرر للحل المتقدم في التقابل بين دليل حجية الخاص ودليل حجية العام.

وفي ضوء هذا التحليل يتضح أمران.

الأول ـ أن محط الجمع العرفي إنما هو التقابل الثالث الذي يكون بين الدليل الخاص والدليل العام نفسيهما، فإن أراد السيد الصدر من إنكار التنافي بين المدلولين في موارد التخصيص دعوى: أن الجمع العرفي في هذه الموارد يتمثل في التقابل بين دليل حجية العام والخاص. ففيه: أن حل هذا التقابل بالورود أو الحكومة إنما يكون في طول جمع عرفي أسبق رتبة يحل به التقابل بين نفس العام والخاص، فإنه لو لم نفرض ملاكاً يقتضي تقديم الخاص على العام في تلك المرتبة، لم تكن نكتة للتقديم المذكور. ومجرد ما ذكر من أن حجية العام مقيدة بعدم العلم بالخلاف والخاص بعد حجيته علم تعبدي بالخلاف، لا يكفي مبرراً لذلك التقديم، إذ ليس ذلك بأولى من العكس فكما يمكن أن يقال: إن حجية ظهور العام في العموم موضوعها الشك والخاص الحجة يرفع هذا الشك، كذلك يمكن أن يقال: إن حجية ظهور الخاص موضوعها الشك والعام يرفعه، فلابد وأن نفترض في المرتبة السابقة سبباً لتقديم الخاص على العام، وهو نفس الجمع العرفي بينهما.

وإن أراد بذلك: إنكار التنافي بين مدلولي الدليلين في ذلك الجمع العرفي الأسبق رتبة. فهذا واضح البطلان، لأن هذا الجمع العرفي إنما هو بين نفس العام والخاص والتنافي بين مدلوليهما ظاهر.

الثاني ـ أن ما جاء في التقرير من جعل التعارض بين دليل الخاص ودليل حجية العام وكونه من الحكومة لا يخلو من تشويش والتباس، فإن دليل الخاص لو لوحظ بنفسه مع دليل حجية العام فلا تعارض بينهما حتى بنحو غير مستقر، لما تقدم من إمكان صدق مضمونهما معاً. وإنما التعارض بين مدلولي الخاص والعام من جهة، وبين دليل حجية الخاص ودليل حجية العام من جهة أخرى. والأول يحل بالجمع العرفي الذي يعين المراد من العام على طبق الخاص، والثاني يحل بورود حجية الخاص على حجية العام.

وأما الأمر الثالث، الذي يرتبط بتعريف التعارض فالواقع أننا يجب أن نعرف ماذا نقصد من وراء تعريف التعارض لنصوغه بالطريقة التي تفي بمقصودنا، لأننا في حالات التعارض بين الدليلين نواجه عدة أسئلة.

الأول ـ أن هذا التعارض هل هو مستحكم بنحو يسري إلى دليل الحجية، فيكون اقتضاء دليل الحجية الشمول لأحدهما منافياً فعلاً لاقتضائه شمول الآخر، أو أن هذا التعارض بين الدليلين في مرحلة دلالتهما أو مدلوليهما لا يسري إلى دليل الحجية، بل يحل في هذه المرحلة. وهو ما يسمى بالجمع العرفي؟

الثاني ـ أن هذا التعارض إذا كان مستحكماً وسارياً إلى دليل الحجية فما هو مقتضى دليل الحجية؟ التساقط أو التخيير أو الترجيح؟

الثالث ـ أن التعارض سواء كان مستحكماً أو لم يكن مستحكماً هل عولج حكمه في دليل خاص وراء دليل الحجية العام؟ وهذا هو بحث الأخبار العلاجية.

وعلى هذا الأساس يمكن القول: بأن المقصود من تعريف التعارض إذا كان التعارض المستحكم الساري إلى دليل الحجية، باعتباره موضوع البحث في السؤال الثاني الذي ينقح في مقام الجواب عنه الأصل الأولي من حيث التخيير أو التساقط، فلابد من صياغة التعريف بنحو يقتضي خروج موارد الجمع العرفي. ولكن عرفت أن تعريف المشهور ـ وكذا تعريف المحقق الخراساني قده ـ لا يفي بذلك، لأن موارد الجمع العرفي لا تخرج لا بفرض المنافاة بين المدلولين ولا بفرض المنافاة بين الدلالتين، لانحفاظهما معاً في غير الورود من أقسام الجمع العرفي. وإنما الصحيح أن يقال في تعريفه حينئذ: إن التعارض هو التنافي بين الدليلين في مرحلة شمول دليل الحجية لهما، وبهذا العنوان قد ينطبق التعارض على دليلين غير متكاذبين في الدلالة والمدلول أيضاً، كدليلين ترخيصيين غير مثبتين للّوازم مع العلم الإجمالي بانتفاء أحد الترخيصين، فإن هذين الدليلين متنافيان في مرحلة شمول دليل الحجية لهما لكنهما غير متكاذبين.

ولكن، يبقى السؤال عن الهدف الفني الذي يستهدفه الباحث وراء إخراج موارد الجمع العرفي عن موضوع بحث التعارض، مع أن علم الأصول هو العلم الذي يتعهد ببيان قواعد هذا الجمع. ويجيب عن السؤال الأول من الأسئلة الثلاثة المتقدمة، كما أن السؤال الثالث أيضاً لا يختص بغير موارد الجمع العرفي، فلا موجب لحصر التعارض المبحوث عنه هنا في خصوص ما يقع مورداً للسؤال الثاني خاصة.

وأما إذا كان المقصود من تعريف التعارض، التعارض الذي يقع مورداً للأسئلة الثلاثة جميعاً. فلابد في تعريفه بنحو يشمل موارد الجمع العرفي بأقسامه المتعددة، وحينئذ فلا يصح التعريف المشهور ـ ولا تعريف المحقق الخراساني ـ قده ـ لذلك، لأن المنافاة، سواء جعلت بين الدلالتين أو المدلولين لا تشمل الورود من أقسام الجمع العرفي، إذ لا منافاة بين الدليل الوارد والدليل المورود، لا في المدلول ولا في الدلالة.

فالصحيح، أن يقال في تعريفه: إن التعارض هو التنافي بين المدلولين ذاتاً بلحاظ مرحلة فعلية المجعول التي هي مرحلة متأخرة عن المرحلة التي يتعرض لها الدليل، حيث إن الدليل متكفل للجعل لا لفعلية المجعول، فكلما كان هناك تنافٍ بين المدلولين بلحاظ مرحلة المجعول ـ أي لم يمكن اجتماع المدلولين في عالم الفعلية معاً ولو باعتبار التنافي بين موضوعهما ـ صدق التعارض بهذا المعنى، سواء كان هذا التنافي ناشئاً من التنافي بين الجعلين أو لا، وبذلك يشمل التعريف موارد الورود أيضاً، لأن هذه الموارد لا يمكن فيها اجتماع المجعولين الفعليين وإن كان اجتماع الجعليين ممكناً، وإنما قيّدنا التنافي بين المجعولين بكونه ذاتياً، لإخراج التنافي المصطنع بينهما الناشئ من تقييد موضوع خطاب بعدم خطاب آخر. دون أن يكون ذلك على أساس التنافي الذاتي بين حكميهما مسبقاً.

وأما إذا كان المقصود من تعريف التعارض، تحديد التنافي الحقيقي بين دليلين، فسوف نجد أن تعريف المشهور وتعريف المحقق الخراساني ـ قده ـ يفي بذلك، دون الصيغة التي تفي بالمقصود الأول والصيغة التي تفي بالمقصود الثاني، وذلك لأن الصيغة التي تفي بالمقصود الأول تكون أضيق دائرة من حالات التنافي الحقيقي، لما تقدم من أن التنافي بين الدليلين بحسب المدلول والدلالة ثابت في غير الورود من أقسام الجمع العرفي، والصيغة الثانية أوسع دائرة من حالات التنافي الحقيقي، لأن عدم إمكان اجتماع المجعولين في الفعلية في موارد الورود لا يحقق تنافياً بين الدليلين، لأن المرحلة التي يتعرض لها الدليل إنما هي الجعل لا المجعول. ويكون التعارض بموجب هذه الصيغة المستفادة من تعريف المشهور غير مختص بموارد التعارض المستحكم، كما لا يكون شاملاً لقسم الورود من أقسام التعارض غير المستقر، ولا حاجة في هذه الصيغة إلى الاهتمام بإخراج موارد الجمع العرفي جميعاً، بل العكس هو الصحيح، لأن المقصود بها ضبط حالات التنافي الحقيقي بين الدليلين وهي تشمل غير الورود من أقسام التعارض غير المستقر.

ويتخلص من ذلك كله: أن تعريف التعارض إن كان تعريفاً لمعنى مصطلح بالمسألة مسألة اختيار تبعاً للحاجة الفنية التي من أجلها وضع الاصطلاح ولهذا فالأنسب بهذه الحاجة هو الصيغة الثانية التي تستوعب الأسئلة الثلاثة التي يجب على علم الأصول معالجتها، وإن كانت الصيغة الأولى يمكن الاستفادة منها في تعريف قسم من التعارض يقع موضوعاً للبحث الأصولي. وإن كان تعريف التعارض تعريفاً لواقع موضوعي، وهو حالات التنافي الحقيقي بين دليلين، فكل من تعريف الشيخ الأعظم وتعريف المحقق الخراساني ـ قدهما ـ يفي به، للتلازم بين تنافي المدلولين وتنافي الدلالتين.

وسوف نعبر فيما يلي عن الصيغة الثانية بالتعارض الاصطلاحي وعن الصيغة الثالثة بالتعارض الحقيقي.

--------------------------------

المصدر : تعارض الادلة الشرعية عن تقريرات السيد محمد باقر الصدر