شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

فاطمة الزهراء و ترفى غمد

0 المشاركات 00.0 / 5
المقدمه
بقلم: الحجه المجاهد السيد موسى الصدر

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

فاطمة الزهراء:
ان اللَّه ليغضب لغضب فاطمة، و يرضى لرضاها. فاطمة بضعة منى، من آذاها فقد آذانى، و من احبها فقد احبنى. فاطمة قلبى و روحى التى بين جنبى. فاطمة سيده نساء العالمين.

هذه الشهادات و امثالها تواترت فى كتب الحديث و السيره من رسول اللَّه محمد (ص)الذى لا ينطق عن الهوى، و لا يتاثر بنسب او سبب، و لا تاخذه فى اللَّه لومه لائم.

مواقف من نبى الاسلام الذى ذاب فى دعوته، و كان للناس فيه اسوه فاصبحت خفقان قلبه، و نظرات عينيه، و لمسات يده و خطوات سعيه و اشعاعات فكره، قوله،و فعله، و تقريره، وجوده كله، اصبح تعاليم الدين واحكام اللَّه و مصابيح الهدايه و سبل النجاه.

او سمه من خاتم الرسول على صدر فاطمة الزهراء تزداد تالقا كلما مر الزمن و كلما تطورت المجتمعات و كلما لا حظنا المبدا الاساس فى الاسلام فى كلامه لها «يا فاطمة اعملى لنفسك فانى لا اغنى عنك من اللَّه شيئا.؟».

فاطمة الزهراء هذه مثال المراه التى يريدها اللَّه، و قطعه من الاسلام المجسد فى محمد، و قدوه فى حياتها للمراه المسلمه و للانسان المومن فى كل زمان، و مكان.

ان معرفه فاطمة فصل من كتاب الرساله الالهيه، و ان دراسه حياتها محاوله لفقه الاسلام، و ذخيره قيمه للانسان المعاصر.

مع المولف:
بهذا الاحساس كنت استمع الى الاستاذ الجليل و الاديب العبقرى (سليمان

كتانى) فى صومعته فى بلده (بسكنتا) و على سفح جبل صنين و هو يتلو كتابه العزيز (فاطمة الزهراء و تر فى غمد)- كنت استمع اليه و ارى امامى لوحات رائعه تكشف بوضوح جمال ذوقه وروعه فنه.

سرت معه ساعات فى دنيا فاطمة الرحبه المشرقه، فاشعر بسمو الرفعه و انعم البصر و البصيره و اعتز بعقلى و قلبى امام هذا التراث المجيد الموجه.

متعه العمر كانت هذه الساعات امام الجمال الالهى فى جلوه فاطمة المنعكسه على فكر و قلب هذا الرجل المراه الوديع.

و عدت الى مقدمه الكتاب فسمعته يتابع و يقرا: «لهذا فسوف اكتب فى فاطمة الزهراء متنكرا قدر الامكان لحرف الجر هذا- يعنى حرف «عن» الاداه المستعمله فى كتب السيره- و ساكون متنكرا للسرد ايضا، فالريشه التى فى انملى ليس عليها ان تكون مختبرا يحلل نسبه الحديد و الكبريت فى ساق زهره، اكثر مما لها ان ترسم اللون فيها و تهتز من فوح العبير».

قلت له:- و هل خصصت لعرضك الفاطمى البديع هذا بالذين عرفوا فاطمة و اطلعوا على حياتها عن طريق كتب السيره و السرد. و منعت الذين يريدون ان يطلعوا على سيرتها... هلا رسمت الطريق للوصول الى عين الشمس و نبع الحياه لكى يتمكن مجتمعنا الذى يقرا الكتاب من تربيه المراه الفاطميه و الرجل الفاطمى...

قلت له: ان هذه اللوحات الرائعه سوف تعجب و تجتذب ارواح الناس الحائره التى ضاقت بالابحاث و الاراء و التجارب عن المراه، حتى اصبحت المراه هى عقده العقد فى المجتمع القديم و الحديث، و هذا الاعجاب و الاجتذاب بدورهما يوديان الى البحث و التفتيش عن المواد التى كونت هذه اللوحات، عن الحديد و الكبريت، و عن المدخل الى هذه البيوت التى اذن اللَّه ان ترفع.

ان الباحثين الجدد فى معالم الحضاره الحديثه يسمونها حضاره الجنس و هذا

يكشف عن خطوره عقده الراى فى المراه و عن الاخطاء الكبرى التى تعانيها من جراء الخطا فى تجربه الحضاره حول المراه.

ان آراء الكتاب و علماء النفس و الماديه المتحكمه فى كل شى ء و فى المراه بالذات- قد اظلمت الدروب و اغرقتها فى الاهواء فضاع الصواب و طغت الحيره و انهارت انسانيه المراه تحت و طاه التجارب القديمه و الحديثه.

اننا نشعر اليوم اكثر من اى وقت مضى بالحاجه الى سرد موجز لحياه فاطمة الزهراء لكى نجعلها قائده، و نقتبس من فيض سيرتها. فى طريق الصلاح و الاصلاح.

قلت له هذا كله، فسمعته يقول بصوت واثق و بشعور من ادى الواجب: لقد تركت لك هذا الامر حتى تكتب فى مقدمه الكتاب و تودى هذه المهمه، فيكتمل العقد و يبلغ الكتاب النصاب.

شعرت بالاحراج الكبير امام الغايه الساميه و امام الوسيله ايضا، فقلت له كلام المقدس الامام السيد عبدالحسين شرف الدين فى تقريظ له على كتاب «الامام على صوت العداله الانسانيه» مخاطبا مولفه الاديب اللامع «اعرنى قلمك لكى اقرظ به كتابك.»

هذه كلمات من اضاءت كتبه و رسائله سماء الكتب و عالم الابحاث و الرسائل- فكيف بقلمى القاصر و ببضاعتى المزجاه...؟

و مع ذلك كله فلسوف استمد من فاطمة الزهراء فى هذه المحاوله المتواضعه و اودى الواجب قدر المستطاع سائلا المولى لى و للقارى ء الكريم توفيق الرويه الصائبه و الاقتباس.

المراه:
الحقيقه، ان اكتشاف موقف الاسلام تجاه المراه فى هذا الوقت لا يخلو من بعض الصعوبات، حيث ان هناك آثارا دينيه اسلاميه تبدو- فى بادى ء الامر- انها متفاوته و متخالفه، و زادت الصعوبه حينما اختلط بعض العادات

التى كانت و لا تزال عند بعض الشعوب الاسلاميه، اختلطت هذه العادات بالتعاليم الاسلاميه الاصيله فخيل للباحث ان جميعها من الاسلام.

و اذا لا حظنا آراء المستشرقين، حتى اصحاب النوايا الحسنه منهم، و درسنا ما كتبه بعض الكتاب المسلمين ايضا- نجد ان هذه الصعوبات الدراسيه جعلت الموقف الحقيقى الاسلامى تجاه المراه غامضا، حتى ان اكثرهم تبنوا اراء بعيده عن الحقيقه و بعضهم اعتبر المراه مظلومه فى الاسلام.

والحقيقه ان عند المسلمين نوعين من التراث الدينى، فهناك تعاليم دينيه ماثوره و عادات موروثه غير وارده فى الاثار الدينيه، و يجب الاهتمام بكل دقه بفصل احداهما عن الاخرى،. ثم ان الاثار الدينيه الاسلاميه- ايضا نوعان:

قسم يتحدث عن واقع المراه فى مرحله معينه فى التاريخ، و القسم الاخر ينحصر فى التعاليم الاساسيه الخالده.

و توضيحا لهذا الراى، الفت نظر الباحث الى مصطلح علماء المنطق و اصول الفقه حيث يفرقون فى كل خبر (حسب مصطلحهم كل قضيه) بين القضيه الحقيقيه و القضيه الخارجيه، حيث ان الاولى تبحث عن الاحكام الثابته للموضوع اينما وجد و فى كل زمان و مكان، فى حين ان الثانيه تنظر الى الموضوع القائم فى زمان صدور الحكم و تبحث عن حالته فى ذلك الوقت دون سواه.

و لا جل اكتشاف حقيقه الموقف الاسلامى تجاه المراه علينا ان نجعل من الايات القرانيه اساسا للحث عن المراه و اطارا سليما لمعرفه التعاليم الحقيقيه- لا الخارجيه- بالنسبه للمراه، و عندئذ فقط نتمكن من فصل العادات عن الاحكام و من معرفه الاحكام الثابته و تمييزها عن الاراء المرحليه.

راى القرآن فى المراه:

القرآن الكريم، على خلاف جميع الاراء الفلسفيه و المذهبيه و العادات التى كانت قبل حال نزوله، و على خلاف كثير من الاراء و العادات المتاخره- يجل المراه و يعتبرها مثل ارجل فى الحقيقه و فى الذات

[ و من آياته: (ان خلق لكم من انفسكم ازواجا).] ثم يعلن انها تشارك مشاركه

جوهريه فى تكوين الطفل، و ليست ممرا لاخباب الرجل و لا حقلا لبذره

[ (يا ايها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحده و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثير و نساء.] و قد جعل اللَّه النبى محمدا- بالذات- شاهد صدق على هذا الموقف حيث جعل نسله من فاطمة، ورد على من سماه-ابتر- بعد موت ابراهيم ابنه من ماريه القبطيه

[ (انا اعطيناك الكوثر، فصل لربك و انحر ان شائنك هو الابتر.] فى السنه الثانيه من الهجره.

و يوكد القرآن فى كثير من الايات هذه المساواه و يكرر عباره «بعضهم، من بعضهن» ثم يسن قوانين لاحترام نفس المراه و كل حقوقها

[ الظرف فى مصطلح الفقهاء اجزاء الجسد مقابل النفس اى الحياه. و الديه و القيود و القصاص ثابته بالنسبه للرجل و المراه على تفصيل مذكور فى مظانه من الكتب الفقهيه.] و لا حترام عمل المراه ماديا

[ من المحرمات الكبيره فرض عمل على الرجل و على المراه- حتى من زوجها- او منع الرجل او المراه من العمل و حجز حريتهما او حرمان العامل او العامله اجرتهما.] و معنويا

[ (انى لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر او انثى).] و اقتصاديا

[ (للرجال نصيب مما كسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن).] وسياسيا

[ (يا ايها النبى اذا جاءتك المومنات يبايعنك على الا يشركن باللَّه و لا يسرقن و لا يزنين و لا يقتلن اولادهن و لا ياتين ببهتان يفترينه بين ايديهن و ارجلهن و لا يعصينك فى معروف فبايعهن و استغفر لهن اللَّه).] و يوكد احترامه لقرابتها من الميراث

[ (للرجال نصيب مما ترك الوالدن و الاقربون و للناس ء نصيب مما ترك الوالدن و الاقربون).] و فى جميع شوون الحياه.

و لا نجد فى جميع الايات القرآنيه ما يمنع المراه من التصرف فى اموالها حتى بعد الزواج

[ لا تزال بعض القوانين فى- العالم المعاصر و فى اليلاد المتحضره تحجر على المراه بعد الزواج فى ما لها.] او يسمح بفرض الزواج عليها دون رضاها

[ و حق الوالد فى زواجها الاول حق استشارى و ليس له فرض الزواج عليها، ثم ان الوالد اذا عضل و منع البنت من الزواج مع وجود المصلحه و الكفاءه يسقط حقه.]

و الايات التى تضيف المراه على الرجل لبيان الاحكام او التقدير او المواعظ او العبر كثيره جدا دون ان تقلل من مقامها او تحتقرها

[ (من عمل صالحا منكم من ذكر او انثى و هو مومن فلنحينيه حياه طيبه و لنجزينهم اجرهم باحسن ما كانون يعملون)- (ان المسلمين و المسلمات و المومنين و المومنان و القانتين و القانتات و الصادقين و الصادقات و الصابرين و الصابرات و الخاشعين و الخاشعات و المتصدقين و المتصدقات و الصائمين و الصائمات و الحافظين فروجهم و الحافظات و الذاكرين اللَّه كثيرا و الذاكرات اعد اللَّه لهم مغفره و اجرا عظيما).] او تعتبرها اقل شانا من الرجل.

و من خصوص الحياه الزوجيه و لاجل صيانه الزوجه و عدم وصول الحياه المشتركه بين الزوجين الى مازق، و حتى يمكن البت بالامور العابره الى شوونهما المشتركه، جعل للرجل على وزجته درجه و ذلك بعد ان اكد تماثل الحقوق و الواجبات فى الايه الكريمه: «و لهن مثل الذى عليهن بالمعروف و للرجال عليهن درجه» و هذه الدرجه هى التى عبر القران الكريم عنها فى مكان آخر «الرجال قوامون على النساء بما فضل اللَّه بعضهم على بعض و بما انفقوا»

والمتمعن فى دراسه القرآن الكريم يجد ان الفروق التى يثبتها بين الرجال و المراه تكرس المساواه الذاتيه و تولد الاهتمام العادل بامرهما على حد سواء، فالتفاوت فى الاحكام و فى الواجبات و الحقوق انما يرجع الى التفاوت فى الكفاءات بينهما والى اختصاص كل منهما- فى اكثر الاحيان- بنوع خاص من الاستعداد يختلف عن الاخر.

فالمراه بمقتضى خلقها الجسدى و الروحى، تصلح للامومه و لتربيه الطفل، و هذه

المهمه هى التى اعتبرت اهم بناء فى الاسلام بموجب الحديث النبوى.

[ ما بنى فى الاسلام بناء احب عند اللَّه من الزواج.]

ان هذه المهمه لا تقل تاثيرا عن اى مهمه حياتيه اخرى، حيث انها تصنع الفرد، و هو قوام المجتمعات القاهره، تتناسب مع المراه، فالاسلام ينص بتحمل هذه الرساله دون ان يفرض عليها

[ فليس الزواج واجبا عليها و لا اداء هذه المهام مفروضه عليها حسب التفاصيل المذكوره فى كتب الفقه.] ثم يجاول تهيئه الجو المناسب لها لكى تتفرغ لاداء هذه المسووليه فيفرض على الرجل ان ينفق عليها تسهيلا لمهمتها.

ثم يفرض عليالرجل بمضاعفه حصته فى الميراث لحصتها حتى تتحقق العداله و حتى لا يكون المال « دوله بين الاغنياء منكم » على حد تعبير القرآن الكريم.

و يبنى الاسلام- على اساس هذا الاختصاص و هذه الممارسه- سائر احكامه، فيحكم بقبول شهاده المراه فى اطار عملها و اختصاصها.

اما موضوع الغطاء فى الاسلام فليس المقصود منه تحقير المراه او حبسها او التفخيم و التمجيد الزائد لها، كما كان متعارفا عند بعض الشعوب، بل انه سلاح للمراه و منه لطغيان الانوثه على المراه لئلا يتغلب هذا الجانب على جميع كفاءاتها.

ان هذا القصد واضح فى الايات القرانيه التى تمنع الخضوع فى القول او الضرب بالارجل فى المشى او التبرج او ابداء الزينه

[ الايات القرآنيه فيهذا الشان كثيره نذكر بعضا منها:(فلا يختضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض) و (لا يضرين بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) و (و لا يتبرجن تبرج الجاهليه الاولى) و (و لا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها).]

والحقيقه ان ابداء مفاتن المراه يودى الى طغيان جانب الانوثه على وجود المراه فيحولها الى لوحه فنيه فقط، و هذا احتقار لها و تنكر لكفاءاتها و تقليل من فرصتها الغاليه من حيث يودى الى التخفيف من مركزها و دورها السامى فى خدمه الامومه.

هذه هى المعالم الرئيسيه لموقف الاسلام تجاه المراه و على هذا الاساس يمكننا معرفه العادات و تمييزها عن الاحكام و نتمكن ايضا من اكتشاف الروايات التى تستغرض وضع المراه فى مرحله تاريخيه معينه.

و قد بذل رسول اللَّه (ص) جهد متناهيا فى رفع مستوى المراه التى تعيش فى عصره و التى كانت تحمل تبعات الاضطهاد الماضى الطويل و عقده، و فى تحسين نظره الناس اليها، فقد اعتبر ان «خير الاولاد البنات» و ان «احسن الناس

احسنهم لزوجته» و ان «المراه محببه عنده مع الصلاه» و ان «النساء امانه فى امته».

و اننى اعتقد ان ما نقل عن الامام على- عليه السلام- حول المراه مما جعل بعض الباحثين من المستشرقين و غيرهم يتعتبرونه عدو المراه، نظير قوله «النساء عى و عوره فاستروا عيهن بالسكوت و عورتهن بالبيوت» و امثال ذلك- ان هذه العبارات، على افتراض صدورها عن الامام، انما هى من قبيل القضايا الخارجيه فى نظرات خاصه معينه تعبر عن وضع المراه فى مرحله تاريخيه معينه.

و للامام (ع) نظرات و حكم اخرى تنطبق تماما على ما استنتجناه من القرآن الكريم. و هو فى بعض الاحيان يحاول ان يعطى تفسيرا رائعا مما كان شائعا بين الناس من الامثال حول المراه، فحينما يسمع المثل الشائع: «ان النساء ناقصات العقول، ناقصات الحظوظ، ناقصات الايمان» يفسرها بمثل ما شاهدناه من التعاليم القرآنيه من التفاوت فى الميزان و الشهاده و بالتفاوت فى اداء بعض الفرائض فى حلالات خاصه. و هذه الاسلوب هو موقف تربوى رائع نجده و نجد مثله فى حياه النبى و سائر الائمه و فى حياه الزهراء- عليهم السلام-

سرد موجز:
ولدت فاطمة بعد مبعث الرسول الاكرم بخمس سنوات، اى قبل الهجره بثمان سنوات،و هى آخر اولاد الرسول من خديجه ولدت فى مكه، و فى بيت الوحى و الجهاد و فى اجواء الصبر و الصمود و تحمل المشاق و ترعرت فى غمار العواطف الصادقه و الحب الطاهر المتبادل بين رسول الرحمه و بين خديجه التى ما نسى النبى عواطفها و اخلاصها طوال حياته.

هاجرت بعد رسول اللَّه من مكه الى المدينه مع الاخريات من اهل البيت و برعايه على بن ابى طالب (ع) و التحقوا جميعا بموكب الهجره فى منزل «قبا» بالقرب من المدينه.

و تزوجت من على بن ابى طالب، و هو فى الثالثه و العشرين من عمره، من السنه الثانيه من الهجره، يعنى حينما بلغت العاشره،

[ هذا هو المشهور فى روايات اهل البيت و هو اقرب الى السيره الشبعه من استحباب الاسراع فى تزويج البثت، و هكذا فان عمر فاطمة وقت زواجها كان عشر سنوات بموجب هذا التقل اما النقل الثانى عن ابن عباس، و هو ان ولادتها قيل البعثه بخمس سنوات، فيكون عمرها- حال الزواج- عشرين شبه- اما استغراب الحمل و الولاده فى السنين المتاخره من حياه خديجه فيثبته امكان حيض المراه القرشيه و النبطيه الى ستين سنه و هذا اصل مشهور بين الفقهاء.] و قد اكد النبى لاصحابه ان تفضيل على من بين الخاطبين الكثر لفاطمة، كان بنصيحه من الغيب و لعدم رضاها بغير على، لقد رضيت به دون سواه بالرغم من محاولات كثيره بذلها نساء المدينه حيث نصحت فاطمة بعدم الاقدام على الزواج من على لفقره و لا نصرافه للجهاد المستمر و لصلابته فى ذات اللَّه.

عاشت مع على ثمان سنوات حياه مثاليه كانت عنوان الحياه الزوجيه، و انجبت له الحسن و الحسين و زينب و ام كلثوم و محسن الذى اجهضته بعد وفاه ابيها فى غمره الاحداث المولمه التى وقعت آنذاك.

و توفيت بعد ابيها باشهر قليله و دفنت فى مكان مجهول- حسب وصيتها- كما و ان دفنها و تشييعها حصلا سرا و فى الليل تنفيذا لرغبتها.

و بعض الاثار التاريخيه و الاحداث الماثوره توكد: ان قبرها فى احد الاماكن الثلاثه،: فى البقيع، او فى بيتها الملتصق بقبر النبى، او فى الروضه الشريفه التى هى بين محراب الرسول و قبره و التى تتميز الان باعمده خاصه.

اما عمرها فيبلغ ثمان عشره سنه و اشهر، و هو عمر قصير ولكنه مثال كامل شامل لحياه المراه التى يريدها اللَّه و يسعى لتحقيقها دين اللَّه.

ان التعاليم الدينيه تحتاج الى نماذج من البشر يجسدونها و يحققون تنفيذها تحقيقا كاملا لكى يخرجوها عن الفرضيه المثاليه «ايدياليه» و حتى لا يكون للناس على اللَّه حجه.

و حينما اراد الرسول ان يباهل «و المباهله ابتهال الى اللَّه لكشف الحقيقه بعدم اقتناع الخصم بالحجه، و قد كانت الوسيله الناجحه الاخيره فى دعوه الانبياء و فى نصره اللَّه للدين الحق»، امرا بذلك بموجب الايه الكريمه: (قل تعالوا ندع ابناءنا و ابناءكم و نساءنا و نساءكم و انفسنا و انفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنه اللَّه على الكاذيبن) فاصبح الرسول الكريم فى مقام عرض الابناء و النساء و الانفس الذين

يمثلون رجال الاسلام و نساءه و ابناءه، عند ذلك اختار عليا و فاطمة و الحسنين معلقا بذلك ايمانه بالحق و لتمثيل هولاء لدينه تمثيلا كاملا.

فلندرس بصوره موجزه هذه المراه- فاطمة الزهراء- التى هى الممثله الصحيحه للمراه المسلمه بعد هذا السرد المقتضب لحياتها.

ام ابيها:
ان فاطمة الفتاه تحاول ان تشارك فى جهاد ابيها فتسعى مخلصه لسد الفراغ العاطفى الذى كان يعيشه الرسول بعد ان فقد ابويه فى اول حياته و هذا الفراغ كان يزعج النبى و ينعكس على قلبه الرهيف المشتاق الى الحب- لقد كان بحاجه الى عطف الام و رعايتها فى حياته و فى عمله الشاق المضنى و فى مواجهته ببيئته القاسيه بالنسبه اليه و قد وجد كل هذا العطف فى فاطمة.

ان التاريخ لا يحدثنا الا نتقا من هذه المواقف الاموميه التى كانت تصدر عن فاطمة بالنسبه للرسول ولكنه يوكد نجاح فاطمة فى هذه المحاوله التى اعادت الى محمد الاكتفاء العاطفى الذى ساعده- دون شك- فى تحمل الاعباء الرساليه الكبرى.

ان التاريخ يوكد هذا حينما ينقل تكرارا عن لسان النبى: «فاطمة ام ابيها» و حينما نرى انه كان يعاملها معامله الام فيقبل يدها و يخصها بالزياره عند كل عوده منه الى المدينه و يودعها منطلقا من عندها الى كل اسفاره و رحلاته، و كانه يتزود من هذا النبع الصافى عاطفه لسفره.

و من ناحيه اخرى نجد ان احساس النبى بالابوه كان يتجسد فى صلاته مع فاطمة، و حينما امر الناس بان يخاطبوا محمدا برسول اللَّه و نفذت فاطمة هذا الامر. منعها رسول اللَّه و طلب منها ان تدعوه «يا ابه».

و نلاحظ من سيره الرسول الاكرم كثره دخوله عليها فى حالات تعبه و آلامه او حينما يرجع جريحا من الحروب او حال جوعه او فقره فتقابله فاطمة الام و ترعاه و تحتضنه و تضمد جروحه و تخفف من الامه.

كلمه توجيه:
هذه هى المراه المسلمه الكريمه ابنه اعظم نبى، و زوجه امام و بطل، و ام اينع يزغتين فى تاريخ الامامه- التى يقدم فيها الاستاذ الكريم- سليمان كتانى- كتابه الادبى الملون الذى هو فيض اشراقه لاظهر وجه عرفه تاريخ الاسلام.

فلنتابع- مع هذه الريشه المغموسه بالطيب و باللون- قراءه الكتاب على مهل، مكتشفين، مع كل صفحه من صفحاته لوحه فنيه رائعه نستشف ضمن خطوطها و مع كل من اظلالها وجه فاطمة الزهراء مشرقا وضاء و عفيفا شيقا.

و بعد ان ننهى القراءه، فلنغمض اعيننا متاملين... سوف يتجسد امام خاطرنا ذلك الوجه الناعم- وجه ابنه النبى- مغمورا باللون و متمورا بالطيب.

صور موسى الصدر

فاطمة الزهراء و ترفى غمد

تاليف سليمان كتانى

هدايا
الى لجنه التحكيم
بواسطه سماحه السيد حسين بحر العلوم الجزيل الاحترام

الى النجف الاشرف- منه و اليه- اقدم كتابى:

«فاطمة الزهراء»

«و تر فى غمد»

ان امراه كفاطمة: رهيفه الحس- ذكيه المعدن- كبيره القلب- نيره اللب- حرى ان يكتب فيها، ابرازا لمثال، و تجسيدا لقدوه، ان المجتمعات العربيه لفى حاجه لبناء الاسره الفاضله، تدعيما لكيان اجتماعى ناضج يكون امتدادا صحيحا لتاريخا الماضى المجيد.

بين يديكم هذا القصد منى- فان يكون التوفيق، فلكم منى الشكر على اتاحه الفرصه، و لفاطمة الزهراء فضل جلوه الخاطر.

المولف:

سليمان كتانى

بسكنتا

الى كل امراه- تنفتش:

عن مرود...

عن قاروره طيب...

عن ريشه خضاب...

اقدم:- فاطمةالزهراء.

الى القارى ء:
لا- لست اكتب سيره- حسبى من السيره مضض الشواهد و الاسانيد- حسبى منها حلقات لا تجد لحمتها الا فى «عن». حرف له ابرز شهره بين حروف الجر- و حسبى منها سرد كانه ناجذ جرذ فى جدار.

و لا اذكر انى قرات سيره الا انزلقت عينى عن كل «عن» فيها لتستقر على ما يبرز بعد آخر كل «عن»، ولا تتبعت اى سرد من سرودها الا الذى تتقعر حروفه براى او تهتز باثير.

لهذا سوف اكتب فى فاطمة الزهراء- متنكرا- قدر الامكان- لحرف الجر هذا- و ساكون متنكرا للسرد ايضا، فالريشه التى فى انملى، ليس عليها ان تكون مختبرا يحلل نسبه الحديد و الكبريت فى ساق زهره، اكثر مما لها ان ترسم اللون فيها و تهتز من فوح العبير.

ان فاطمة الزهراء هى اجل من ان تشير اليها الاسانيد، و اكرم من ان تدل عليها السرود- يكفيها اطارا كونها ابنه محمد، و زوجه على، و ام الحسن و الحسين، و سيده نساءالعالمين.

الى فاطمة:
ايه فاطمة...

يا ثغرا تحلى بالعفاف فطاب رضابه.

و يا عنقا تجمل بالمكرمات فذكا اهابه.

لقد عبق خط وصلك ببنت عمران، يا ابنه المصطفى.

فتلك مريم- ما فرشت الارض الا من نتف الزنابق، و انت النفحه الزهراء، ما نفثت الطيب الا من مناهل الكوثر.

و الخط خط الطهر و العفاف- ما زنر الارض الا خفف ارهاقها، و لا عانق الاجيال الا لون آفاقها.

و الارض- لولا هذا الاثير يغمرها- تاجن.

و الزمن- لولا هذا العبير يرشفه- ياسن.

يا بتول- يا ام ابيك...

لقد كانت النبوه طفلك البكر:

داعبتيه بيد، قبلتيه بفم، عانقتيه بعين، رافقتيه بقلب، حضنتيه بروح، ضممتيه بشوق... فاشتعلت بين حناياك اشواق السماء، و التهبت فى محجريك اثقال المعانى.

لقد ذاب التراب فى المصهر، يا ابنه الجنه...

هكذا- يا ابنه ابيك- اصبحت الوصيه... يا طيب الامومه، يا منتهى العفه يا طهاره المردن، يا نحيله.

اى فتى هو فتاك- ما اندغمت فى رحابه الا كما ينغم النور فى كاس شفيف...

يا عناق الحب، يا وصله العمر، يا امتزاج المسك بالعنبر، يا اعتصار الشوق من قلب العفر، يا ام ريحانتين جسدا اشواق النبوه.

يا لبنه البقيع...

يا كبرياء النفس فى عنفوان الجفر...

ايه دمعه ليس لها ان تحرق مقلتيك، و انت فوق ضريح- ثوى فيه مخمل الكف، و حنوه القلب، و رنوه العين، و هله الجبين، و دفقه المبسم... و هاله كالديمه موصوله العبق بغار حراء...

و مسحه كالنور فيها كل العزاء...

و ذاب حبر الوصيه يا انوق...

و بقيت على الخط الكريم، يا عديله مريم،

يا قيثاره النبى،

يا ثوره اللحد،

و يا وترا فى غمد.

تكوين الاطار
عناصر البحث:

نبذه

تاريخ- اجتماع- ما قبل الاسلام

الشراره الاولى- خديجه

- الامين محمد- القافله- بعث و احداث

الجهه الجانبيه- بيت على

الجهه المعارضه- السقيفه

فدك

ختام البحث

نبذه:
كيف يفيد الحديث عن فاطمة الزهراء، ان لم يلجا الى نبذه تاريخيه اجتماعيه، لا تطال فقط الفسحه التى امتدت بين ساعه ابصرت فيها النور و ساعه انطفات فيها، من عينيها، لمعه الحياه، بل و تمتد بشمولها الى تاريخ الجزيره قبل مولودها و تتجاوز اليوم الذى غيبها فى ضريح، حتى الساعه الحاضره:

ليس الشمول فى البحث- على هذا الطراز- شرطا من شروط كتابه كل سيره، فهنالك من تكتب فيه السيره محصوره فى فسحه عمره، و قد تحصر فى فاصل معين من هذه الفسحه، كان فيها بروز صاحب السيره بشكل فذ، حقق لفت النظر اليه وجداره الاهتمام به. و هنالك من لا تكتب السيره فيه الا فى اطار مشدود بماضيه و حاضره و ما ياتى بعده من زمن. تلك هى عبقريه الافراد يربطون حياتهم بحبال التاريخ ليغيروا وجه التاريخ.

و فاطمة الزهراء- ان لم تكن من اولئك الافراد- فهى على الاقل- ابنه نبى-هز- ليس تاريخ الجزيره و حسب- بل جذور الفكر فى الانسان و قفز به فوق الاجيال، و هى زوجه رجل- هو الاخر قطب من اقطاب الفكر، و خط من خطوط الاصاله، و ركن من اركان الحق، و امتداد لاعظم عبقرى جدل النور فى قرآن.

و ليس ذلك ليكفى، فهى انجذاب بين قطبين، عبت من الاول كما عبت من الثانى، فاذا نهجها فى الحياه امتداد لنهج مرسوم.

و كان لها- من كرم الخالق- جمال، هو انعكاس لكل ما فيها من عقل و طيبه و صفاء، و لكل ما فيها من جاذبيه و ايجاء، فاستاثرت بحب اعظم اب وحب اعظم قطب،فانحصرت فيها ذريه ابيها لتكون ذخيره يتوارثها كل جيل عن جيل.

ذلك كان جوها، عاشت فيه، و شعت عليه، و امتدت به، و عبرت عنه فكرا و انتاجا.لقد غدت خطا فى الرساله التى انطلقت ثوره و اصبحت هى من لونها،

و ستتبرك بها الاجيال، حتى اذا قامت- فيما بعد- دوله فى مصر- اخذت من اسمها ما تيمنت به. فالدوله الفاطميه، و الجامع الازهر، يمن بها و فيض تبرك.

و لن ينسى الاسلام- خاصه فى شيعته- انها كانت اعز من احب النبى، و انها ام لاشرف نسب.

لذلك دخلت التاريخ، و لن تكون لها سيره بغير استدراج صفحات التاريخ.

تاريخ- اجتماع
ما قبل الاسلام:
ان البيته التى ولدت فيها فاطمة، لم تكون قوتها غير مظهر من مظاهر العمران و الازدهار الاقتصادى، و هذا ما كان يفتقر اليه مجتمع الجزيره. فالارض التى فتحت على ابعاد شاسعه كان يخنقها الشح، و يضنيها القحط، فكان مجتمعا مشرورا - هنا و هناك- قبائل قبائل، لا يضبطها نظام اقتصادى مدروس، و لا توجيه فكرى موحد، فاعتمدت على الغزو و الاختباء فى طيات الفيافى اكثر مما كان عليها ان تعتمد التنظيم فى توجيه اقتصادها. مستوحيه العقل و العلم. و كان لها فى الجوار ما يوفر لها الاقتباس، فهنالك- ما بين النهرين، و على طول الخط المودى الى الشام و الاردن و سواحل البحر الابيض- كانت تعتز مدنيات مجتمعات قويه و ناهضه فى اعتمادها على نفسها و استنبات الخير من اراضيها، و تنظيم تياراتها الفكريه و معاولها الاقتصاديه.

و لقد انفتح- منذ القديم- هذا الجو من الجوار امام هجرات قويه و متعدده من الجزيره، لم تجن الجزيره منه الا قليلا، و استمرت تصدرها هجراتها، و لبث من بقى فيها على الاستمرار فى الانماط المالوفه، يمارس بعض الزراعات الخفيفه، و يجمع بعض العطور و الاطياب فى تجاراته المعتاده التى كان يجهز لها بعض القوافل الموسميه.

و كانت الهجرات تنهب من رجال الجزيره دون نسائهم، و كان الغزو- ايضا- يقلل من هذا العدد، فظهر اختلال فى هذا المجتمع بالعدد النسبى بين الرجل و المراه، بحيث اختل تكوين الخليه الاجتماعيه التى لا تجد قوامها الا فى الجنسين المترافقين المتلاحمين، فكان الواد حلا من الحلول التى ما عدلت خللا حتى عطلت قيمه فكريه اجتماعيه، كان فى فقدانها ذياك الانحطاط.

و لقد شمل الانحطاط جميع مرافق الحياه، زراعيه، اقتصاديه، فكريه، لم تنشا ايه زراعه متطوره، و لم يتبدل سير القوافل، و لم يتغير نمط التجاره و بقى النزوح عينه النزوح، و الغزو ذاته الغزو، و بقيت الكعبه نفسها الكعبه، تتربع فى زواياها حجارات منحوته بغير هندسه، و بقى الخلاف فى تحديدها اياها الخلاف- اهى نصب ام انها اوثان؟- و بقيت رابعه الاثافى وحدها رابعه الاثافى امام كل خيمه مهجوره او وتد منسى.

كل ذلك قد كان و ما لبث مستمرا حتى جاءت على الخط قافله الامين محمد، (ص) فتوقف التاريخ بالقافله ليجعلها حدا فاصلا بين عصرين: عصر الجاهليه، و عصر صدر الاسلام.

الشراره الاولى (خديجه):
ان القافله التى اعترضت طريق القوافل هى قافله خديجه، ما سارت الا لتتوقف، و ما توقفت الا لتنطلق، لقد تغير فيها مركز القياده.

و خديجه بنت خويلد، هى الشراره الاولى فى الثوره الاجتماعيه التى قلبت الاوضاع و نقضت القديم.

لقد تلقطت بيديها- بزمامين- بيمناها زمام، و بيسراها زمام، بهذين الزمامين توقفت قافلتها على المفرق الفاصل بين عصرين.

لقد ذاقت مراره الواد، ثم تذوقت نشوه الانبعاث. انها خديجه بنت خويلد، من اشراف قريش، و من اصبح نسائهم وجها و انبههن ذكاء.

كانت صغيره لما سيقت الى زواج باكر من عتيق بن عابد و سريعا ما بتر الموت هذا الزواج، فسيقت الى زواج آخر تقدم به منها شريف يدعى «ابا هاله» و رزقت منه ولدا اسمته «هندا»، ثم عاد الموت، ففصم عروه الزواج الثانى، فتوقفت خديجه عن تلبيه العروض فى تكرار زواجها، و كان رفضها بمثابه ضريبه ادتها عن نفسها، تعويضا عن زواجين سابقين، لم يكن لها فيهما كبيرشان.

و مرت الايام، و فى يمناها زمام جاهلى، تقوده على طريق مكه- الشام، بقافله جاهليه المولد، جاهليه الرحل، جاهليه العير، جنت منها ارباحا طائله لم تكن غير جاهليه.

و بدا لها فى الطريق جبين و ضاح، فيه من العزم اكثر مما فيه من الفتوه، و فيه من المجد ابلغ مما فيه من السكون، فرات تلاميحه و استبشرت بفك رموزه، و اقدمت- دون ان يثنيها قنوط الاربعين، و استسلمت- دون ان يوثر عليها اى اعتبار.

و كان لها ما ارادت، فتزوجت بمل ء حريتها، مسكوره من حولها طوق التقاليد.

و كان الزوج الجديد، الفتى الامين محمد (ص) بن عبداللَّه بن عبدالمطلب الهاشمى. فتى فى الخامسه و العشرين، لم تدخل- حتى الساعه- امراه فى حياته،و سيم الوجه، هادى ء الطبع، برى ء القسمات، عميق السكون، و كان من بيت كريم له فى مجتمعه مكانه الزعامه.

و كان الزواج مثار همس و لمز: امراه تخطب، و رجل يتلقى العرض... ما هكذا توزن كرامات البيوت و امجاد بنى هاشم... انثى ليست لها الحريه بنسبه ما لها الواد... بريق الذهب يعمى البصيره... الى آخر ما توصلت اليه معازيف تلك البيئه المشدوده بحبال التقاليد.

الامين محمد- العائله- البعث- احداث
و لقد كان، بين خديجه و محمد- قبل الزواج- ما يشبه الاختيار و الامتحان، فهى- قبل ان تقدم- جعلته فى قافلتها، ثم انتظرت الوقت يبلور حسها و يجيب عن حدسها.

و ما كان الوقت الا ليفرض الحقيقه، فالامين محمد، الذى مشى تلك الفيافى ذهابا و ايابا، عده مرات، هو الذى خبر القبائل مشروره على طول و عرض هذه الرقعه الغارقه تحت الخيام و الاطناب، تزحف مع كل غبار، و تنساق وراء كل سراب- شاهد حجاره الاثافى و نصب الاصنام:

لقد مر على «يعبوب» جديله طى، و توقف طويلا امام «ذى الشرى» صنم «دوس»- و لم يتردد عن زياره «ذى الخلطه»- كعبه اليمامه، ليكون فيما بعد للنبى حديث فيه : «لا تقوم الساعه حتى تضطرب اليات نساء دوس حول ذى الخلصه»، اشاره الى رده العرب الى جاهليتهم بعد اسلامهم.

و سيشهد حريق «ذى الكفين» صنم بنى لهب يحرقه الطفيل بن عمرو و هو يقول:

·                                 يا ذا الكفين لست من عبادكا انى حشوت النار فى فوادكا انى حشوت النار فى فوادكا

·                                 ميلادنا اكثر من ميلادكا انى حشوت النار فى فوادكا

و سيناجى «ودا» مليا، و هو اوقف امام تمثاله المتقلد السيف و المتنكب القوس و لسوف يهيب بخالد بن الوليد ان يكسره بعد غزوه تبوك.

اجل لقد مر الامين محمد على هذه القبائل و شاهد بعينه كل ما يغرقون فيه من فقر و سخافات، و لقد غاص معهم بكل تاملاته غوص المدرك المتالم لنفس انسان تنحط عن درجه العقل المتبصر المتروى.

و لقد زار الشام و كل الدائره المطله على المتوسط، و خبر فيها الحياه الاجتماعيه:

ماديه، اقتصاديه و فكريه روحيه و تامل و استوعب و قارن.

لقد خبر بنفسه كل مجالات الجزيره، من اول تاريخ هجراتها و تدفقاتها الى الساعه، و لقد ادرك ان هذه الارض التى قدمه عليها الان- قد اصبحت امتداد مجهود شعب قد اختلط حابله بنابلها، فامتزج بقرابه تاريخيه و بتوحيد مصير.

و رجع بالقافله على تصاميم و مناهج، ستتبلور قريبا- فى غار حراء- رجع ليعرض على خديجه ربح القافله، بعد ان كان امينا على ما حمل.

ولكن خديجه: التى كانت ترمى بتجارتها، كما ترمى الحصاه فى بئر- سبر الغور-ما همها ربح جزيل اكثر ما همها الاكتشاف الخطير: فلقد تكشف لها انها امام رجل لا تنم قسماته عن نبل اكثر مما تطل على شفق و ان قافلتها التى جعلته فيها ستذوب حتما فيها.

و فعلا- لم يتم الزواج، الا لتصبح خديجه و ما تملك، ليس بين يدى الامين محمد، بل ليصبح الاثنان و ما يملكان، وقفا على تاديه رساله ستعريهما من كل اثقال التراب، ليعيشا- رغما عن ثروه ثقيله- فى فقر و حرمان، تحقيقا لفكره و تدعيما لايمان.

و انطوت العائله على نفسها تنجب: تنجب الاولاد، تقديسا لمشيئه الحياه، و تنجب الفكر، تاليها للسمو، هنا فى الزوايا، درجت فاطمه بعد ام كلثوم، و رقيه بعد زينب- و هناك- فى غار حراء- كانت تفتح الكوه يطل منها وجه جبريل، و هنالك قبائل لا تزال تزحف نحو ديدنها، تاكل الغبار و تشرب السراب، و تنام فى الاغلال...

ما توقفت قافله خديجه- ولكنها تتريث. انها تستعد لانشاء قافله كبيره- و هى الان تجلو صوت حاديها، ليغمر الجزيره و آفاق الجزيره. لقد تالفت النواه. يكفى القافله الجديده فتى يتهيا- ليس عمره سبعا، بل سبعه دهور.

لقد ربى على فى هذا الكنف. اخذه محمد- يا لسخاء الاقدار- ليخفف العب ء عن كاهل عمه ابى طالب المعيول.

نطحته العبقريه بقرن فذر بها قرنه، وامتص كل ابن عمه بكل صمت و كل هدوء، فاذا هو ظل لا يفارق و طيف لا يمارى- ليصبح- فيما بعد- سيف الرساله ودويها. لم ينحصر دوره فى الفسحه التى عاش فيها، لان النبى زوجه من اعز بناته- فاطمه الزهراء- ليكون له من ذريتهما صلب ميراثه و امتداد قيمومته على رساله وجهها الى اهل الارض.

و كان للبعث قذفه ارتجاع فى جو مكه، اول ما سمع صداها فى الكعبه- و ادار تلك الايام- فهبت ضجه قلقه تستفسر الخبر:- بيت يفتش عن زعامته. جنون يتلقط بالغيب ليعكسه حقيقه...

و كان خديجه- فى صمتها- تصغى، انها بدايه الساعه فى تحقيق المبهم المرتقب،انها الوصول الى الكنز الذى ذابت- فى التفتيش عنه- ثروه.

و خفق قلب فاطمه- و هى ترنو بوسع حدقتيها الى الساحه التى يلعب فيها، ابوها الكبير و رفيقها البطل- لعبه الخلود... و انطوت على نفسها توسع ضلوعها امام قلبها الخافق.

و كانت رده الفعل، ولدها ذعر السدانه، و تجاوبت بها زعامات القبائل: لقد هب ابوسفيان يضغط على «ابن ربيعه» ليرد «زينب» الى البيت الذى خرجت منه، و هكذا فعلت «ام جميل» اذ سلخت «رقيه» عن «عتبه» و «ام كلثوم» عن «عتيبه» لتعودا من زواجها الى ابيهما- ارهاقا له، و عرقله لمسيره. لقد رمت «ام لهب» كل حقدها فى وجهه: بذاءه من لسانها، و شوكا على دربه.

هذا هو الطراز الذى قوبلت به الرساله- ساعه بثها. و بمثل هذه الخشونه فوجى ء الوجه الوليد على كف القابله...

و لكنها رساله، تحمل الحق، تحمل النور، تحمل الصواب، تحمل الشوق، تحمل الايمان.

لهذا تحملت التشريد فى هجرتين تمكنت فيهما من لم شعثها، و كان لها- على يد الصحابه و الانصار- شده ازر و لفه ساعد و شمله ميعاد.

و عادت تزيح اشواك «حماله الحطب» من دربها، و كان من المع ابطالها الفتى على و سيفه ذوالفقار.

و تخطت الدرب، عبر «بدر» عبر «احد»، عبر «خيبر»، عبر «مكه و هواذن» و عبر الكعبه تتحطم فيها ضلوع «هبل».

و اشرابت نحو الجوار، قافله، تحمل الاجيال على كفها، ماذن و فتوحات.

لقد رسمت للجزيره خطوط عريضه تعلمها: كيف تاكل، و كيف تشرب، و كيف تنام. تعلمها كيف تصنع من الغبار زهره، و كيف تستقطر من السراب قطرى ندى، تعلمها كيف تضع فى محجر «هبل» عيننا لها بوبو، و ريشه هدب، تعلمها كيف تسير الى الشام و نحو الكوفه على حدو الشوق و الحنين، يحمله حب الانسان للانسان، و تحمله قيمه الفكر مبسوطه على سجف من الوجدان.

والتف رجال الصحابه و رجال الانصار حول النبى العظيم لينفض عن اكتافهم غبار الماضى، و يثبت اقدامهم فوق المفارق. و لقد شدهم بالعقل، و استوثقهم بالمعرفه، و ربطهم بالارض بالرباط الذى يليق بالاحرار، و افهمهم كيف يعيشون،و كيف يتروجون، و كيف ينسلون، و كيف يحيون، و كيف يموتون، و كيف يحشرون.

و لقد عاش معهم مجسدا فى نفسه القدوه و المثال- قولا و عملا- فكرا و احياء.. قال لهم:- كلوا، واكل- اشربوا، و شرب- عفوا، و عف- تزوجوا، و تزوج- احبوا، واحب- اعدلوا: و عدل- لا تغتروا بالدنيا، و لم يغتر- انفقوا فى سبيل اللَّه- و انفق.

لهذا لم يترك الدنيا الا بعد ان خلع عليها رداءه، و لم ينزل فى قبره الا بعد ان سحب منه كساءه.

و مات النبى و هو تلك الكثافه.

الجهه الجانبيه- بيت على-
على الجبهه الجانبيه من هذا العرض، نتتبع نشوء بيت آخر، و هو فرع من البيت النبوى، و هو انطباق عليه لانه انبثاق منه- انه بيت على.

رجل كان- ربيب النبى- من صلبه- ابن عمه- من معدنه: عقلا و انجذابا، ميلا و استجابه، عملا و تطبيقا.

امن المصادفات؟ ام انه تدبير يجهل العقل كنهه؟ كان وجود هذين القطبين فى وقت واحد، ليكون للجزيره العربيه انبلاج شفق و تحقيق تاريخ؟

و لقد تساندا متكاملين فى كل انجاز، و لقد ادرك النبى ذلك تمام الادراك، فالقى على ابن عمه اثقال القضيه، و ناطه بكل جليل.

اما فاطمه الزهراء، فهى التى خص بها على، كانها التدليل على عمق محبه النبى له و ايثاره- اياه لان محبه الاب لابنته فاطمه كانت فريده من نوعها- كانت فوق درجه الوله.

و لقد تضافرت العوامل لتزيد هذا الوله تمتينا و تعميقا، فالنبى الحريص على رسالته لم يجد لها- من صلبه- من يتقيم عليها بالرعايه من بعده، و يمتد بها من مصير الى مصير. اما على القريب القريب و فاطمه النجيبه، فهما اللذان يكون منهما حبل الرباط.

و اشتد الوثاق: ان الحسن و الحسين ارهقا شعور النبى حتى اصبح يشم فيهما عبق الجنه.

تلك هى العتره الطاهره، عائله النبى، اهل الكساء، المطهرون من كل رجس، ذريته، اوصياوه، احب الناس اليه، الخط الطويل من بعده.

و تشابهت، فيما بين هذين البيتين، مسالك التاسيس، و تساوت سبل المناهج، فكان هذا طباق ذاك. يكفى الطباق تجانسا فهم الرساله و التعبير عنها قولا و عملا- فلقد عاش على حياته ممدود الكف ممدود الساعد- بذلا و دفاعا،

و لقد توفرت له الدنيا فلم ياخذها الا بتقتير، و حيا من عقيده و تجسيدا لقدوه.

و مثلما القت خديجه- بين يدى محمد- ثروه، لا لتوكل، بل لتصرف على قضيه، هكذا توصلت اليه- عبر زوجته فاطمه- نحله «فدك»، لا لتوكل ايضا، بل لتصرف على ذات القضيه، و مثلما كان ما بين يدى النبى مفتاح ثروات الجزيره، فلم يقبل الا ان يعيش و يموت فقيرا، هكذا توصلت الى على مقاليد الثروات، ليس من الجزيره و حسب، بل حتى من اطراف امبراطويه طافحه بالذهب، و لم يقبل الا ان يعيش و يموت و هو يخصف نعله و يرقع مدرعته، و ملثما تزوجت خديجه رجلا احبت فيه طيفا خلف عينيه، هكذا تزوجت فاطمه رجلا احبته طيفا فى عين ابيها.

و عاشت فاطمه تحت ظلين: ظل ابيها و ظل حليلها، و عانقت ريحانتين- الحسن و الحسين- ذريه لرجلين: نبى و امام، و عانقت رهافتين: رهافه الجسم، و رهافه الحسن، و اختبرت عصرين: عصر الجاهليه، و عصر الانبعاث، و احبت اباها حبين: حب البنوه وحب الامومه، و صهرت بصهرين: مصهر الفقدان، و مصهر الحرمان.

بهذه الازدواجيه عاشت فاطمه الزهراء، صابره على مكاره الدهر، اقتناعا منها بصدق قضيه يلزمها الكثير من التجسيد و حسن الاخراج، و لقد جسدتها- كما جسدها ابوها و زوجها- بحبل طويل من الرضوخ و القناعه و الاستسلام، و بلسله طويله من العزم و الاقدام و البطولات، و بالكثير من التضحيات.

و لقد رافق ذلك كله شموخ هو انعكاس تلك المتانه فى النفس تتصلب بالشعور بالحق و صدق الوجدان. فقضيه «فدك» ارثها من ابيها، بلورت فيها هذا الشموخ بكل انواعه، و ما كانت مطالبتها بالارث الا تعبيرا عن هذا الشموخ فى تفلته من عنصر الخوف و الاستكانه.

و لقد قطعت شوطا بعيدا بهذا الدفاع عن حقها، لا لتصرفه على نفسها و بيتها لذه و ترفيها- لقد كان يانف خطها هذا الترفيه- بل لتصرفه فى سبيل

تمديد القضيه، قضيتها و قضيه زوجها و ابيها.

و ما كان ابوبكر الصديق- و من خلفه عمر بن الخطاب- الا ليجابها امراه تحرمها الجاهليه حق البروز، و حق التمرس بكل انواع البطولات- لالو ان الاسلام امن لها هذه الجلوه، و لولا ان فى فاطمه الزهراء اعنفوان النفس التى تتخطى الحواجز-

لمجابهه هذا الخط، كشفت فاطمه عن معصمها النحيل لتخوض معركه جانبيه، عميقه الاسباب، بعيده الجذور، و لم تدع الالم من فقدان ابيها، يدخرها عن متابعه الصراع، فكان لصوتها فى الحلبه رنه ناقوس الدير يهيب بالرهبان الى الصلاه.

و هوت فاطمه فى الحلبه- بعد موت ابيها بقليل- و بقى بعدها الخط يسجل وقع خطاها، و بقيت رنه الناقوس- على نعومتها- تتهادى من ظل الى ظل، لتنفجر جهادا فى باحه قصر الخليفه الثالث- عثمان بن عفان- زوج اختيها رقيه، و ام كلثوم، فى وزاجهما المكرر- و لتنعقد و لاء لصاحب الحق الاصيل بالخلافه- الامام على.

و استمرت ساحه الاسلام لا يسلس لجوادها قياد، يرخيه يمين فيجذبه يسار ثم يرخيه يسار فيجذبه يمين، و راح الجواد من خبب الى خبل، و من خبل الى خبب، بين تيارين فى مقوده متنافرى الجذب متعاكسى الاتجاه: مفرق الى الكوفه، و مفرق الى الشام- معركه فى البصره و رواغ فى صفين، اذان فى يثرب، و منجنيق على الكعبه. مد فى الاندلس و جزر فى الحجاز، انطلاق فى مصر و انقباض فى بغداد...

و دماء اغزر من دجله... و حوار فى غبار... و دموع من سراب.

تلك نتيجه- لن يتبرا منها اجتماع السقيفه، و لن تحرم من نعمتها قضيه «فدك».

ليت الرسول يوحى:

فتهدم سقيفه بنى ساعده.

و يفنى كل يهودى فى «فدك».

فى الجهه المعارضه- السقيفه
اما الجهه المعارضه، فهى القديم الذى رضخ للواقع. و ما كان الرضوخ يوما غير الاستسلام، و لو ان الاستسلام يشبه الاقتناع لانتهت المشاكل.

و القضيه التى جدت فى اقدامها و اكتسحت بصدق عزمها، و جدت فى المساندين لها هذين النوعين من المناصرين: فئه المقتنعين، و فئه المستسلمين. و لا يزال الخط حتى اليوم مقسوما بين مقتنعين و مستسلمين: الفئه الاولى هى التى ترى الحق من اجل الحق، اما الفئه الثانيه فهى التى لا ترى اليه الا من خلال المصالح الذاتيه.

و لقد مشى بالاسلام هذان النوعان من التاييد جنبا الى جنب، و كانا قوه فعلت فعلها الجبار- كانا جنبا الى جنب تحت عين القائد الاول، صاحب الفكره و ربه القضيه. و لكنه- لما ذهب- رجع المستسلم يفتش عن مغانمه، و بقى المقتنع يتابع تثبيت مغانم الحق.

و فئه المستلمين هى الفئه الاشد تنبها لكل اقتناص، لانها تكون دائما فى مركز التربص. و هكذا حصل، فما كاد النبى يغمض عينيه حتى كان ابوسفيان و من لف لفه من الذين ناهضوا الدعوه فى مستهلها، ثم اليها استسلموا، قد انتهوا من تدبير الخطه التى ما احكمت الا لتجر اليهم وحدهم، كل المكاسب.

ذلك كان اجتماع السقيفه- سقيفه بنى ساعاه- خرج منها المجتمعون باسناد الخلافه الى ابى بكر الصديق.

انه صحابى له وزن بين اللفيف الذى عاون فى انطلاق الرساله و لقد ربطه النبى اليه برباط قربى- بزواج- ان عائشه، ام المومنين الثانيه، هى بنت الصديق، و هى التى ستقود المعارضه- فيما بعد- ضد ابن عم النبى، و ضد ابنته فاطمه، سيكون لها شان فى معركه الجمل.

فى الساعه التى مات فيها النبى، ظهرت على المسرح الالوان و انقسمت الساحه الى جبهتين: جبهه البيت و اهله و معه الانصار، وجبهه قسم من الصحابه ذوى

الزعامات القديمه التقليد فى تاريخ الجزيره.

و سيتوالى على الحكم ثلاثه من اولئك الصحابيين قبل ان ينقلب الحكم الى مصلحه الامام على، و ستكون قضيه «فدك» مفتاحا من مفاتيح ذلك الانقلاب.

هكذا تبادل الخطان المنقسمان دروبهما، فالذى كان فى البدء مستسلما اصبح فى مركز الاصاله، و الذى كان مقتنعا اضحى من المستسلمين الراضخين، و بالتالى من فئه المتربصين.

ان الثوره على عثمان بن عفان كانت نتيجه ذلك الاختلاس و الانحراف عن الواقع.

ولكن الخلاف اصبح من نوع التجاذب الذى لا ينتهى. لقد لبسته الاجيال سجالا.

اما الجزيره التى انطلقت الرساله منها و لها، فانها تمزقت بين خطين: واحد ربطها بالشام، و آخر ربطها بالكوفه، ثم تشعبت خطوط الضغط عليها، لتعود فتغرق من جديد تحت ضباب، و لا فرق ان كان من سراب ام كان من غبار...

فدك
فى مستهل هذه الضجه التى زعق غبارها، برزت قضيه «فدك» عاقده على خصرها زناد حداد، و لقد كان واضحا خط الضغط فيها.

انها نحله من الرسول لابنته فاطمه، و هى مقاطعه يهوديه، صالح النبى اهلوها بتقديمها اليه- هبه دون حرب- فحقت له صرفا. لم يشرع فى سبيلها حسام، و لم ترق عليها نقطه دم، لذلك ليس للجهاد حق عليها.

قد يخلق الاجتهاد ما يشاء- فلنقل مثلا: لو لم يكن الجهاد هو الذى اكسب النبى منعه الجانب، لما كانت فدك لتصل اليه.

ان فى ذلك وجه منطق، ولكن الرسول هو الذى يوصى، الرسول عينه، الذى اغنى الجزيره بالف فدك... لماذا لا يحق له ان يوصى؟ ان يورث؟، ثم ان الذى اوصى بفدك ليس النبى، انه الاب الذى انجب... و الوارث- من جهه تاليه- ليت نبيا،انها الابنه التى لها لحم و دم، انها التى لا تعيش الا بالخبز و الماء، و بكل حقها من الارث...

ثم هنالك الاحترام- احترام ذلك الذى كان الملم المعم- ذلك الذى قسم الشرع،و ظهر الحقوق و الموجبات، و وضع الحدود و المقاييس، لقد كانت كل كلمه من كلماته شرعا... لماذا لا يحق له ان يوصى؟

«كل ما يرضى فاطمه يرضينى».

«كل ما يغضب فاطمه يغضبنى».

لماذا الشهود على الوصيه فى «فدك»؟ اليست هذه- ايضا- وصيه تثبت كل وصيه؟ و هذه لم يلزمها اى شاهد...

فلنعد الى الخط التاريخى:

وصلت «فدك» الى يد النبى فاوصى بها الى فاطمه.

مات النبى، فتوصلت الخلافه الى ابى بكر الصديق فى اجتماع السقيفه، كان غائبا عن هذا الاجتماع على بن ابى طالب لانهماكه بتجهيز جنازه الرسول.

ما كاد اهل البيت يفيقون من لملمه المصاب حتى تكشفت امام عيونهم خيوط الموامره.

مهما يكن من امر- تم السكوت فى قضيه الخلافه، درء لاى تفسخ يضر بالوحده.

قطعت فاطمه عن ميراثها فاقدمت تطالب به- فى مجلس الخليفه بالذات- بخطاب مفند.

طلب اليها تقديم الشهود بالوصيه، قدمت شهودها، لم تنجح، دعمت حقها بالارث بكل آيه وردت فى الكتاب الشريف- فى ما يختص بيحيى بن زكريا، اذ يقول:

(رب هب لى من لدنك ذريه يرثنى و يرث من آل يعقوب).

او (وورث سليمان داوود).

او: «اولو الارحام بعضهم اولى ببعض فى كتاب اللَّه».

او: (يوصيكم اللَّه فى اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين).

كل ذلك لم يلق اذنا صاغيه.

و راحت «فاطمه» تتربص، تحرك المشاعر، و هى النحيله الناعمه...

لا اشك فى انها اصبحت:- و ترا فى غمد-

ختام البحث
تلك المامه لم يتوفر لها الا الخط العريض- اكان تاريخا و اجتماعا ام رايا و تعليلا-

فى مثل هذا الجو عاشت فاطمه الزهراء، متاثره بمحيطها، و بهاله و ضاءه غمر كيانها بها ابوها النبى و زوجها الامام.

بهذه الهاله اتشحت فانجبت الحسن و الحسين- و بهذه الهاله قادت معركه ابيها و زوجها فى الساحه التى برز لها فيها ابوبكر الصديق و من خلفه عمر بن الخطاب، و بفعل هذه الهاله انفرط الكرسى من تحت عثمان بن عفان.

و بقيت لها هذه الهاله فى اقصى المغرب و اقصى المشرق، ليكون لها دوله فى مصر- فيما بعد بثلاثه قرون- تتيمن باسمها و تتبرك.

و هى عينها اليوم- تلك الهاله- توحى لها الاجلال و المحبه و التقدير، فهى سيده كل عبق من كل طهر و كل عفاف.

خطوط
عناصر البحث:

على طريق القوافل

اكبر القوافل

قافله محمد

خديجه

بيت النبى

القافله الجديده

دثار

بعد الانذار

الرفيق

رهافه

المراه

على طريق القوافل
و العروبه... بم اخط خطوه فى صحاربها- ولكنى اجتزتها بخيالى فانفتحت امام خاطرى حراتها المحروقه بسيول اللهب، و نفوذها المطروحه الامداء كانها اشباح الليالى الطوال، او صرصرات العصور المجدبه.

و لقد انفتحت كل آفاقها عى ابعاد متراميه الاطراف، مغلفه الرمول بنشفه موحشه.

كان ذلك منذ البعيد البعيد، منذ انفك عن خصرها طوق الجليد فانفتلت تغمرها الشموس بدوافق السعير، لتنتشر فوق صحاريها امواج السراب كانما هى كل احلامها فى استدرار الديم.

هكذا ربى الانسان فيها عداء، وسع فيا فيها، من حره الى حره و من فدفد الى فدفد، قفزا على قفز، طول الليالى... لقد مل- السراب معينا من ملافح النار. و بئر زمزم لم تتسع ريا- فوهتها لاكثر من (هاجر) و ابنها اسماعيل- لذلك امتطى العتمات- فى كل عشيه- وراء كل قطره ندى او مخايله سحاب.

و كان العراق مهبطا من اغض المهابط... و اذا القيلوله تنبسط من شطئان دجله و الفرات لتتوسد كل خميله تزهو على ضفاف (بردى) او تحت بواسق (الغوطه).

و امتد حبل القوافل من مكه الى الكوفه- الى شنعار- الشام و التيماء و البتراء: تخرج بالعبير و تعود بالحرير...

و اعتاد ابن الجزيره شد الرواحل، و راح ينقل اسفاره صوب تلك المراوح. لم يكن ذلك ساما اكثر مما كان توقا الى غصن ظليل و نسمه عليله، اكثر مما كان حاجه لتطوير حياه جمدتها الاغبره فيب نطاق الرتابه، و هصرتها الشموس تحت الخيام و الاطناب، و لفحها الشح برجفان السراب و قحط السحب.

و الحق يقال: ان كل تطوير فى حياه الجزيره كان بفضل هذا الجوار الذى انفتح امام زحوفات القوافل فى مدود ارتحاليه و مدارات تجاريه طويله الامد، سبقت زحوفات الفرس و اليونان و الرومان، قبل ان يكون لهولاء كيانات اجتماعيه منظمه الروافد، قبل ان يهبط ابراهيم بهاجر و اسماعيل، و يتركهما فوق الارض التى انفجرت منها بئر زمزم. كان ذلك مع اولى لمحات التاريخ، مع اول انسان تمكن من خرق الخط الرملى الكثيف، مع تلك العهود الاكاديه- السومريه- الكنعانيه- العموريه.

هكذا كان ابن الجزيره يفيض فى هجراته- على ظهر القوافل- فى موجه اثر موجه،نزوحا و رجوعا: مع العرب البائده من ملوك حمير و بنى كوش و قوم عاد و قوم ثمود و العمالقه، و مع العرب العاربه من بنى قحطان و حضرموت، و مع العرب المستعربه بابراهيم و اسماعيل و عدنان.

و هكذا رسمت خطوط القوافل على طريق البحر الاحمر، و خليج العقبه الى ايلات، و من هناك الى صور و صيدا، و الى طول الشاطى ء الفينيقى القديم تحت عين (حيرام) ملك صور.

و هكذا كان ينتقل، من الحجاز و اليمن: البخور و الطيب و المر و العود و للولو- و موجات من الانسان... و يدخل اليها الذهب و القصدير و العاج و خشب الصندل و الابنوس و ريش النعام، و يدخل معها الفكر ملقحا بثقافات تعبت فى نحتها اجيال الانسان و مدنيات مجتمعانه.

ففى الجوار كانت مدنيات السرمويين الاكاديين يتوارثها الاشوريون و البابليون و الكنعانيون و الفينيقيون، ليعكسوها على قبائل الفرس شرقا، و على قبائل اليونان و الرومان فى غربى المتوسط.

و اشتركت القوافل فى نقل هذه التراثات من قواعدها برا على متون الرواحل، و بحرا على خشبات السفن.

و امتزجت القبائل المهاجره من الجزيره بالعائده اليها فى خط تم فيه

الاختلاط و الامتزاج و الالتحام، مما اضفى على العروبه اطارا موحدا لكل هولاء الذين اندمجوا فى خط تاريخى بعيد الغور، سحيق المدى، و ثيق التفاعل.

لهذا جاء الفتح قى صدر الاسلام- تحمله القرابه- سهلا هينا. و حيث كانت القرابه اكثر و فره كان القبول بالاسلام اكثر يسرا.

على الخط الذى كان يصل مكه بالشام كانت القافله الكبيره تسير- قافله خديجه ....

اكبر القوافل
و كانت على الخط قافله خديجه- لم تكن الاولى بين القوافل، لا بجوده رحالها و لا بانتظام سمتها.

و لطالما نظم عقدها (ميسره) فعرج بها على يثرب ليمسح عن اوراكها اوحال الغبار، و ينفض عن كتفيه و عثاء السفر، ليعود فيستانف السير فى قلب البوادى على حدو اصم، ناشف الخف، يابس الوتر، لينكب فى وادى سرحان مستانسا بنسيمات رطيبه تنزلق اليه على طول هذا الساحل المتاخم للبحر الاحمر، ليشرف- بعد طول عناء- على البواسق الغوطيه و الخامل السندسيه التى تفترشها بلاد الشام.

اجل- لم تكن قافله خديجه القافله الاولى بين مكه و الغوطه، او بين مكه و العراق، فطالما شاهد وادى الرمه و بريده نجد خطوط القوافل منساقه على حدو رتيب تساجلته اوديه الجزيره، و استعذبته آذان الابل.

و لكن قافله خديجه هى القالفه التى تسصبح عين القوافل، هى التى ستفقه معنى الانفتاح، هى التى ستنتقل بالاحتكاك من مفهومه التجارى المادى المحدود الى انطلاقه الخير الواسع المفتوح- الى المدى الرحب- الى المدى الارحب الذى يوسع اجواء الجزيره.

اجل، اجواء الجزيره- الجزيره بالذات، الواسعه، المفتوحه، الهائمه الحدود- المتراميه الاطراف: من خليج العدن الى الخليج الفارسى، الى خليخ العقبه- من حضر موت، الى الاحقاف- الى الربع الخالى، الدهماء، الى الحجاز، الى تيماء النفوذ... مع كل ما فيها و ما عليها من عشائر و قبائل و انماط عيش و وراثات تقاليد.

كل ذلك الوسع كان اضيق من ان يجمع شعبا و يسبغ عليه لونا مجتمعيا سمح الاهاب رتيب القيافه.

و تغير لون القافله، لقد بقى فيها (ميسره) ليمشى فى عيرها. اما الامين محمد،فلقد حل فيها ليشعل النار فى اوتادها، ليحرق اطنابها على الدروب، ليذربها رمادا فى سماء الجزيره، قطرات ندى فوق احقافها و نفوذها و دهمائها- ليصبح صوت (بلال) قرار الحدو بين حداتها.

قافله محمد
و التهبت قافله خديجه: بلفته عين، بهمسه قلب، بومضه روح، بشعاع ما لمس ساكبه حتى سطع وهجه، بشعور ما لمح حسه حتى اج سعيره.

و انتدب محمد لقياده القافله... ما عرج على يثرب الا لياخذ حفنه من الترابه التى امتصت رفاه ابيه، هناك ثوى «عبداللَّه» و هو يقود قافله مكه صوب المناهل،و لكنه مات صديانا، و الى مكه لم يرجع.

ثم مشى محمد، و هو يعرف كيف يمشى، و مشى معه التوق و الايمان، و اختفى من امامه السراب فى ظل غمامه، لقد امتصت الحفنه التى فى يديه من بقايا ابيه- اوهام الرحيل و اعباء الطريق، لقد ادرك فى مثوى ابيه سر الشهاده...

لقد تمكن من هضم العناء فى السير الطويل- ان الجزيره التى مشت- منذ الاف السنين- على درب القوافل، لم تجن- قط- ثمره اتعاب المسير على حدو الرواحل، ذهبت فى عطش و لم توب مره على غير عطش.

اماه (ميسره) فسيظل فى يده مقود عير القافله، و سيبقى مشدوها بين يدى رجل مشى الخط الطويل و لم يتعب، لان «ميسره» الذى كان يمشى بقدميه و اوصاله، هو غير «محمد» الذى كان ينتقل بفكره و خياله.

و سيعود «ميسره» الى مكه عطشانا- لان ما دفع الى السير من مكه كان ثقل السراب، اما «محمد» فان السراب كان تحت قدميه لما مشى، و سيعود بكل غمامه تمحو من جو الجزيره اظلال السراب.

و لقد وجد فى جو الشام سرابا- فوق بردى و فوق شواطى ء الاردن لمح السراب... لقد مات «عيسى» مخنوقا فوق صليب، من وطاه السراب هذا تنفخ به فى الجو غطرسه روما... لقد كانت العبوديه فى الشام ذياك السراب... شهد له بذلك- على طريق - الراهب «بحيرا».

و رجع «محمد» يلقى بين يدى خديجه جنى القافله... و رنت اليه بعين،

و حدبت عليه بقلب، و حنت اليه بروح، و ضمته بشوق، لقد ادركت- من عينيه- تصميم العقل و عزم البطوله.

و رمت تحت قدميه كل ما ردت عليها- من قبل- اعقاب القوافل و القت بين يديه احلال المصير.

خديجه
و قلب خديجه كان يتلفع بالسراب، على ظما فى الفكر و فى الروح و على لوعه الواقف على المفرق الحائر، و على حنين موود، كانه عناق الخيال فى الكرى او مداعبه الطيف فى الخاطر.

تلك احاسيس النفس يحجبها عن مدى الشوق ستار و عن تذوق الحق ازار... و ما كانت التقاليد الموروثه فى مجتمع خديجه لينيلها حق التعبير عتن مدى الشوق فى نفسها الا فى نطاق مكبوت كان له الواد بالمرصاد ان فات الحدود.

هكذا تلقطت خديجه بالافق المبهم تتلهى عن الرجال بشد الرحال و تلجم النهى بمناجاه السهى.

و فى اللحظه التى وجدت فيها منطلقا للارداه كسرت الطوق و ثارت على التقاليد،و كان لها من الحق ما اعتصمت به على الاقدام و التحقيق.

كان ذلك صادقا فى نفسها و فى ايمانها، لذلك كانت لها قوه الاقناع لانه كان لها من ايمانها كل الاقتناع.

هكذا يتعين الحق اذ يترسخ الايمان به، و لن يلوى عن الحق عنان اذا دل عليه صدق الايمان.

لقد خفق الحب فى قلب خديجه، و فيه من الصدق مدافق، و فيه من الحياه تعابير الحياه عن نفسها: من صدق الوجدان و صدق العقل و صدق الاراده.

لقد فجر الحب فى قلب خديجه عقل وسعته التجارب فاصبح فى وجودها تلك المصفاه التى تنقى فيها العواطف من املاح الجسد لهذا كان حبها فى غمرته نقيا صافيا، لانه حب لم ينزلق الى القلب من الشرابين الا بعد ان مر على العقل فى مصافيه،و هذا هو الحب الذى يخلد فى غمرته.

هكذا احبت خديجه محمدا: ملامح نور لا ملافح نار، رجاحه عقل لا غضاضه عود- احبته بعقل الاربعين لا بغفله التسع، و لا بنزوه العشرين- احبته فى

اراده التعبير، فانساقت هى اليه و لم تسق- ولكل امراه فى تنسيق الزواج: بين ان تسوق نفسها و بين ان تساق- بشير سعاده او نذير شقاء- تلك هى حريه الاراده ينبثق منها صدق الميل و صدق التعبير فى انشاء العقد الاجتماعى الصحيح الجذور.

و كان لخديجه- من قبل- زواج باكر لم يمتعها الا بارتشاف السراب لانه كان اراده مشلوله و قلبا موودا، كان فى نشقه الحس و تعقيم الشعور، كان سوقا و لم يكن شوقا، كان تسييرا و لم يكن تعبيرا، كان عاده و تقليدا، و لم يكن رايا و توليدا، كان و ادا و لم يكن و قدا، كان وزارا و لم يكن ازرا، كان كسبا و لم يكن حبا.

لهذا وقفت- بعد ان فرط الموت هذا- الرباط- حيرى على المفرق التائه، تعالج قلبها بكف جف ملمسها، و تحنو عليه بعين خف لموعها، و راحت معه تتلهى على طريق القوافل.

و اصبح لها على الدرب الطويل رغبه الكاشف و خبره الدليل، مع لمح الذكى و فطنه النبيه.

و تمت لها- فى محمد- هديه القلب الى المعين، و كان لها من صدق الحسن ارتكاز الاراده على عاطفه مجلوه، لهذا لم تتردد- فى ثوره على التقاليد- و اقبلت تعرض هى على محمد- تجسيد هذا الحب، و صب هذا الحنين فى قالبه و استمطار هذه الديمه من مجاريها.

و تضاءلت بين يدى حبها الكبير مجاهيد دنياها، و ذاب من تحت عينيها بريق الذهب، ذلك كان ايمان الحب بالحب، و ذلك كان التجريد الذى اختفى من تحته و هج السراب.

اما الامين محمد- فانه ما استجاب لهذا الحب الذى مرت عليه البواكير، الا و هو يشعر بان قلب خديجه لم تخفق- الا اليوم- فيه بكارته، و لقد خفق معه العقل فتوحدت فيه الخلجتان.

و لم يلمح على جبين خديجه غضون الاربعين، و فى عينيها كانت تطوف فتوه الروح و صلابه العزم- و هو الوحيد المدرك ان الجسد ثويه الروح و لا قيمه له الا بها.

و ها هو اليوم- فى غمره شبابه، و فى ربيعه الخامس و العشرين- ما نقرت على عوده بعد نغمه فيها من الحب المستطاب كالنغمه التى وجلت بها خديجه الى كيانه، لا بلونها و لا بعمقها: فلقد كانت جريئه كانها البطوله فى اقتحام الحصون، و باهره كانها لمعان السيف سحب لاول مره من غمده.

و لقد وجد فى هذا الحب ثروه ذابت فى كنز، كانها الهشيم لا يجمع الا ليحرق فى كل ليل هابط، استجماعا لدف ء او استناره لقرى.

هكذا القت خديجه- بين يديه، على بساط هذا لوله- ثروه نبذت قيمتها لتجعلها وسيله بلوغ الى اهداف، كانها الشموع التى لا تذاب الا فى اضاءه المحاريب.

البيت الجديد
و رفت على البيت الجديد سعاده فيها من الندى كل طراوه- و راح السكون يغلف كل عشيه و كل سحر.

و درجت فى باح البيت- على التوالى- ثمرات هذا الزواج الهانى: من رقيه الى ام كلثوم و من زينب الى الوسيمه الزهراء.

و كانت هناك- فى الركن السموح- زاويه كانها المظله، يدرج فيها ايضا فتى صبوح كانه بدايه الصبح من خلف الافق، فتى ضمه العطف الى كنف ابن عمه، فربى فيه كما يربو القلب فى حنوه الضلوع، انه الفتى على.

و مع كل سجو اصيل كانت تشهد العشايا انسلال طيف الى غار لا يعود منه الا فى ظل سحابه.

و شب البيت على تلك الرهافه: على دعابه لاهيه كانها البراءه و على صمت خافق كانه الارتقاب، فكل ما فى البيت جوانيس، و كل ما فى البيت جو رهيب، يلمسه الحنان بكف و يخشعه الجلال بجبين، ياخذه الحيا بمرح و تضبطه المهابه بايحاء،فهو جو يشبه الافق: قريب من الارض و عن الارض بعيد.

هكذا مدت بن هذا البيت و (غار حراء) سلك مزدوج البطانه: هذى حرير و تلك اثير.

و عاج بالبيت هذا الحرير، و غام البيت بهذا الاثير.

و عمق الحب حتى لمعت به العين.

و عظم الاجلال حتى عمق به الصمت.

و عز الوصف، فالبيت بيت النبى.

القافله الجديده
لقد مات ميسره- خنقته اغبره الطريق!

و عير القافله. اختنق- بمقوده البالى اختنق!.

لقد بقيت هناك بعض النوق باركه تجتر لعابها و تترام على فصلانها، بانتظار من يهمزها الى سير جديد.

و لن تهمز هذه المره على الحدو العتيق، و لن يستشار- فى اقلاعها- لا راى المنجمين و لا ضرب القداح، و لن تلجا الى اجتناب كل نهار محرور او كل ليل مقرور، و لن تكون موسميه منتظره او جانبيه مبتسره- ولن يعرج بها- تيمنا- بين يدى العزى او تحت اقدام هبل، و لن يشد بها حبل من سراب او وتر من تراب، ولن يغذ السير فيها جهد عقيم او عزم قاحط.

كل شى ء قد اعد للقافله الجديده- فى غار حراء-: لقد شد لها العقل، و الشوق،و الايمان- الفكر، و العزم، و البصيره- و تاملات كانها الغوص، و انفتاحات كانها لانعتاق، و استراحات كانها الانطلاق، و تصاميم كانها البطولات، و عبقريه هى كل الارتكاز.

كل شى ء تهيا- لقد هتف النداء:

«ايها المدثر- قم فانذر».

دثار
لقد ارتجف الانسان فى محمد- فادثر. و انسان محمد هو ربيب الجزيره يعرف تقاليدها و اوهامها، و كل حساباتها و ارقامها.

ليس قليلا- على محمد- ان ينقض الغبار عن كل هذه الصحارى و ليس خفيفا عليه ان يخنق كل هذا السراب.

و لم تكن القوافل فى الجزيره الا لتكاكل من هذا الغبار على غير شبع، و تشرب من هذا السراب على غير رى.

ان يشبع الجزيره- من جنى الجزيره، و ان يروى الجزيره- من معين الجزيره- كان عليه ان يصقل الجزيره بانسان الجزيره.

و لن يكون العمل الضخم الا على حساب عمر يشحنه بالعزم و التصميم و البطولات.

خاف الانسان فيه فارتجف و ادثر.

و استيقظ الروح فيه، فهب و انذر.

بعد الانذار
ان الكوه التى انفتحت فى (غار حراء) تلقطت بالفضاء و راحت تربط الارض بالسماء. لقد اصبح للجزيره كتاب يماشيها و يرفع الانسان فيها الى مرتبه، لقد تعين الجهاد فى سبيل اعلاء قيمه الكلمه- تلك الكلمه التى تفسر معانى الحياه فى اجل معانيها و روابطها- و لقد بدا الانطلاق مع التصميم المدروس يثير الهمم و يحرك الحوافز، و لقد اخذ الوعى يستشار مع الاستعداد لكل عمر خطير و مع القبول بالتضحيات على حساب اى مصير- و لن يقف فى الدرب لا خوف و لا قلق- ان القضيه اجل من ان يرهقها الجبن و امتن من ان يجمدها الخوف و اثمن من ان يقيمها الفقر، ان مرحله الخوف تخطاها التصميم البطولى، ان الوعى النفسى تجلت قيمته مع كل عزم على التنفيذ. لقد رمى الدثار جانبا، لقد اصبح مجرد دثار مغزول من وبر الابل. ان الذى كان تحت الدثار اصبح قوه انطلاق لا تحتاج بعد اليوم دثارا يتخبا تحته راس «نعامه».

(ايها المدثر، قم فانذر).

و كان الانذار- باسم اللَّه توحيدا- و كان الانذار نزولا الى الساحه الرحبه بذلا و سخاء- بذل اعراق و دموع مع السهر الطويل، مع التشريد، مع الفقر و الجوع، و مع الصبر الجميل، و مع الاحتمال و الرضى.

اى شى ء سيتمكن من الصمود امام التصميم- ان الهجره الى الحبشه لن تكون غير اراده ما انسحبت عن الخط الا لتعود اليه مع الايمان المتمكن و مع البطوله المصقوله.

و هبت الجزيره تقاوم الزحف المقدس، راح المريض يعض يد المداوى، لقد رفضت العين الرمداء جلوه المرود.

ولكن قوه الحق هى التى فرضت نفسها فى الميدان، لقد رضخ المريض لمشيئه الطبيب، و لن تكون الهجره الثانيه الى المدينه الا جمعا لشمل و ترسيخا لبنيان سوف تشهق من فوقه ذروات الماذن.

فى المدينه المنوره لاقت فاطمه اباها لتمسح عن جبينه الطاهر اعراق الجهاد- غبار الدروب عبر الصحارى- غبار التشريد و اتعاب التسهيد لتلقى راسها الصغير على صدره فتسمع دقات قلبه الكبير، و لتتيه بابيها كبرا.

لقد تم الانذار، و تم التبشير، و اصبحت الرساله تحقيقا جمع الجزيره من حواشيها نحو اندفاع ما شهد التاريخ له مثيلا.

الرفيق
نعم الرفيق الفتى الصبوح-.

لقد مشى الطريق بعينيه قبيل ان يمشيها بقدميه.

شرب السحاب، و لما يهم بعد السحاب. و استمطر الغمامه، و لما تكثف بعد الغمامه.

و ما كان على بن ابى طلب- فى هذه السنين القليله من عمره: اكانت سبعا ام بلغت تسعا- الا من هولاء القله النادرين الذين يقفزون من فوق عتبات المداخل، من هولاء الذين يومون الحياه بواكير فى مواسمها.

و لم تكن العشره السنيه لتضفى عليه اكثر مما يضفى على المرمر ازميل النحات، و على اللوحه ريشه الفنان، و على الوتر نقره الموهوب.

و ما كان الجو الذى ربى فيه الا ليكون له منه كانعكاس النور على الصفحه الصافيه و كارتجاع الصوت من مجوف الكهف.

و لقد ادرك نور محمد ايه صفحه صقيله يداعب، و لقد ادرك صوت محمد اى كهف عميق يناجى.

لهذا انفتل على بين يديه كما تنفتل العجينه فى يد العجان، يرقها بكفه و يخبزها بفرنه.

و اصبح على من محمد: رجع صوت، و انعكاس نور، و خبيز فرن، و ركيزه تحقيق ، و صدر مشورات، بيكار هندسه، و مدى انطلاق.

و اصبح سيفا.

و اصبح ترسا.

و اصبح ارثا، و وسع مجال.

رهافه
بينما كانت هناك الاخوات الكبيرات يتقدمن الى عتباب الحياه، ليخرجن- الواحده تلو الاخرى- الى مضمار الواقع، كانت الصغرى فاطمه، تودع كلا منهن لتزيد من ولوعها بامها و ابيها.

لقد حملت «زينب» الى بيتها الجديد حيث كان ينتظرها المصير المترجرج بين يدى ابى العاص ابن الربيع، و كذلك تقدمت «ام جميل» زوجه ابى لهب و حماله الحطب- فانتشلت من حضن هذا البيت الكريم «رقيه» و «ام كلثوم» لتجعلهما فى عهدتى و لديها «عتبه» و «عتيبه»: رجلين وصلت اليهما- وضاعت- سبل المكارم.

و بقيت فى البيت «فاطمه» تملا الفراغ فيه، لقد غابت عن البيت مازر و بقى فى البيت و شاح.

و راحت «فاطمه» تسرح فى البيت الخالى، تعى و تتامل، لقد بقى لها وحدها هذا البيت، فهى صغيرته، و لقد اصبحت رابعه ثلاثه فيه لكل واحد منهم فى قلبها ظل مونس،: و لها فى نفس كل واحد منهم عطف خصيب.

و عاشت موفوره الدلال ملونه العواطف، مرهفه الحس منزهه الشمائل، على انوثه تعهدتها كف امها بشمله الحب المعفف، و عين ابيها بغمره الحنان المطهر، و رفقه على بخفقه القلب الطهر البرى ء.

و عين ابيها- يا لعين ابيها- تشرب العطف منها مناهل كانها الصبيب السكيب من الكوثر.

و غرقت «فاطمه» فى حضن ابيها، بين ذراعيه، و تحت عينيه: يشمها كانها السوسنه، يضمها كانهاالشوق، يعانقها كانها الحنين، يلثمها كانها البراءه.

لقد تفردت «فاطمه» بالحب العظيم، اى شى ء فيها كان الموحى؟ اهى الطفوله فى براءتها، ام هى النجابه المتوسمه؟

و كبرت «فاطمه» و تجلت معها براءه الطفوله و نما معها الحس المرهف، و توسعت حدقتاها، لقد اصبحت تنظر الى ابيها فتراه افقا وراء افق، خطا خلف خط، غارا فوق غور، حبا خلفه مدى، عطفا دونه عمق، فكرا خلفه بصيره، حكمه وراءها قصد، جسما طيه روح. و اصبح حبها لابيها حبا فيها من الاجلال بقدر ما فيه من التفانى، و انطوى عطف منه عليها على عطف منها عليه، فاصبح العطفان من معدن واحد.

لم تخب النجابه المتوسمه- لهذا كان حب الاب لابنته حبا فريدا، و لهذا كان حب الفتاه لابيها حبا غنيا، و لهذا قال الاب الكبير:

«ما يغضب «فاطمه» يغضبنى

و ما يرضى «فاطمه» يرضينى».

و توالت العوامل- فيما بعد- على «فاطمه» تشحذ هذا الحس فتزيد رهافته، ففى الوقت الذى انقلب فيه حبها لابيها من نطاق حب بنوى الى تقدير بالغ الخطوره، اصبحت لها عين كالسهم و اذن كانها الغور، و اصبح لها قلب كانه اللين، و فودا كانه الوهج البعيد.

لقد تحكم العقل بهذا المعدن، فطاب الوجد فيه مع النهى كما يطيب السيف على المشحذ، و هانت عليها رساله ابيها- لم تبق لغزا خفيا: فهى رساله، ان توخذ بالادراك المتبصر، فانها توخذ- ايضا- باللمح الناعم، و لن تكون مهمه الادراك لغير جلوه هذا الحس فى منبع الشعور.

لهذا انعكس ابوها فى وجدانها، فامتصته فى عقلها و عبرت عنه فى عاطفتها، و بفضل هذا الحب ازدوجت لها الحالتان، فهى بنت ابيها فى الوقت الذى اصبحت فيه «ام ابيها»- و تلك اول تسجيله حلوه من نوعها تاخذها صفحه ناعمه من صفحات التاريخ.

و على- بينما كان فى المبتدا مجرد انيس طفوله و رفيق ملعب، اصبح- بعد ان شبت و شب- خيالا لطيف، و مراه لجبين، لقد اصبحت ترى فى عينيه طيف ابيها. و ظل ذياك الجبين.

و لقد كانت تهواه فى كل انعكاس برى ء الصفاء- تهواه فى انعكاس عقلها على قلبها، و اصبحت تهواه معكوسا عليه و هج ابيها.

هكذا اصبحت لها جلوات الروى و توجيه الميول- لقد اغتسلت شرايينها فى تلافيف عقلها، و انطفات مجامر الدم فى هذا الحنين.

و لن تحب رجلا لانها لحم ووتر و لانه عظم و عضل، و تسحب رجلا يكون و شاحا و خيالا و فكرا و ايجاء.

و لن يكون سير القضيه التى نفخ بها ابوها على المزمار الا على درب كله شوك و تبريح، و لن يثبت عليه الا كل بطل له العبقريه سيف و الحسن المرهف جناد.

و لقدبدات طلائع العاصفه تثير الغبار، لقد رجعت الى البيت «زينب» من زواج خاسر، صبغ على وزن اللحم و الدم، و ستعود فى غد «رقيه» و «ام كلثوم» من زواج عقد على الوزن المماثل.

و تلك اضافه اخرى فى بطانه القالب الذى كانت تتوسع عليه حدقه عين «فاطمه»، فاصبح لها راى متنكر لكل زواج مماثل لزواج اخواتها- حتى اضحت تفضل ان لا ترى رجلا.

ولكنها سوف ترى رجلا يرزم اشواقها و يكثف احلامها، و ستقتنع بصدق رجولته، لا و حسب- لان اباها هو الذى سيدعوها الى الالتصاق به- بل لانها هى التى-بعد ان اكتمل وسع حدقتيها، اصبحت تملك عدسه المنظار.

كل شى ء فى وجود «فاطمه» ساهم فى نحت شخصيتها فجهزها بهذا الحسن المرهف.

و لن تكفكف يد الموت عين امها الا لتغلب قلبها بهاله جديده من الالم و عمق التبصر.

و سيرهف حسها الى اقصى حدود الارهاف بموت ابيها النبى، و ستبكيه البكاء المقرح.

و ستصبح- مع رهافه الحس- رهيفه الهيكل مع كل صدمه و كل خيبه

امل تنتظرها على الدرب المضنى الذى وسع لها عليه صدر ابيها الراحل.

و ستذوق- مع مراره اليتم- مراره الحرمان مع كل خطوه ستخطوها- ايضا- على الدرب الذى عرضت عليه خطوات زوجها الفارس الامين.

و ستهوى حافيه القدمين، نحيله الخصر و القوام من فرط تلك الرهافه التى جعلتها بحق:

جلوه عصرها و سيده نساء العالمين.

المراه
و المراه- فى كل آن و زمان- انها هى رفيقه الرجل، لا تنفصل عنه الا لتلتصق به فى حركه انجذابيه ممغنطه القطب مقفله الدوائر، فهى منه و له كالجزء من الكل و كالخيط من النسيج. تلك هى الوحده فى ثنائيه وجوديه و ازدواجيه حياتيه، ما تمكن الانسان يوما من ان يملها و هو فى اطار هذا الكون.

و كانى بالرجل و المراه تكوين منفلق من خليه واحده الى شطرين يجمعهما دائما حنين الخليه الى وحدتها، فى سيرها المنجذب ابدا الى تكميل ناموس الحياه.

و ليست المناصفه او المفاضله بين هذين الشطرين شرطا من شروط التقييم، فميزان التقييم فى الحياه لا تنشال فى كفته فلقه الا و الثانيه معها على اتحاد، باعتبار ان كلا من الشطرين متمم للثانى عن طريق التداخل و الالتزام.

فاما وجودهما منفصلين- متحدين، و اما فصلهما مبتعدين- ملتغيين، فى الحاله الاولى خصب الوجود، و فى الحاله الثانيه فوهه العدم.

ليس ذلك فى اى معنى مجازى، فالمراه بعض الرجل، اكان طولها خمسه اسداس طوله او وزنها سته اسباع، فالقضيه وجوديه حياتيه حتميه مزدوجه- كالليل و النهار فى تكوين الدوره اليوميه، و كالسلبيه و الايجابيه فى توليد الشراره، فالجزء الذى- اذ ما يلغ يلغ قيمه الكل- له حتما قيمه الكل.

من هنا ان المراه فى وجود الرجل شطر متمم للانسان فيه، و لا قيمه لها او له الا فى كونهما قطبين متكافلين متضامنين، و لن تكون ايه عمليه حسابيه فى ايهما اوزن او اطول، افهم او اكمل، اول او اجدر- الا كعمليه انشاء المفاضله بين اضلاع الزاويه او المستطيل: اى ضلع فى نظر البيكار- من هذا او تلك- اجدى او اكمل؟ فلكل خط من تلك الخطوط قيمه التكميل، و حذف اى ضلع يلغى الهندسه.

من هنا ان المراه فى وجود الرجل هى البعض الذى يتمم الاخر- اكان

هذا البعض انعم او اخشن، اطول او اقصر، افهم او اقل ادراكا، فمن الطولين يخرج الاطار الواحد كما يخرج مربع المستطيل من ضلعه الطويل مع ضلعه القصير، و من الثقلين يتجمع الوزن الصحيح كما يتجمع وزن السيف من ثقل قبضته مع ثقل شفرته، و من القيمتين تتولد القيمه الموحده، كما يتولد النغم من خشبه القيثاره مع حبل الوتر.

و الطالما بحثت قضيه المراه و الرجل على سلم المقايسه و الموازنه و المفاضله، فلم يبلغ طولها اكثر من سته اسباع طوله اكثر من سته اسباع طوله و وزنها اكثر من خمسه اسداس وزنه- اما قيمتها فكانت تتمايل على مقياس مئوى من حيث كانت- فى نظر بعض الاجيال- صفرا. ففى الجيل الخامس للميلاد كانت لا تزال تعقد المجامع للنظر فى هل هى انسان لها نفس؟ ام هى فى مرتبه اخرى لها بعض الامتيازات؟

و كانت تحسب سلعه من السلع او متعه للرجل يلهو بها على هواه و يتصرف بها كما يشاء- فالعصر السابق لصدر الاسلام كان له حق وادها دون اى قانون يطاله بالتجريم- حتى اذا جاء الاسلام متعها بحقوقها و اعتبرها اما و زوجه و خصلها من الواد و الحرمان.

و ما زالت المراه حتى اليوم، مع كل ما توصلت اليه مدنيات الجتمعات المتحضره - توزن بثقل جسدها و تقاس بطول قامتها و نحافه هيكلها، و تقيم منفصله، بنسبه مواهبها الذاتيه، دون اى قانون يطاله بالتجريم- حتى اذا جاء الاسلام متعها بحقوقها و اعتبرها اما و زوجه و خلصها من الواد و الحرمان.

و ما زالت المراه حتى اليوم، مع كل ما تصلت اليه مدنيات المجتمعات المتحضره - توزن بثقل جسدها و تقاس بطول قامتها و نحافه هيكلها، و تقيم منفصله، بنسبه مواهبها الذاتيها، دون ان تحسب جزء من الرجل و ظلا عاكسا لحقيقته و رفيقه ملازمه له و بعضا متداخلا فى بعض.

و الصواب ان المراه ليست الا امتداد لكيان الرجل بتداخل صميمى فيه، و لن تفصل قيمتها عن قيمته طالما انها الحتميه المتممه لوجوده، و لن تقاس مواهبهاالا بالنسبه الى مواهبه طالما انها الخليه التى تستمد من هذا الشطر مقومات وجودها.

فاذا ما طلب منها ان تكون اعمق فكرا، و اكثر ثقافه، و امتن اخلاقا، و اشد مراسا، و اقل ميعانا، و اخف غرورا، و اصدق لسانا، و اثبت جنانا- فان ذلك

اولى ان يطلب الى الرجل ابرازه بجهد مضاعف حتى تتم على المراه عمليه الانعكاس.

فاذا شكى فى المراه من نقص فهو نقص الرجل يظهر فى المراه مثلها يظره اللين فى العظام من نقص الاملاح فى الجسم، او كما يظهر الهزال فى العضلات من ضعف الغذاء فى البدان، او كما يظهر الشحوب فى الوجه من ضاله الحيويه فى الدم.

ان الرجل و المراه شطرا جسم واحد، فاذا كان الرجل بحاجه الى ام فالمراه رحمه، و اذا كان بحاجه الى رفيق فالمراه شوقه و حنينه، و اذا كان بحاجه الى ترفيه فهى كاسه و عبيره، و اذا كان بحاجه الى مجتمع فالمراه تربته و خصبه.

كل مجتمع لا يعتبر المراه بمثابه اليد اليسرى الى اليد اليمنى فى جسم الانسان، يكون مجتمعا مسوولا- الى حد بعيد- عن تخلفه عن السير فى مضمار التحقيق و التقدم و الفلاح.

تكثيف المشاهد
عناصر البحث:

دراسه

طريق المجد

بدايه الحوار

الوتر المجروح

اسامه

عتب

صدمه

بلاغه

دمعه

ثلاث نساء

خطاب فى باحه المسجد

البطوله

التسجيل

وتر فى غمد

فدك

ابنه النبى

زوجه على

ام الحسن والحسين

الامامه

الارث

البقيع

بسمتان

اسماء بنت عميس

دراسه
من المفهوم ان عصر الجاهليه لم يكن يتمتع بشكل من الحكم الراقى. ان المجتمعات البدويه- شان مجتمع الجزيره- ليس لها اكثر من شكل او ترقراطى تتحكم به روح قبليه. و لا يرافق هذا النوع من الحكم ذلك الولاء الصميم الذى يرافق الوحدات الاجتماعيه المترابطه بالمصالح و المصير. فالقبائل المشروره فى الجزيره، على طول رقعه شاسعه، تفصلها عن بعضها البعض صحار و كثبان، لم تكن لتجمعها تلك الوحده الحياتيه، و لم يكن ليرعاها ذلك الشعور.

ان ذلك لم يكن مطلقا فى الجزيره، فالحقوق الشخصيه كانت شبه معدومه، و الملك الفردى كان شبه معدوم، و لم يكن الفرد اكثر من وحده عدديه فى القبيله، يستعمل للغزو، فهو متنقل ابدا مع قبيلته وراء الكلاء و التفتيش عن الاود.

و لم يكن بالامكان جمع هذه القبائل بهاتف من الاقناع العقلى- العلمى الذى يعين وحده المصالح مع وحده التفكير و وحده العمل و وحده التوجيه... لا يجد كل ذلك تلبيه له الا فى المجتمعات التاريخيه المثقفه التى مارست كل فضائل الاجتماع و استوعبت عمق المدارك. و هذا ما كانت تفتقر اليه قبائل الجزيره بحكم طبيعه ارضها و مناخها. لقد توصل الى هذا الفهم اولئك الذين هاجروا منها، الى ارض الرافدين- مثلا- فاندمجوا فى الارض التى هبطوا فيها، ووجدوا منها ارضا صالحه لهضم مجاهيدهم العقليه و الجسديه، هناك تولد لهم ذلك الولاء للارض التى انصبوا فيها- مثلا- فاندمجوا فى الارض التى هبطوا فيها، و وجدوا منها ارضا صالحه لهضم مجاهيدهم العقليه و الجسديه، هنالك تولد لهم ذلك الولاء للارض التى انصبوا فيها- مع الاكاديين او السومريين او الكنعانيين الفينيقيين- مع كل هولاء الاقوام اندمجت هجرات اهل القبائل من الجزيره فى تطوافهم القديم، فاثبتوا- باندما جهم الذى تطور الى مدنيات-ان الانسان يكون انعكاس البيئه التى يتفاعل فيها و معها تفاعلا تاريخيا.

ان الرسول لم يجهل هذه الحقيقه- حقيقه واقع مجتمع الجزيره- لهذا فانه لم يتمكن من جمع وحداتهم الا بفكره هبطت من فوق، فجاء الدين بالتوحيد

يفعل ما لا تفعله ايه قوه اخرى، و لقد قال: (لو انفقت ما فى الارض جميعا، ما الفت بين قلوبهم).

لقد برزت عبقريه النبى بشكل حقق الاعجوبه، فالجزيره كانت باشد الحاجه الى قوه ترزم قبائلها المتفككه و نزعاتها المتغايره و ميولها المتشتته. لقد كانت بحاجه الى من يوجه قوافلها المهاجره نحو الافاده من خطوطها التجاريه اليابسه.

و لقد تم العمل بسرعه- لا معركه «احد» و لا معركه «بدر» تمكنتا من ان تتوقفا فى درب المهاجرين الذين رجعوا لتنفيذ التصاميم المدروسه، و كانت الغلبه للذين كان عندهم التصميم على كل من لم يكن لديه اى تصميم. اما الشعب فهو الذى ينقاد دائما وراء القائد البطل- لست اقول:- عن فهم، بل عن انجراف و انقياد. لم يكن الفرد فى الجزيره- فى ذلك الحين على الاخص- ليولف تلك الجماعه الواعيه. ثم ان الفرد- فى كل حين- حتى فى المجتمعات الراقيه- شانه ضئيل فى التصرف، الا ان يكون من النوع الذى تليق به القياده.ان المجتمعات التى يكثر فيها هذا العدد من الافراد المدركين، يرفعون نسبه الرقى فى مجتمعاتهم و يعينون، الى حد بعيد- بروز القاده اللامعين فيهم لتخف الاخطاء فى القياده و اليتميز النجاح فى تطبيق المناهج.

و لم يبرز فى مجتمع الجزيره اى فرد تمكن من حصرالقياده و نقشها عتلى صفحات التاريخ- الا فى ظهور محمد- فحطم ابلغ رقم قياسى فى تاريخ خلود القاده العباقره.

غير ان النجاح الذى حققته الرساله الاسلاميه فى الامبراطوريه الضخمه التى غطت الشرق و الغرب لعده قرون، و التى اكتسحت بتعاليمها مئات الملابين على وجه الارض، لم تحقق فعلها بقوه تلك القبائل التى زحفت هائمه من الجزيره، بل حققته بقوه قابليتها، و بصدق نظرتها الى الحياه و الكون. اما ابن الجزيره، فانه جنى من منافعها ما تمكنت قابليته هو من الاخذ منها، و لقد فعلت فيه على حياه الرسول بنسبه ما تمكن الرسول نفسه من عكس التعاليم الرساليه عليه اشعاعا من شخصه الكريم: و جودا و تجسيدا و قدوه و تمثيلا، و الما قبض الرسول- اى لما غاب

عن الجزيره هذا الحضور هذا التجسيد الماثل امام العين- خبت الجذوه التى كانت تستمد من هذا المصدر و هجها و حرارتها، و انقسم- بسرعه مذهله- الخط الجامع الموحد، و استيقظت القبليه التى هجعت لمده قليله من السنين.

ان الوقت الذى عاشه الرسول فى محيطه لم يكن كافيا لطبخ النفوس و جعلها تتمرس بالحق و الصواب، و لقد كان يدرك ان المجتمعات البشريه يلزمها تاريخ- لابل تلزمها صناعه التاريخ، و صناعه التاريخ لا تتم الا بالمدى الثقافى المتولد من الداب الحثيث فى مجالات الحياه الخمصبه و المولده، بالتمرس بكل ما هو انتاج صادق فى مجتمع صادق، كل ذلك تحتاجه المجتمعات الراقيه- و احرى بمجتمع الجزيره الذى لم تلمسه بعد كف الحياه بحقيقه و اعيه، لذلك فهو بحاجه قصوى الى مدى، الى سلسله طويله من القاده الموجهين حتى تتم على ايديهم سبل التوجيه القويم و سبل المران الطويل.

ان شعب الجزيره كان بحاجه ماسه الى توجيه صادق يسلخه عن قبليته العمياء ليضعه على الخط الحضارى المتلقط بانتاج ذاتى هو وحده الذى يبقى مع كل مجتمع،ليبنى وحده ذلك الجمتع.

و شعب الجزيره- الذى بقى حتى هذا التاريخ، بلا قائد- يصعب عليه ان يخلق لنفسه مثل هذا القائد الذى رمت به اليها يد العنايه.

من هنا كان حرص النبى على القاء تبعات هذه الرساله الجليله و الطويله المدى على عاتق ولى يتركها اليه ليتوارثها عنه من بعده كل من سيصبح فيها اشد مراسا. و مع كل خطوه الى الامام يكون شعب الجزيره قد اصبح اكثر مرانا و اشد تعمقا بما يلقى عليه فى سبيل تامين مصيره كمجتمع.

و لكن موت النبى لم يحقق اتمام الوصيه و اتمام المخطط لاتمام النهج.

ان الاجتماع الذى حصل فى السقيفه- و جثمان النبى لا يزال فاترا- كان اكبر دليل على اليقظه السريعه للميول المكبوته المجمده تحت ضغط الهاله القدسيه

التى كانت تشع من جبين المسجى الصامت الذى كان على قيد الحياه منذ ساعه، لقد وجدت تلك الميول- فى هذه اللحظه التاريخيه الواجمه- متنفسا لها فعبرت عن روح قبليه جاهليه لم تتمكن حتى الرساله من وادها.

ان الجزيره التى كان عليها ان تغرق فى صمت رهيب امام الجسد الواقف على عتبه تاريخها، راحت تداعب ترهاتها و تتلاعب بمقدساتها، ان النضيد الذى لف النبى به جيد الجزيره، حسبته الجزيره من زجاج عندما قطعت عقده و راحت تبعثره بين الغبار. و لقد كانت معذوره فانها لم تشهد قط- فى تاريخها- لالى ء ذات حجم.

طريق المجد
لقد سلك الاسلام طريق المجد، الاسلام الذى هو فكره مقتنعه بصدق نفسها، و الذى هو فكره تمكنت من توزيع ذاتها اشعه ايمان. و لقد كان الاسلام فكره توحيد، وحدت الخالق و وحدت العمل الجبار الذى انطلق تبشيرا و فتوحات.

تقبلته الشام فتحا «يسيرا» و تقبله العراق فتحا «يسيرا». و الشام- منذ الاف السنين- و هى تتقبل زحف القوافل، و هى اليوم تفتح صدرها لاعظم قافله تنجدل فيها حبال النور. منذ سته قرون، و هى تحاول- مع عيسى- تقليص شبح العلج الرومانى و لم تفلح. اما اليوم، فهى التى تمد يدها بسخاء للزحف المقدس الذى سيطرح بكرتستانس الثانى الى اليم. و ليس العراق باقل ارتباطا من الشام بحبل الاواصر، و لا اخف منها شوقا لتقويض اركان ايوان كسرى.

هكذا امسى التوحيد يخط طريق الفتوحات: الى العراق و الشام الى مصر و افريقيا، الى فارس و مهابط الهند، الى اوروبا و حوض المتوسط. ان الفكره التى بشرت بالتوحيد كانت لها جاذبيه التوحيد.

و لكن الكفاح الذى مشى به الاسلام كانت تتجاذبه- فى الفكره الاصيله فيه- روحيتان: روحيه حضريه و روحيه مدريه، و مشت الروحيتان متوحدتين الى هدف مشترك، و انخدع التوحيد باسم التوحيد.

فالروحيه الحضريه هى التى اخذت لنفسها من الفكره مبدءا و عقيده تقيدت بهما بكل انضباط، لقد كان التشديد على العفه فى المسلك من اشد ما تقيدت به من مواثيق. اما الفكره الثانيه فهى التى مشت بثوبها القديم، تقنعت بالفكره كما يتقنع المتسلل بالليل لاتمام عمليه غزو. هكذا هب مجمل القبائل فى الجزيره- باسم الجهاد- لتجعل من الكفاح محارز اغنام- لقد كانت فكره التوحيد فذه، ولكن الموحدين لم يكونوا كلهم افذذا، لهذا مشى الفتح الى تحقيق يرافقه دائما خوف و قلق، اديا به الى انحطاط و انهيار.

«منذ البدايه و الفتح يعانى هذا العوارض، وبقى يعانيها فى سيره الطويل: عاناها على حياه النبى بالمومن و المرتد، و بالخلص الفاهم و المناصر المخاتل، و فى ساعه موته عاناها: بالمومن بالجهاد دربا الى الحق، و بالمومن به دريا الى نفوذ...

بفتح الشام عاناها: فتحا صادقا موديا الى انفتاح، و فتحا مغرضا موديا الى انعلاق...»

هكذا نجح الفتح مع كل اصاله، و هكذا خاب مع كل زيع، و هكذا كانت دائما تنقل الهجرات تجاراتها من الجزيره، و يتقبلها الجوار، اكانت صدقا يغنى ام كانت هرفا يضنى...

بدايه الحوار
بعد موته النبى- بعد اجتماع السقيفه- بعد نقض الوصيتين: وصيه الخلافه لعلى، و وصيه الارث بفدك لفاطمه- شهد العالم الاسلامى بدايه حورا.

«و ليس احب الى الحوار من المنطق، و ليس اشفع للمنطق من العقل، و ليس اجلى للعقل من الهدى، و ليس اقرب الى الهدى من الصواب، و ليس اضمن للصواب من الحق، و ليس اجدر بالحق الا الذين انطوت فى نفوسهم تلك القيم، و اشرف ما فى القيم نقاوه الوجدان.»

و كل قضيه لا تستقيم بدون حوار. ان نهضات الامم ما تحقق الجليل منها الا بعد حوار طويل، و لا اقول ان الحوار لا يمتشق حساما فاصطراع العقائد يودى فى اغلب الاحايين الى انفتاق الثورات فى الشعوب لتحقيق من العقل، و ليس اجلى للعقل من الهدى، و ليس اقرب الى الهدى من الصواب، و ليس اضمن للصواب من الحق، و ليس اجدر بالحق الا الذين انطوت فى نفوسهم تلك القيم، و اشرف ما فى القيم نقاوه الوجدان.»

و كل قضيه لا تستقيم بدون حوار. ان نهضات الامم ما تحقق الجليل منها الا بعد حوار طويل، و لا اقول ان الحوار لا يمتشق حساما فاصطراع العقائد يودى فى اغلب الاحايين الى انفتاق الثورات فى الشعوب لتحقيق الافضل و الاسمى، انه الحوار الذى يتنكر للكلام و يمتشق الحسام.

غير ان مفهوم الحوار- بشكله الناضج- هو ذلك الذى يعتمد الاقناع وسيله الى هدفه. اما اذا تعذر الاقناع «فاليسف اصدق انباء من الكتب».

و يتميز الحوار- بين ان يكون رصينا او ان يكون مبتذلا- برصانه المتحاورين و صدقهم، او باسفافهم و تخلفهم، و هنيئا لمجتمع بعتمد الحوار الرصين: حوار العقل و الحجه و المنطق- انه يكون مجتمعا يفتش تفتيشا عن المثل.

كلما كان الحوار رصينا، كان الوصول الى الحقيقه اضمن و اوفى و الحوار فى المجتمع هو الطريق المودى الى تطوير هذا المجتمع تطويرا ناميا، و لا ينهض مجتمع بغير حوار.

ان الحوار الذى قام بعد موت النبى لم يكن من هذا الوزن، فالذين اجتمعوا فى السقيفه لم يستدرجوا المجتمع الى حوار، لقد تحاوروا فيها بينهم و لم يستدعوا الشق الاخر لا ستكمال عناصر التنقيب و التوجيه.

ثم ان المجتمعين اى شى دعاهم الا الاجتماع؟ هل هو استلام الحكم، ام هو

الحرص منهم على الرساله- عن طريق استلام الحكم؟

ان يكن الاول، فلقد توصلوا الى الغايه، و لا لزوم الى حوار... و ان يكن الثانى- كما هو الادعاء- فلماذا الخوف من استدعاء رجل سلمه زمام الرساله من حمل الرساله؟.

ولكن القضيه لم تكن بحاجه الى حوار، لقد احتاجت الى تصرف. ان اهل السقيفه تصرفوا. اما الحوار، فانه قام فيما بعد. لقد دفعه حوارا ذلك الذى كان من الواجب ان يحسب قطب الحوار.

الوتر المجروح
ما انبلج صبح اشد كلوحا من ليل، كهذا الصباح الحزين يعصر ضلوع فاطمه الزهراء على حواشى فراش لصيق بالارض سجى عليه جسد بلا حراك- جسد كانت عيناه- لبضع ساعات خلت- كانهمار النور من الكوى، و كان فمه، كانفتاح الكوى على المناور...

و كانت تميد الارض بفاطمه و هى تداعب يدين مرخيتين، كانهما استسلام الحب فى غمرته- لا هى ترخيهما من بين كفيها، و لا هما- بين كفيها- تتاودان...

و كان فمها يتنقل بشفتيه لثما و تقبيلا على طول هاتين الذارعين المتلاشيتين،كانها تنقل اليهما من لواعجها دف ء الحياه و حره الدم.

و كانت نفسها تفيض شعاعا و هى تطوف حول الفراش البارد بعينين مغمضتين على لهب المجامر، لا الدمع يطفيها، و لا بروده الموت ترويها.

و كانت مناجاتها تطوف صعدا وهبوطا من قلبها الى لسانها و من جنانها الى عمق كيانها، كانها الوعى المسعور او الشوق المحرور.

ابتاه- اطعمتنى من قلبك و سقيتنى من عينك، لهذا انا اليوم اتضور جوعا اليك و اتقلى ظلما الى عطفك.

ابتاه- يا ايها الهابط الجاثم- ما هكذا تجثم الجبال على الشواطى.

ايها الصامت الساكن... ما هكذا تسكن الرياح مع السحب... ابتاه يا اعطف و اكرم اب ما هكذا تنقطع الصلات، و لا هكذا تنبتر المكارم.

و ما كانت فاطمه لترتوى، لا باللمس و لا بالهمس- فالاب الذى كان يملا عينيها ضياء، اغمض عينيه على هباء- واليد التى كانت تلف خصرها بالحنان- يبست على ملامسها الخماله...

لهفى على فاطمه، لهفى على الرهيف من حسها، لهفى على القد النحيل يهصره

الالم- لهفى على الصديقه التى رافقت اباها كما يرافق الظل اغصان الشجر والشذى الناعم النديان غب السوسنه...

فليكن لك البيت يا فاطمه- فى البقيع- وليكن لك كل يوم، بابيك لقاء- ليس كل اب كابيك، و لا كل دمعه كدموعك لها من سكبها طهر النزيف...

اسامه
و انت- ايها الفتى البطل- كانت تشوح بك البطوله الى اقتناص الامجاد. لقد كان حظك بالقياده مربوطا بمصير، والجزيره- يا اسامه

[اسامه- هو ابن زيد بن حارثه، و زيد هذا هو الذى تبناه النبى ثم سلمه قياده جيش لغزوه «موته» ثلاثه: هو و جعفر بن ابى طالب، و عبداللَّه بن رواحه. ولكنه فشل فى ذلك الحين و قتل و قتل رفيقاه فى القياده ايضا. ثم تولى القياده- فيما بعد- خالد بن الوليد، فغزا موته و افتتح الشام. و اسامه سلم قياده جيش كان من ضمنه: ابوبكر الصديق و عمر بن الخطاب و عبدالرحمن بن عوف و ابوعبيده بن الجراح و سعد بن ابى وقاص و غيرهم. و امر للتوجه الى البلقاء لمحاربه اهل «ابنى» الذين قتلوا زيد بن حارثه فى محاولته غزو الشام. و لقد تململ شيوخ الصحابه و طعنوا باسناد القياده اليط فتى يافع. و لقد فى ذلك النبى: «ان تطعنوا فى امارته فقد كنتم تطعنون فى اماره ابيه من قبل، و ايم اللَّه انه كان لخليقا بالاماره، و ان ابنه لخليق للاماره» ولكن جيش اسامه لم ينطلق، لقد اخره مرض النبى. ان الصحابيين الذين كانوا فيه عرقلوا هذا الزحف بانتظار ما سيحدث للنبى، و اغلب الظن انهم كانوا يتوقعون موته- ]- لم يكن حظها و فيرا فى سلوك المصاعد.

يا ابن زيد، يا ابن بطل خر صريعا فى ساحه النضال- لقد شهدت «موته» بدايه الصراع على يدى ابيك فى جلوه الحق و تكنيس الحرم من ادران الوالغين، خر صريعا و كان شهيد المحاوله.

و انت يا اسامه، يا شهاده الحق بان البطوله ليست وقفا على عدد السنين، كان حظك- و انت ابن العشرين- يضعك على الخط الذى يمشى عليه الابطال التاعسون.

لقد مات النبى- و هو يقلدك الوسام- فارتبط حظك البائس بحظ الجزيره الذى وقف على المفرق الخطر.

و مثلما تنكبت عن على- اثقال الخلافه- تنكنت عنك- يا ابن زيد- امجاد القياده.

عتب
من كان يحسب ان فاطمه المفجوعه بابيها لا تجد- بعد موت النبى- لفيفا يتقاسم حزنها و يخفف لوعتها؟.

عتبا على التاريخ، يتقبل فى فاطمه: كل كلمه مجنحه، كل وصف تتشوق الى مثله مخامل الورد و معاطف النرجس، كل صفه كانها تيمن الارض بانقى الشمائل... ثم يتقبل جحودا بها، كانها لغفله المنسيه او النواه المرميه...

يا اهل الجزيره- هذه الديمه هى ارخيه ذلك السحاب، يا تحرق الغبار الى السراب...

صدمه
كان بالامكان ان تخف لوعه فاطمه على ابيها، اجل على ابيها الذى اعتادت كل عمرها غرف الحنان من حضنه، و لم يكن وجود على ليخفف من تلك اللوعه، النديتين الصافيتين، ولكن الجفاء الذى قابلها به من حل- فى الحكم و الاداره- محل ابيها، هو الذى وسع على قلبها غمره الحزن، فالمركز الذى كان يحتله النبى هو نتاج عقله و خياله و نحاته عزمه و جهاده و حرم تفلته و اندغامه و محراب سجوده و قيامه. و ما كانت فاطمه- فى محرابه- الا صلاه فى ابتهاله فهى شعاع نفسه و بعض فواده.

ان الذى حل محل ابيها فى الحكم و التوجيه، لم يحل محل ابيها بالعطف، حل بالعنف و لم يحل بالتوده، حل كما اراد هو لا كما اراد ابوها، ذلك كان- بحس فاطمه- كل الاغتصاب.

لقد كان ابوها ابا لها قبل ان يكون ابا لاى سواها- فما بال القوم يغتصبون منها حتى اباها.

و ابوها هو الذى صنع الجزيره، و لقد احبته الحب الدافق لانه- بالحصر- صنع الجزيره. فباى عرف جاحد تزحف الجزيره- اليوم- لتحطيم حشاشتها و تهشيم ضلوعها...

و ابوها هو الذى كان رب المنطق و البيان، و باعث الحق و باعث الايمان، و هو الذى قاد، و هو الذى وجه، و هو الذى اخصب، و هو الذى وزع- فباى بيان تسد عليه سبل المنطق:؟ و باى حق يحجب من بعده الراى السديد؟.

و لم يكن النبى ليخلف- الا كله، ليخلف: فى ما قال و فى ما عمل فى ما اخذ و فى ما بذل، و فى ما وهب و فى ما اوصى و فى ما احتسب، و فى كرهه و فى حبه و فى نهيه و فى رغبه.

فاى شى ء هذه الخلافه منقوصه مبتوره، مفتوله مشطوره؟ ما طعم الغيره عليها و فيها الاثره؟ ما قيمه الشان لها ظاهره الصدق و باطنه الحيله؟ لقد ضاق النبى فيها و فيها قصر، و هو الطويل النجاد و الواسع العباب... اهى خلافه لنبى، ام هى تظهير للون؟ وسع الحرص فيها حتى ضاق، و ضاق العدل فيها حتى انفرط، و كان الحرص فى النبى فيضا و توزيعا، و كان العدل عند النبى رحمه و توسيعا.

كل هذه الافكار كانت تدور فى راس فاطمه الحزينه، و قد اقحمت الخلافه على ابى الصديق، بكل ما فى الامر من نقض وصيه ابيها الموصى. و فدك- نحله ابيها اليها- قد قطعت عنها كما تقطع يد السارق.

بلاغه
اى شى ء نفر بفاطمه الى ساحه المسجد؟

من قال:- ان البطولات وقف على الرجال؟

من قال:- ان النفوس الكبيره تعيش بغير شموخ؟

من قال:- ان الشعور بالحق يرضى بالمهانه؟

كل ذلك وجد تطبيقه فى الزهراء و هى تمشى- متلفعه بوشاحها الاسود- نحو باحه المسجد، بقد نحيل جارت عليه مبراه الالم...

اى الم؟... و هل للمفجوع غير التاسى؟...

ولكن فاطمه الزهراء ما جاءت تقول للناس: عزونى... بل جاءت الى الخليفه لتريه لون الشعاع فى الشمس، و لتسمعه نبره الناى فى خفق العواصف...

لقد قالت له المعنى الكثير، ولكن البليغ الذى سمعه هو الذى كان مسحوقا بصمت،و الذى جاء ملفوفا بوشاح...

دمعه
لا على، و لا فاطمه، كانا مقتنعين بنجاحهما باسترجاع فدك، و لم يكن تصرف فاطمه بالاقدام و المطالبه- اكان ذلك فى باحه المسجد على ملا من المسلمين، ام كان فى مراجعات اخرى فى بيت الخليفه، ام فى بيوت الانصار، ام فى ايه من المناسبات العارضه- عن اقتناع بان حقوقها بالارث ستعود اليها.

و لم يكن ذلك ايضا، دليلا على تفتيش البيت عن مورد يومن له الثروه و الترفيه، فالبيت هذا الف القناعه فى العيش: ان جهاز فاطمه لم تكن قيمته اكثر من قيمه درع، و لم يكن زواج فاطمه بعلى الا ليكون- فى معناه ومجتناه-متانه درع.

لقد قنعت ابنه الرسول، فى يوم عرسها، بثوبين من الصوف بقطيفه و خمار، فقنعت بفراش من خيش محشو بليف، وقنعت بقدر واحد و جره خضراء، و رحى لجرش حباب الشعير تديرها بكفها الهزيله، و لم تطمع باكثر من قعب للبن، وشن للماء، و قطعه حصير... هذه هى الدرع- درع على التى حملها على الى السوق بنفسه و باعها باربعمايه درهم ليصرفها جهازا لعروسه.

«هذه هى حقيقه البيت الذى يطالب بفدك، يطالب بها، لا ليزيد لنفسه ثروه، بل ليزيد من متانه الاسلام، ليزيد من اعمال البر و تفريق الحسنات على كل هولاء الذين يعيشون فى الجزيره على مجاعات و اشدها مجاعه الفكر و مجاعه الروح.»

لذلك هبت فاطمه تطالب بالارث، لا لتحصل على الارث، بل لترهف حسا جماعيا لايزال يهجع فى الذل و يرضى بالاستكانه، لتظهر للحاكم: انه لن يتمكن من القياده و فى عينيه دكنه من ظلم و مشحه من اغتصاب، لتظهر له ان فدكا وكل شبيه بفدك، شوكه فى عين الخلافه- و كل خلافه- الى ان تنزع.

ان الم فاطمه، لم يكن مصدره موت ابيها- اكثر مما كان مصدره ان رساله

ابيها، ما ان عاشت حتى دخلت فى حشرجه. لم تكن فاطمه تحب فى ابيها زنده المفتول و صدره البض، لقد كان حبها له فى صفوه العقل و انبعاث الروح، لقد احبته فى افق... و لما مات، كانت تدرك ان لكل انسان نهايه، و ان فى رساله ابيها تكون البدايه.

و ها هى الرساله، اخذوها للاستعمال و لم ياخذوها للاكتمال، اخذوها اداه و لم ياخذوها صفوه اناه.

ان الذين يغتصبون خلافه، ليس كثيرا عليهم ان يختلسوا قطعه ارض، و ان الذين يعيشون فى رهافه الحس- كفاطمه و على- ليس كثيرا عليهم ان يضنيهم التبرم و الالم، و هم يشاهدون باعينهم مشاهد الماساه.

و لقد بزرت فاطمه الى الساحه تمثل دورها الناعم، فكانت كشعاع الشمس- دافى ء،ولكنه حارق، و كانت كحد السيف- رهيف ولكنه قاطع.

و لقد ادرك ابوبكر الصديق عمق القضيه فبكى، و لم يكن بكاوه عاطفه هيجتها فيه فاطمه بثكلها او يتمها، او اثرت عليها انوثه فيها مكسره الهدب او ذابله الوجنتين لقد بكى من هزه فى نفسه، و من شعور فى ضمنه، ازاء و جفه من ضمير، و ومضه من وجدان.

لقد كان يعرف ان الخلافه ما وصلت اليه مفتوحه على كف من السماح فلقد كان ينقصها كثير من الصراحه مع كثير من انبساط الخواطر لقد كان ينقصها الاجماع.

لقد نقصها الحس الصادق و الشعور البرى ء و العين الرضيه، و ليس قليلا هذا الذى نقصها، فالحاكم هو الصدر مشتبكه كل ضلوعه ان ضلعا منه مبسورا، يشغل القلب و يضنى التنفس، و الحاكم هو للكل قبل ان يكون لنفسه، و هو عقل و قلب و قلب و عقل، و هو كل النظافه- ان النظافه يجب ان تكون كل اطاره- لهذا يجمل بالحاكم الاول ان يستقطب اليه الحس الجماعى، حتى ياتى دوره فى الحكم تلبيه لاحترام كامل يضمن له صدق العمل و صحه المسير.

و مركز ابى بكر الصديق فى الخلافه كان فى هذا الانتخاب محصورا فى سقيفه،

و كان الاولى به ان يكون فى الساحه التى ليس فوقها لا جذوع و لا سقوف.

ان الخلافه- بمعناها الصادق- لا تتمكن من التلقط بكل ازمتها، الا فى الساحه المكشوفه- هنالك يتمكن الجميع من تسريح النظر، فمثلما هو للكل، عليه ان يعرض نفسه امام الكل ان حكمه الحاكمين لا تتجلى فى المخابى، و ما ينشا فى المخابى تمتهنه المكاشف.

لقد كانت الوصيه بالخلافه لعليب، لقد جاهر على بذلك، و لقد كان الاولى ان يعرض على على الساحه لتقول الساحه كلمه الفصل، اذ عليها هى ان تحقق فى صدق الوصيه للعمل بها او لنقضها، و لم يكن ذلك مطلقا من اختصاص السقيفه.

طلب العباس و ابوسفيان الى على ان يبايعاه و هو ما زال الى جوار جثمان النبى، فاجاب: «انى لاكره ان ابايع من وراء رتاج».

فى هذا الاتجاه المنقوض شقت خلافه ابى بكر الصديق دربها، تاركه وراءها اتجاها آخر يشق عليه الانقسام دربا موديا الى جبهه خصام.

ان احتجاج فاطمه عن سلبها الارث كان بالفعل تنبيها لاصلاح زلل، حرك دمعه فى عين الصديق، ليتها لم تنشف...

ثلاث نساء
يتناول الحديث ثلاث نساء كان لهن على الاسلام شان بالغ، و لقد اثبت الاسلام فيهن فضله فى انتشال المراه من مركز المهانه الى مركز الاجلال و الاحترام.

و لقد برهنت كل واحده منهن عن ان المراه تستجيب للجو الذى تنشا فيه، و تنعكس فيها التربيه التى تتربى عليها، و تتمكن من ان تسمو مع السمو- كل ذلك بنسبه تتجانس مع قواها التى محضتها بها الطبيعه كامراه لها كيان خاص بها و مواهب ذاتيه منبثقه من تركيبها الخاص.

خديجه
اولا هن خديجه ام المومنين الاولى- تلك التى كانت لها قافله سئمت حدوها فاذابتها فى قافله اخرى لف صوت حاديها جنبات الكون.

و التاريخ يعلم ان خديجه لم يكن لها شان كبير قبل ان تجد على طريقها الامين محمدا، و لقد ورد فى سياق هذا الكتاب كيف ان خديجه تخطت التقاليد و اقدمت على تزويج نفسها ممن احبت.

غير ان المقصود فى هذا البحث هو اظهار الناحيه التى تختص بالمراه فى اتاحه الفرص لتربيتها و تنشئتها التنشئه الصحيحه، ثم تركها تختار من نفسها تخطيط مصيرها، فهى- اذ تشعر بمركزها المحترم و بارادتها المعتبره- تضع نفسها فى الخط البناء، لمشاركه الرجل فى الاعمال، و لتحمل المسووليه التى تلقيها عليها طبيعه وجودها.

و لقد وضعت خديجه نفسها على مثل هذا الخط، و لم يكن الفضل فى ذلك المالوف التربيه فى محيطها، ولكن الظروف اتاحت لها ما حقق شخصيتها و ابرز مواهبها.

احبت، و هى فى سن الاربعين، حبا اوحاه العقل- فهو حب معبر عن حقيقته، و الامين محمد- فضلا عن كونه نسيج وحده- هو ايضا فى سن الرشد و الاختمار- قدر قيمه هذا الحب فلم يتاخر عن الاستجابه له.

زواج قوبل من الطرفين بذات الشعور، بذات التقدير، بذات الاحترام، و جعل من الاثنين لحمه متفاهمه متكامله متلاحمه متفاعله، لم ينغصها يوما اى خلاف.

و لقد خدم هذا الرباط حتى مد القدر يده فاختطف السيده الكبيره الى العالم الاوسع.

ان خمسا و عشرين سنه كانت مليئه بالحب و التفانى، و لقد ذابت خديجه فى

حبها واخذت من زوجها كل ما اعطاها، و اعطته كل ما اخذ منها، لقد كان الاخذ و العطاء بنسبه واحده بدون اى شعور من الطرفين بان الاخذ هو غير العطاء او ان العطاء هو غير الاخذ.

اعطت خديجه زوجها حبا، و هى لا تشعر بانها تعطى، بل تاخذ منه حبا فيه كل السعاده، و اعطته ثروه و هى لا تشعر بانها تعطى، بل تاخذ منه هدايه تفوق كنوز الارض- و هو بدوره اعطاها حبا و تقديرا رفعاها الى اعلى مرتبه و هو لا يشعر بانه اعطاها بل يقول: «ما قام الاسلام الا بسيف على و بثروه خديجه» و اعطاها عمره و زهره شبابه، و لم يبدل عليها امراه حتى غابت عن الوجود و هو لا يشعر بانه اعطاها، و هو يقول: «لا و اللَّه ما ابدلنى اللَّه خيرا منها، آمنت بى اذ كذبنى الناس، و واستنى بمالها اذ حرمنى الناس».

ان فى مثل هذا الحب- صادقا صافيا- تجد المراه نفسها سيده نفسها، سيده بيتها، سيده مصيرها، و بمثل هذا الحب يجد الرجل جوه رحبا فسيحا و كاملا جميلا.

ان التربيه و حسن التنشئه و افساح المجال للاختيار كفيله جميعها بانشاء البيت السعيد لمجتمع ايجابى صحيح.

فاطمه
و نجد فى فاطمه الزهراء مثالا تطبيقيا آخر على كون المراه هى استجابه لتلك التربيه الممتازه ولاده و تنشئه، عملا و ايجاء.

لقد ربيت فاطمه فى حضن ام كان الحنان يذوب من اردانها و حنان الام ما فاض من قلب ام الا بمقدار ما تفيض عليها فى البيت السعاده- و لن تقاس السعاده فى بيوت المتزوجين الا بميزان واحد هو ميزان الحب فى تفاهم و تبادل و انسجام. فالبيت- بكل ما فيه- وحده حياتيه دون تمييز او مفاضله، دون محاسبه على اخذ اكثر او عطاء اقل، ثم اجراء مناقصه او مزايده- كل ذلك بعفويه يشملها الغفله و النسيان، و بعطف يفرضه العقل السليم نظافه و صدق شعور، و تلبيه و تنزيه ميول.

لقد وجدت فاطمه فى بيتها كل هذا عمرا موفورا، وجدته، حتى من قبل ان تنزل تكوينا فى بطن امها، لقد مهد لها هذا الجو و امها لا تزال بعد تداعب طيف الحب فى قلبها و محمد غائب بالقافله بين مكه و الشام، وجدته و هى جنين فى الحشا، تتلمس امها بها خاصرتيها مع الليالى الطوال بمناجاه كانها عذوبه الاحلام، وجدته مع اول شعاع ابصرته بعينيها بعد هبوطها الى الحضن الرفيق، وجدته مع قطره الرضاع حامله كل اشواق الامومه- وجدته فى طفوله بريئه قفزا من حضن الى حضن و من عنق الى زند، بين ام حانيه ذائبه و اب وادع حالم، و اخوات ناعمات راغدات، و رفيق تطوف فى عينيه لمعه سيف، وجدته فى فتوتها تنفتح على اسرار الحياه فهما و تيسير فهم، وحسا و ترهيف حس، و شموخا و تعزيز شموخ.

لقد تولد لفاطمه- فى هذا الجو الرائع- راى شخصى حر، هو كل ما امنه لها مناخ البيت- لقد كان يسال النبى فى قضيه فيجيب: «لناخذ اولا راى فاطمه».- هكذا كان لفاطمه راى فى تربيه صحيحه، كانت لشخصيتها فيها تلك التنميه.

و لم تخب التربيه، فبمقدار ما توفرت اجابت:- توفرت غزيره و اجابت

بغزاره- هكذا تزوجت فاطمه- رجوعا الى رايها، و اقتناعا منها بصدق الرجل الذى تزوجته. لم تكن تجيب- كما افصحت عن نظرتها ذات مره لابيها- «ان ترى رجلا»- رايا منها بان المراه- اذ تعتبر سلعه و تحقيق شهوه للرجل، تتدنى مرتبتها فى الحياه و تنحط، فى الوقت التى هى فيه نصف الحياه فى جد الحياه، نصف البيت فى تكوين البيت، نصف المجتمع فى تدعيم المجتمع، نصف السعاده فى استقطاب و استكمال السعاده. و ميول الرجل و ميول المراه هى من معدن واحد، تاخذ منه الحياه مزيج عصارتها و طبخه قدرها، فلا يجوز ان يفسد شطر من المزيجين بامتهان او بتقليل قيمه.

هكذا تنشا الاسره الفاضله، و هكذا ينمو المجتمع الفاضل- نظره صححيه و تطبيقا صحيحا، و انتاجا صحيحا، و نتيجه صحيحه.

و كان لفاطمه البيت الصحيح، البيت الذى تركز على نظره صحيحه و لقد وجد على فى فاطمه تكميل حياته، فاطمان و راح يعمل من وحى هذه الطمانينه، باندغام استجابته قبل ان يتم تاليف البيت، لولا ذلك الاقتناع الموحى من قبل لما تمت بينه و بين فاطمه هذه الوحده التى لم يفرطها الا الموت.

عائشه
و لن يكون الحديث فى عائشه- فى المومنين الثانيه- الا ليجد فيه تطبيقا للنظره الاجماعيه التى ترى فى التربيه هذه النسبيه فى الانعكاس.

و ما كان الزواج الباكر لعائشه من النبى الا ليكون زواجا ذا لون. ان ربط الاواصر بالزواج كان مالوفا، لا سيما فى ذلك العهد الموصول بالجاهليه، و المتلقط بالتقاليد القاسيه الناشفه، و المضغوط بروح قبليه مفروضه.

ثم ان القربى من النبى اصبحت- بعد انتصاراته الباهره- مطمع هولاء الاسياد،ليجدوا فيها بعض التغطيه عن زعاماتهم المهدده بالتلاشى، فاستعاضوا عنها باذابتها فى زعامه ثانيه هى اليوم زعامه فيها من اللمعان ما يبهر، و كانت القربى من الرسول برباط الزيجه من اجل هذه المظاهر.

و لقد لبى الرسول- قدر المستطاع- ميل التقرب مطلوبا اليه فى سبيل توحيد الجزيره و رفع جانبها، و ما كان قبوله بعائشه- رغما عن حداثه سنها- الا تظهيرا لهذا اللون السياسى، مضفيا عليه عطف القلب الذى افلتت منه خديجه الى الابد.

تلك كانت رغبه ابى بكر الصديق فى تزويج ابنته من الرسول فاحتملت الى العش الزوجى مع لعبها و ملاهى طفولتها، انه زواج من غير النوع الذى تم به زواج خديجه... و هو- بكل جلاء- من غير النوع الذى تم به زواج فاطمه.

هنالك حب خبر نفسه، و عين دربه، و امتلا بحريته، فكان زواجا معبرا تمام التعبير عن خطه و هدفه، ليتحمل- عن رضى كامل- كل مسوولياته غير منقوصه.

اما زواج عائشه، فلقد كان- من جهه عائشه- محتاجا الى عنصر التلبيه الفاهمه المقتنعه، فانها لم تكن فى عمر يمكنها من فهم ما تقدم عليه، ان هذا التفهم من ابيها لا يمكن ان ينتقل اليها بذات الحس و ذات المعنى، انه زواج بين رجل و امراه لا بين رجل و رجل، و ليس عمر التسع ليفعم بهذا الشعور الناضج- لا

من جهه التفتح الجنسى، ولا من جهه التوسع العقلى- ان هذا التعويض عما يلزم ان يكون، لم تتوصل اليه عائشه الا فيما بعد، عندما تم لها البلوغ. و لم يكن لها ذلك الا فى التدريج، بحيث انها لم تتمكن من المشاركه الطويله بهذا التمرس لا بعطف النبى و لا بفهم المعانى التى كانت تشع منه، لهذا كان الفرق بعيدا بين تحسسها بالقضيه و تحسس خديجه بها- من جهه- و تحسس فاطمه بها من جهه ثانيه.

ان قضيه الرسول كانت قضيه خديجه، و كذلك كانت قضيه فاطمه، و بقدر يتناسب مع قوى كل من المراتين، باعتبارهما امراتين. اما عائشه فانه- بحكم الطبع- كانت مشاركتها فى القضيه مشاركه جانبيه، اضال قوه و اخف حظا، و لهذه الاسباب عينها.

و لما مات الرسول، لم يظهر على عائشه الا اللون الاصيل الذى قيدت به الى بيت الرسول: هو عينه اللون السياسى الذى تلونت به الخلافه باسنادها الى ابى بكر الصديق، هو عينه الذى جعل عائشه- ابنه الصديق- تركب الجمل لتقود- من على ظهره- جبهه المعارضه ضد الامام على. ان معركه الجمل شهيره فى التاريخ.

ان هذا الاستعراض الخاطف لموقف هولاء السيدات الجليلات الثلاث يوضح موقف المراه فى مشاركتها الرجل فى ميادين جهاده، و كيف انها تكون دائما لونه و انعكاس روحه- بالقدر الذى يتوفر لها.

يجدر بالمجتمعات العربيه ان لا تنظر الى المراه الا من هذه الزاويه الناعمه،مسنده اليها دورا خطيرا فى البناء الجدى. فالمراه- قيل ان تكون اداه ترفيه و تسليه- هى شطر الوجود الانسانى، و هى حرمته التى لا يجوز ان يلعب بها لعبه الهزل. ان مشاهد الهزل تخرج الماسى...

خطاب فى باحه المسجد
هل كانت المطالبه بفدك، غير المطالبه بالخلافه للامام على؟ و هل ان اقتطاع (فدك) من يد فاطمه هو غير قطع المدد عن المطالبين بالخلافه؟.

و لقد كانت تعلم فاطمه تمام العلم ان المطالبه بفدك لن تعيد اليها الارض، و لم تكن لتطلب ارضا فيها نخيل، انها كانت تطالب بارث آخر، فيه عزه النفس، فيه اصاله الحق، فيه عنفوان الرساله، فيه امتداد ابيها... هذا هو الارث الذى جاءت تنادى به فى ساحه المسجد.

و سيان، اكانت المطالبه بخطاب مدروس ام بخطاب مرتجل. (ام- حتى- بخطاب لحمه التنقيح او الاقحام- كما ربما يطيب القول للادعاء...).

يكفى ان تقود فاطمه قدميها الى باحه المسجد، ان تقف امام الخليفه بجبه و خمار، ان ترمى اليه نظره شزراء. ان تحرك يدا بمعصم نحيل- ان تومى- ان تقف لحظه، ثم تنسحب كما ينسحب الظل.

و لقد فعلت- ان التاريخ يشهد انها فعلت- ان صوتها، و هى تلقى خطابها، لم يسمعه الا نفر قليل، ان ما سمع من خطابها ليس كلامها المنطوق- فحسب- ان ما دونه التاريخ من ذلك الخطاب، هو المعنى- هو الفكر- هو التمرد على كل ما هو ظلم و جور... لقد شرجت فى الخطاب رساله ابيها- لا لتشرح الرساله- بل لتعين مركزها من الرساله- مركز على منها- و لقد طالبت بالارث، مثبته ان لها حقا فيه كما لكل البنين من وراء آبائهم، و لقد نددت بالحاكم قالت له:انه مغتصب، و لقد نددت ايضا بالمهاجرين: الصحابيين و الانصار، لقد انفجرت نقمتها على كل هولاء الذين هم اشباه الرجال فى تخلفهم من رويه الحق و نصرته،و لقد غمزت- يتنبواتها- بما ينتظر الظالمين الكافرين...

هل جاء الخطاب عميقا؟ ليس العمق على فاطمه بكثير- فهى اول من تلقن القرآن سمعا و فهما، و اول من رشف اباها حسا و شوقا، و هل جاء الخطاب متينا بليغا؟ و لا بدع- فهى زوجه ذلك الذى كان رب البلاغه و البيان: لعبت معه طفله، و رافقته فتاه، و شاركته الحياه فكرا و ميولا، و اندغمت به زوجه و اخلاصا، و انجبت له البنين عفه و طهرا... هل جاء الخطاب قويا عنيفا؟- لا غرابه فى ذلك،ان التى تخطب هى ابنه المع جبين شهدته الجزيره فى تاريخها، و هى زوجه اعز بطل رفع الاسلام بسيفه و بيانه، و هى ام اشرف بزغتين فى تاريخ الامامه.

ان لم تكن فاطمه الزهراء هى التى نطقت بخطابها الشامخ امام الخليفه- فمن هو الذى يكون اولى به منها؟ و من هو الذى يكون احرى منها بتقمص الشموخ حسا و تعبيرا؟.

غير ان المتتبع تاريخ الزهراء بعمق، لا يهمه- لا بكثير او قليل- ان يلهى نفسه بتحقيق حول ما هو تافه... ان الكلمه ليست غير قالب تعبير عن فكر او اداه تلميح عن روح، و لم تكن الكلمه- فى تاريخ تدوين الكلام- لتصلح قالبا مكتمل الجهاز للمحه واحده من لمحات الفكر او لخلجه واحده من خلجات الروح، ان الكلمه او هى بكثير و كثير من ان تضبط لون الخيال ضاربا فى آفاق غير محدوده... لو ان للكلمه هذا القالب الموسوع، لكفى بالقرآن آيات تتخلص من كل ما هو تفسير و شرح او تاويل و اجتهاد...

ان خطاب فاطمه- بكلماته القليله- لم يكن، على كل حال، كثيرا عليها... بل ان العكس يفرض: فهو- بالنسبه- قليل وضئيل اكان تعبيرا عن المها بفقدان ابيها، ام كان احتجاجا عن حرمانها من ارثها.

ان العظيم منه و الجليل- هو الذى كان يتوارى خلف الحروف- هو الشموخ الذى لا يمكن للحرف ان يتلقط به، هو عزه النفس، هو الشعور بالكبر، هو تلك الانفه التى منها تصاغ رفعه الجبين.

البطوله
اى فرق كان بين البطوله التى تجلى بها على بن ابى طالب فى دفاعه عن الرساله و بين البطوله التى تجلت بها فاطمه فى دفاعها عن الحق امام الخليفه.

لعمرى، انها بطوله من معدن واحد، الفرق فى ان عليا كان بمكنته ان يعبر عن هذه البطوله بسلاحين فى وقت واحد: العقل و الحسام، ان الحسام ما كان لفاطمه النحليه.

تلك من نعم الصدف ان ترافق المنطق قوه البدن، ولكن قوه الساعد تكون هباء عندما تخبو شعله العقل، و تكون و بالا عندما تنعدم جوده المنطق.

و كل قوه فى البدن- مهما يبلغ شاوها- ليست لها قيمه فى الحساب الا بين الكسور. اما القيمه العقليه فتلك التى تعمل من ورائها كما تعمل القياده الحكيمه من خلف الحصون، فالعقل هو الذى يعين الاهداف و يجلوها امام قوه التنفيذ و التحقيق، ان القوه- بين يدى العقل- تحصل على ايجابيتها، و تنقلب ضعفا و هوانا فى غير ساحه المنطق.

و لما كان على بن ابى طالب متين الساعد، لو ان العقل كان يهرب منه، و لما كانت- لايه آيه من آيات القرآن الشريف- سطوه الانطلاق و الانفتاح- لو انها ما تسلحت بنور المعرفه و بهاء الحق.

تلك حقيقه، قل من لا يعرفها كتحديد علمى- فلسفى، مالوف و معروف، و قل من يحترمها فى نهجه التطبيقى.

و اشد من يكون بحاجه الى هذا الفهم و التطبيق هى الطبقه الحاكمه، فهى تتحصن بالقوه لتبطش، و لا يجوز ان تتحصن بها الا لتعدل. و ذلك هو الضياع فى التحديد بين قوه السلطان تستمد حقيقتها من الحق، و قوه السلطان تستمد نفوذها من هيبه المقعد- فالقوه الاولى هى التى تنبعث خلف هذه الهاله، حتى اذا شعر بضياعها ضاعت من المقعد المسحور تلك المهابه و ذابت عنها رغوه البهارج.

و ليس قليلا ما تعنى الحكمه: «العدل اساس الملك» و لسيت اظن ان دوله تفهم هذه الحكمه و يطالها الا نقراض.

ان تطبيق العداله فى مجتمع ما، يشغل كل قوه فى ذلك المتمع فى وجهتها الايجابيه لتكون قوه فاعله فى الحقل الواعى، و هنا تكون للقوه قيمتها المنتجه.

و لن تكون العداله على حقل دون حقل فهى تطال المجتمع فى كل طاقاته- تطاله فى كل نواحى الحياه- فى الماده و فى الروح، فى الماده عداله اقتصاديه و فى الروح توجيها فكريا اخلاقيا.

هذه هى العداله الكامله التى، اظن انها- اذ تنهج فى دوله ما- تصون ذلك المجتمع من صروف الحدثان.

و لن يطلب فى ذلك الكمال- فجمهوريه افلاطون ظلت خيالا و لم يتحقق المجتمع الافلاطونى الا على الخريطه التى خططها قلم ذلك الفيلسوف.

و ليس ذلك يعنى ان المجتمعات البشريه ليست بحاجه الى المبالغه فى التوجيه و الى القساوه فى التطبيق.

لقد كانت النظافه فى الحكم رفيقه النجاح لكل هولاء القاده الذين تنظفوا بالحق و تقيموا بالعداله- قد يكون ان سقطوا فى الساحه ضحايا مبادئهم- و من على الارض لا ينحل ترابا؟- ولكنهم، بقوه ذلك الاشعاع تمكنوا من الخلود. ان نظافه الخيال فى افلاطون هى التى لا يزال خالدا بها حتى الساعه. ان خلود عيسى و محمد، مدين لتلك العبقريه المتطلبه بمعدن الحق. ان السلسله الطويله التى تستحكم حلقاتها بكل هولاء العظام الذين مروا على سطح هذه الغبراء- تشهد لكل منهم بمقدار ما حمل ما اشعاعات السمو. ان الخلفاء الذين تداولوا على مقدرات الخلافه فى الاسلام، يحمل كل منهم شهاده لا يزال يسجلها له التاريخ، تعلو قيمتها و تهبط بنسبه تمسك صاحبها بالحق او تنكبه عن صفات العادلين.

لو ان الخلفاء فى الاسلام مشوا على النهج المرسوم نظافه و حقا و تقى

وعداله- فاغلب الظن انهم ما كانوا توصلوا الى ايه خيبه من خيباتهم الكثيره.

هل تتمكن المجتمعات الانسانيه من تطبيق كل ذلك؟. ان هذا منوط بها، ولكن القول بان السير فى المجتمعات البشريه على اساس من هذا السمو، هو الذى يتطلبه العقل فى المجتمعات الراقيه لتحقيق كل الاهداف العظيمه. و اشد تلك المجتمعات رقيا هى ابلغها رسوخا فى تحقيق هذه المثل.

تلك هى العداله التى بشر بها الامام على، مشيا على صراط مستقيم، هديا من رساله بشرت بالحق و العدل و المساواه.

هكذا يتم الابتعاد عن الخطا- باتباع نهج يرسمه العقل و المنطق و تلك هى القوه تتسم بمعناها البطولى.

ان البطش و سفك الدماء ليسا غير تعبير عن قوه سلبيه هى الوهم عينه، هى تهديم نفسها بتهديمها المجتمع.

لقد كتب الامام على الى (الاشتر) لما ولاه على مصر بعد محمد ابن ابى بكر:

«اياك و الدماء و سفكها بغير حلها، فانه ليس شى ادعى لنقمه و لا اعظم لتبعه و لا احرى بزوال نعمه و انقطاع مده من سفك الدماء بغير حلها، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فان ذلك مما يضعفه، بل يزيله و ينقله».

ان البطوله ليست قوه تستند على بدن و ساعد، و لا على كرسى و سلطان، ان البطوله هى التى تتمنطق بالعقل فهما و رشدا فتعين الاهداف و ترسم المناهج.

و ما كانت بطوله الزهراء من غير هذا المعنى الجليل، غرفت منه ما لمعت به عيناها دون ان يوثر عليها لا زندها النحيل و لا خصرها الهزيل.

التسجيل
لم تكن- على عهد فاطمه- ايه لا قطه «صوتيه» تسجل الكلمه التى تفوهت بها امام ابى بكر الصديق، و كذلك لم تكن هناك ايه لاقطه «نوويه» تعكس عنها الاشاره التى كانت تبدر عنها، و هى تلقى ذلك الخطاب، حتى و لم تكن- ايضا- تلك اللواقط من الحروف الطائعه تنساق متلقطه بالفكر تضبطه فى اطارها و تتمسك به ضمن خطوطها و دوائرها، ليحصل ضبط ذلك الخطاب فى امانه الحروف.

لم يتم، لا تسجيل الصوت و لا تسجيل الصوره- لا صوت فاطمه بكلماته المتقطعه و نبراته المتدفقه، و لا صورتها بعينها الحزينه و قدها الناحل- و لم يتم ايضا لا تسجيل الاثر الذى تركته على جمهور ساحه المسجد و لا تسجيل لون اذن ابى بكر الصديق بعد سماعها خفقه التنذيد.

بالرغم عن عدم وجود اى شى من هذا- تمت كل التساجيل، كان آله العصر الحاضر كانت فى ذلك الحين هى ذاتها تفعل... و متى كانت الاله- فى تنفيذ اختراعها- غير تعبير عن شوق الانسان فى حاجته اليها؟ ان هذا الشوق هو ذاته الذى كان منفتح القلب و اليعن و الاذن امام فاطمه فى وجودها فى ذلك الحين، و فى كل وجودها. لذلك انسكبت فى وجدان التاريخ تسجيلا حفظته واعيه الخواطر، و تلقطت به حافظه القلوب، و تناقلته اشواق الاسانيد: تعبيرا عن ان الراى العام فى مجتمع الانسان هو تحقيقته الماثله فى مكشوفها و مستورها على السواء.

لم تكن فاطمه- وحدها- التى تتكلم فى ذلك الحين، ان الملابين فى الجزيره العربيه كانوا يتكلمون، و لم يصل الينا سوى النزر من التساجيل عنهم- الا ان فاطمه وحدها كانت تتكلم؟.

تلك شهاده على ان الراى العام يتمثل- دائما فى خطوطه العريضه كما تتمثل قطرات الغيث فى المجارى الزاخره، و كما تتمثل الانهار الجارفه، فى التحامها بالشواطى.

ان الذين تكلموا فى الجزيره قد تم لنا تسجيل ما قالوا، وصل الينا كل الصحيح مما قالوا- لم يكذب الراى العام فيهم، فلقد صوروه و عكسوه و لقد اوصلوه مع العبر.

ان اللون السياسى الذى انصبغ به الخطان العريضان فى ذلك الحين، عين فى كل واحد منهما اسم القائد- عين الشكل، و عين الفكر و عين الاتجاه... و لقد عين ايضا صفات الارث.

ولكن الارث الوحيد الذى ضاعوا عنه هو وحده الذى كان كفيلا لهم بتحقيق الثروه- نفروا عنه اذ كان الاولى ان ينفروا اليه- ان هذا الارث كان محصورا- بالنسبه الى الجزيره على الاقل- فى تلك الوجده المنوره بالحق و الهدايه، و لقد قالت فاطمه فى خطابها: «افان مات (محمد) او قتل انقلبتم على اعقابكم»؟.

ان فى الانقلاب على الاعقاب رجعه الى ماضى الجزيره فى تفككها و تشتيتها- فى عدم لحمتها و فى عدم تحقيقها- لقد وحدتها الكلمه الصائبه، لقد جمعتها الفكره الكبيره، لقد رسمت لها الاهداف لقد طبقت امامها المثل، لقد تحقق لها البرهان، و لقد دفعت ثمن ذلك من دمها... فما بالها- و قد مات نبيها العظيم- تنقلب على اعقابها؟

هكذا تكرس الانقسام مع اول خلافه برزت الى الصداره، ليبتر اول وحده لمحها تاريخ الجزيره.

اى شى، فيما بعد، تمكن من اعاده اللحمه؟ اى عهد من العهود التى كرت، حتى الساعه الحانيه، عبر اربعه عشر قرنا- عمل على الترميم، و ساعد على محو ما علق فى الخواطر؟ ايه يد حاولت ان تتناول شرايط التسجيل التاريخى لتحور بثه او لتغير الوان مرائيه؟

و اى مجتمع من مجتمعات الاسره العربيه- ابتداء من الجزيره الام- ام الهجرات التاريخيه، و ام القوافل الدارجه الى كل هذه المهابط اللاقطه حدو

القوافل- اللاقطه و الحاضنه و المطوره. اجل، اى مجتمع لم تتعكر مجاريه من ثقل ذلك الغبار الذى ثار حاملا معه كل هذا الكثيف من السموم و العفن؟...

و لا تزال الاجيال حتى اليوم تتلهى بغربله خطاب فاهت به فاطمه الزهراء: فى هل ان كلماته خرجت بالفعل من بين ثناياها، ام ان عبقريا آخر نحلته عبقريته اليها؟...

و فاطمه الزهراء كانت لونا بارزا فى الخط الثانى- كانت نصف الرجل الذى حمل رايه الخط، فهى معه وحده فى العمل و فى النهج.

ان الماساه فى درس الخطاب من ناحيه حروفه و ليس من ناحيه معانيه، كالماساه عينها فى ان نحصى خطواتنا على طريق مقفل يمتص اعراقنا دون ان يردها الينا قيمه...

ان العبره فى تفسيره ما قالت الزهراء تكمن فى تحصيل قولها انذارا- و العبره فى ان الخلافه لم تقبل الانذار-

و العبره كل العبره- فى ان الاجيال اجيال الاسلام- لم تدرس حتى اليوم خطاب الزهراء، و هى ضائعه بين ان تسنده الى فاطمه او ان تسنده الى مقحم، طباق آخر على كل ما وجه الى الامام على فى نهج البلاغه: اسنادا اليه ام اقحاما عليه.

و العبره فى ان خطاب فاطمه الزهراء- اكانت هى تدرى ام لم تكن تدرى- جاء يرزم قوه التعبير عن ذلك الراى العام الذى اهتاج- و هو يرضخ للواقع- ليعود فيتكون ثوره على كل ما هو خروج عن خطوط الحق و العداله.

منذ ذلك الحين تكونت نواه المعارضه مطالبه بتركيز الخلافه على محورها الصادق - و منذ ذلك الحين و الخلافه لا ترتبط بمصير حتى تتقطع حبال ذياك المصير.

و منذ ذلك الحين و السيف العربى لا يرتوى من دماء ابنائه- و معظم الخلفاء

لا يرتوون من شرب الدم، صرفا، ام ممزوجا بالخمور و الفجور-، اكان ذلك مع الحجاج ام مع السفاح، اكان مع الوليد ام الامين بن الرشيد.

و منذ ذلك الحين و الخلافه تدور بها العواصف و الزعازع من مكه الى يثرب، و من يثرب الى الكوفه- الى الشام- الى بغداد- الى خراسان- الى مصر- الى القيروان- الى الاندلس- الى بلاد الاتراك... و من تفسيخ الى تفسيخ من الراشدين الى الامويين، فالعباسيين، و الفاطميين، و الايوبيين، و المماليك، و المغول، و الحشاشين.

قد تكون فى القول- هذا- كل القساوه فى تحميل الخلافه الاولى هذا الحبل الطويل من المسووليات الجسام، ولكن- اى طريق طويل لا يقاس بالخطوه الاولى؟ و ايه دوله من دول العالم تجسم الحقد فيها كما تجسم على يد الحجاج ابن يوسف و بقى لها شى ء من كيان؟ كيف يربو الولاء فى صدور حفده مئه و عشرين الف قتيل حصدها سيف طاغيه تثبيتا لكرسى خلافه؟ و كيف لا يكون الحقد وليد الحقد، و قبور بنى اميه تنبش لتجلد فيها الرمم؟ و كيف تربط دنيا الاسلام بعضها ببعض، برباط الحب و الانفتاح- و موسس الدوله الانفتاحيه فى الاندلس، لا يزال يبكى اخاه مقطعا بسيف الحقد و الضغينه- و هو لا يزال هاربا من الملاحقات عبر الفيافى- كيف ينمو حنين الانسان الى وطنه، و بغداد تحمل شارات التعسف و اللم منشوره جماجم معلقه فى الهواء فوق جسور دجله و الفرات، تدليلا على عظمه البطش وهيبه السلطان...

لعمرى- ان رساله الامام على الى (الاشتر) تشهد للرجل الكبير بصدق نظرته و حصافه رايه... تلك الدماء- ذاتها- مهدوره بغير حلها- جبلت من طينها- فيما بعد- جماجم الغزاه، شان جنكيزخان و تيمور لنك. اجل، هو ذاته تيمورلنك الذى بنى فى بغداد- بجماجم البغداد بين، مئه و عشرين برجا.

اجل ان الخلافه تكون مجورا عليها اذا حملت جريره عده اجيال ولكنها كانت مسووله- كخلافه لرساله سوف تتخطى المكان و الزمان- عن مد

نظرها الى مثل هذه الابعاد- و هى مسووله- على الاقل- عن تثبيت قدم العداله التى ما تزال قريبه من منابعها.

ان الخطوه الاولى قررتها السقيفه، و كان فيها ذلك الاعوجاج و لن يقاس درب طويل بخطوه معوجه...

و لم يكن الاعوجاج من المطلبين امجاد الحكم اكثر مما كان من الحبل الطويل المشدود على خصور القبائل- ذلك الشعب الذى كان معوجا و ما صرف الجهد النبوى الا ليقوم اعوجاجه-.

كيف تبحث قضيه الخلافه بامانه و اخلاص ان لم يتحرر الباحث من الهوى؟ ولكن الذين تزاحموا على كرسى الحكم ما ساقهم اليه الا الهوى.

كان كرسى الخلافه- بين ان يثبت متينا، و بين ان ينهار- رهنا بحروف اسمه-: اما ان يكون خلافه او ان يكون حكما، و الخلافه كانت استكمال خط و استمرار نهج، و الحكم كان لونا سياسيا وصوليا.

ان الحكم فى الجزيره- فى خطه الماضى- لم يكن درجه فى سلم حضارى.- ان الرساله الجديده هى التى نقضت هذا الحكم فى مجال تحضير ماده جديده يستقيم فيها الحكم، تلك الماده هى الوجبه الروحيه التى يكتمل بها رشد الانسان فى الجزيره حتى يتوصل الى حقيقه الحكم.

تلك الحقيقه كان يعرفها النبى و كان يعرفها اشد الناس اختلاطا بالنبى، لهذا كان النبى اكثر تشديدا على استكمال نمو رسالته بتسليمها الى الذى يدرك الكنه العميق- هنا كانت تبرز الاشاره بوضوح الى على.

كان المقصود باسناد الخلافه الى على، خلافه بالمعنى الصحيح اكثر منها حكما موقتا- خلافه لرساله تتم تحضير الوجبه الكبيره لياكل منها كل الذين هم بحاجه الى اكتمال الرشد.

فى اى وقت يكتمل الرشد؟ ان ذلك يكون رهنا بالسلسله الطويله فى اكتمال نضجها وبث اشعاعاتها. و هذا كان- على ما يظهر- قصد الرساله.

و تر فى غمد
ان الذين كانوا اقل الناس فهما لخطاب فاطمه هم- بالذات- اولئك الذين كانوا حاضرين فى باحه المسجد يصغون، لان ذلك الخطاب كان من نوع الامحال فى اقتلاع الحجاره، لا يتاثر مركز الثقل فيها الا بنسبه ما تطول سوقها.

و لم يكن الخطاب موجها الى شر ذمه من الناس، فهو ما اخذ من المسجد قاعده له الا لتكون له رنه الاذان.

لذلك كان الخطاب فى المسجد لابعد بكثير من جدران المسجد و لم يكن للمئذنه فى المسجد بل للجو الذى تتطاول اليه مئذنه المسجد...

هل كانت فاطمه تدرى بان لخطابها تلك القيمه و تلك الابعاد؟ ولكن الثوره التى كانت متولده فى نفسها كانت من وحى تلك المعانى و من مسافه تلك الابعاد،لهذا جائت كلماتها ناعمه كالانوثه فيها و هادره كانها التعبير عن انفجار السدود.

و كل شى يفقد قيمته ان لم يكن تعبيرا. و ثوره فاطمه كانت ذياك التعبير عن الم فى النفس كانت تدرك هى كل اسبابه و تعانى كل اثقاله لقد عاشت اباها فى كل قضيه، و لقد تزوجت عليا فى تجسيده تلك القضيه و لم يكن موت ابيها الا لبفقدها نشوه تحسس القضيه و استطراد نموها.

لقد بدات تلمس- بكل حسها- ان الموت الذى تناول الرجل العظيم اخذ يمد يده البارده الى النتاج العظيم الضخم من بعده... ان البادره الاولى كانت رهيبه بالنسبه اليها:- اين اصبح كرسى الخلافه من زوجها- زوجها بالذات الذى ساهم بالنحت و التوجيه و الاخراج ماذا كان النفع من الوصيه؟ لم ينفع لا التلميح و لا التصرح.

بوحى هذا الكابوس انطلقت فاطمه تعبر عن نفسها لتعبر عن كل القضيه- اما اولئك الذين سمعوها، فانهم لم يسمعوها، الا من خلال فدك- من خلال ارث- فقط تطالب به.

انه فيما- بعد- فى كل سنه بعد سنه- فى كل جيل بعد جيل- اصبح السماع اليها من خلال القضيه.

هكذا كان يعمق- مع الوقت- سمع الخطاب، و هكذا اصبحت فاطمه تسمع- من خلال صوتها الناعم- كانها النذير...

ما تضاءلت قشيه فدك ولكن فاطمه اصبحت- من خلالها- و ترا فى غمد.

فدك
ما اضيق (فدك) ارثا لفاطمه.

لن تكون قريه فى الحجاز- مهما تطيب ارضها، او تسبق نخيلاتها او يترطب جو و احتها- حدود ارث لتلك التى وعدها ابوها بكل ميراثه.

و ميراث محمد؟ فى ايه خريطه من الخرائط تنزلت له الحدود؟ ذلك الذى ربط الجزيره بالافاق و اذاب الافق فى الاجواء- لا اراض وسعت و لا الخيال يطال- ذلك الذى فتح الغار على الاغوار، لن تكون الارض وحدها حدود رواه، و لن يكون الفضاء ابعد من مداه انه رسول اللَّه ذلك الذى هو قبل الحدود و بعد الحدود، قبل الزمان و بعد الزمان.

ان اولئك الذين كانوا يطلبون خلافه، قد ضيعوها لما وضعوا لها حدودا، و جزاوها لما اقتطعوا منها ما سموه بفدك- و ماكانت خلافه محمد الا نظره متطاوله الى ابعاد:- مع التراب و عبر التراب- مع الاثير و عبر الاثير- مع الانسان و عبر وجود الانسان. و ما كان محمد ذره من تراب الا ليكون كل الهيولى، و ما كان بوبو عين الا ليكون فضاء، و ما كان غارا الا ليكون كوى المفاتح، و ما كان (فدكا) او واحه فى فدك الا ليكون جنه او كوثرا فى الجنان.

و لقد رمز الامام موسى بن جعفر الى هذا المعنى فى الشمول، اذ حدد فدكا بهذا الرمز: الحد الاول لفدك- عدن- و الحد الثانى سمرقند و الحد الثالث افريقيا، و الحد الرابع سيف البحر مما يلى الجزر و ارمينيا.

و هذه حدود، ان تشمل، فانها لا تشمل غير حدود امبرواطوريه الاسلام، انها ليست اكثر من حدود مغبره فيها ماء و فيها تراب- و حدود فدك- لعمرى- هى فدك و ما بعد فدك- و هى بعد كل غور، و بعد كل مرئى و بعد كل ملموس و محسوس، و بعد كل حاضر و بعد كل آت،- انها كل ذلك: موجودا و مضمونا، مقطوعا و موصولا، منثورا و منضودا

و لقد ذاب يهود فدك لما ذابت حدود فدك فى الهاله الكبرى- و لقد انتصرت الجزيره على فدك، فى الساعه التى انغمرت فيها بالنور- فى اللحظه التى انفتحت فيها آفاقها على الاجواء- فى اللحظه التى وجد فيها الانسان حدود الانسان.

فى تلك اللحظه فقط: تقلص اليهودى، و ذاب و هم ارض الميعاد- فى تلك اللحظه فقط، ماد جبل طور سيناء تحت خفقه و مضه الحق فى تلك اللحظه انخبطت اسباط بنى اسرائيل و فقئت عين الاسخر يوطى و تصدع حجاب الهيكل، و طغى الزبد على مرفا ايلات- فى تلك اللحظه كانت تربط الارض بالسماء، و تتوسع آفاق الارض امام الزحف المومن، لتتقوض اركان المرتع الرومانى و تهتز جذور اواولين الاكاسره- فى تلك اللحظه كانت تتثبت حدود اللامحدود، و تذوب النزعات اليهوديه الحقيره فى مصهر الحق و العداله فى تلك اللحظه كانت تتنظف الارض من الادان، و يتحول السراب الى انداء و ينقلب عجين الغبار الى مزاهر...

ثم عاد يعيش الوعل الرومانى عاد يتنفس الذئب فى اسرائيل- عادت منذ تلك اللحظه- بالذات- تفرط فيها فدك الى حدود، ينظر اليها عددا من نخيل و رطوبه فى واحه و سواد فى تراب. منذ تلك اللحظه المترديه اخذ يتقلص النور ليحصر فى زجاجه، و اخذت السحب تتجمع من مساحيها العميقه كانها معاقد الدخان فوق البراكين تتحول الى نشفه السراب...

على هذا المفرق الحزين- و بعد موت النبى- وقفت فاطمه تنشد ارثها فلا تجد حدودا له اوسع من قريه فى الحجاز فيها واحه و فيها نخيل، و فيها عنصر من الناس ما كادوا يذوبون حتى عادوا فانفجروا اسافين تقوض عز امبراطوريه كانت تفتش عن حدودها فوق الارض، و تحت الارض و فوق السماء و تحت السماء...

ابنه النبى
لقد كانت فاطمه الزهراء ابنه النبى اكثر مما كانت ابنه الامين محمد- لقد كانت ابنه الصفه فى زوجه خديجه.

و اى معنى للانسان يعيش بجسده و لا يعيش بالصفه فيه؟ ايه قيمه لحبه القمح ان لم تكن تاجا فوق ساق تمتن بقوه الخصب من قلب الحياه؟ و اى معنى لبتلات الزهره ان لم تكن فوحا بين و ريقات تخضلت بانفاس الربيع و انداء السحر؟

و فاطمه العفيفه كانت ابنه الصفه فى النبى- الصفه المخصبه بعبقريه الخلق و التوليد- لقد كان جسدها النحيل و عاء لروح شفت حتى اندغمت بالمصدر الذى بزغ منه ابوها.

و هى التى احبت اباها ياكل اللقمه على المائده الكبرى و يشرب الكوب من رشح المنابع- هكذا احبت اباها صفه فى الوجود لا طينه من تراب- احبته ذره رمل تحضن سوسنه و ليس ذره رمل تتطاير طحين غبار- احبته غماما يتكاثف ليهمى غيثا و ليس ضبابا يتناشف ليرتجف سرابا...

تلك هى الرهافه فى الصديقه الزهراء التى جعلتها ابنه نبى اكثر مما جعلتها ابنه عبقرى، تلك هى القبهل المفتوحه على بواكير الصفاء، تخص رفيقه للرجل العظيم الذى شرع حسامين دفاعا عن حق توطدت ركائزه على صلابه ساعده و متانه منكبيه كما تركزت على متانه عقله و صفاوه وجدانه- و تلك هى البتول المحصنه بحب ابيها، حب ذابت فى كما تذوب الشموع على مدارج الهياكل، لتكون اطهر ام عرفتها الاجيال.

زوجه على
تبارك بيت لحارثه بن النعمان- بيت موصول بيت، جدار واحد يفصل و يجمع- ذلك البيت كان البيت الجديد الذى نزلت فيه فاطمه و زوجها على، ليكون لها فى جوار البيت الكريم جدار تسند اليه راسها الناعم فتسمع من خلفه نبض قلب الاب الكبير يخفق حبا و كبرا و حنانا.

من هذا الجوار كان يمتد- عبر الجدار- سلك مسبوب اخذت فاطمه تتلمسه كل صباح و كل مساء- و تنقر عليه من قلبها كل لفحات حبها و عطفها و اعتزازها، و تستقبل عليه من الطرف الثانى كل اللواعج المكنونه فى قلب راى الدنيا كلها مسكوبه فى عين فلذه حلوه من فلذاته.

فى هذا البيت الذى فضلت ان تنتقل اليه مع زوجها، تيمنا بالجوار و التصاقا بالجدار- تمت حياكه عمرها.

لقد تزوجت عليا، لقد عرض عليها من قبل الزواج- من ابى بكر الصديق مثلا- من عمر بن الخطاب طالب آخر- ولكن النبى الكريم ما كانت له بعد الموافقه- انه كان ينتظر- بفاطمه- القضاء... حتى نزل القضاء.

و لقد تم الزواج ببساطه كانها لقناعه، كانها الرضى، كانها العفه، كانها الاستسلام لمشيئه منتظره، كانها السعاده المرجوه على ارتقاب.

و ارتبطت حياه فاطمه بحياه على بالرباط الذى يجب ان يتقاسم عليه كل زوجين احكام المصير: نعيما بنعيم و بوسا ببوس.

و تقدمت فاطمه الى ساحه الحياه، تحمل على منكبيها اعباء المشاركه، برضوح المومن فى استجابته للمشيئه الكبرى، و كانت التلبيه منها شهاده لها بالاصاله.

احبت عليا بطلا، فانذغمت به على بطوله، احبته صمصاما، و لم تقبل الا ان

يكون على يده تلميع حسامه، احبته خيالا و لم تسبح الا فى فضاء خياله، احبته غيثا و لم ترض الا بان تغتسل بالمزنه من غمامه.

كل هذا كان منها على تحقيق: رضى بفقر، و صبرا على قشف، و استسلاما بايمان، و رضوخا عن اقتناع، و سكوتا فى كبر، تاديه لواجب عينته نظره واضحه المراى جليله المرمى.

لم يكن الجدار الفاصل بين بيتها و بيت ابيها غير سلك تعبر عليه تلك الاشواق المحمومه: تنهمر عطفا وضياء من عين ابيها، تستنير بوهجها فى تنقيل خطواتها على الطريق الشائك، و تقوم بكل مسوولياتها تجاه فروض الحياه. كيف لا- و هى ليست الا ام ابيها- ان قلبها الصغير بمكنته ان يتسع ليس لامومه مفرده بل لامومتين. هكذا رضيت بتحمل الاعباء- مع جسمها النحيل- تحقيقا لاهداف قبلت بها نفسيتها الجباره.

و لن تخيب اشواق ابيها. ان خصرها النحيل سيتقبل خلجه الحياه الشريفه، و ستتوسع ضلوعها مع الجنين الاول لتضع فى حضن الحياه اقدس ما تتمكن به من مشاركه الحياه فى الخلق والابداع- و سياخذ النبى اول نتاج لفاطمه، و سيرفعه بين يديه الكريمتين، سينفخ فى وجهه نسمه الحب و الرضى، و سيطرح عليه البركه التى سترافقه مع الاجيال.

هنيئا للام النحليه باكوره اعراقها و الامها و دموع ماقيها تنطفى كلها مع وعوعه طفلها الاول مرتسمه على محياه الندى احلالما عذابا تتبلسم بها عين ام انجبت لابيها عماد الملكوت.

ثم انجبت الام فلذتها الثانيه- من عصاره نحولها- ليكون للنبى بالحسن و الحسن جناحين فى امتداد المجال.

و بقيت الام تنجب- من جسمها النحيل- لقد نزلت فى البيت الفقير اختان اخذتا اسمى خاليتهما زينب و ام كلثوم، و بقيت الام تشارك بالمجهود، تاره تسقط تحت العب فيمد الزوج الامين يد المساعده و طورا تنهض لمتابعه الجهاد ببطوله ما كانت تجد فى الجسم الهزيل تلبيه لها.

و ما ونت- ستتحمل موت ابيها، و لقد تحملت من قبل اغماضه عين امها- و ستشارك زوجها فى بطولات الدفاع.

ان باحه المسجد ستنتظرها و هى ماشيه اليه- و لن تنهار قبل ان تفى البطولات حقها، و قبل ان تسجل- مع العبير- اسمها الجميل.

ام الحسن و الحسين
و هذه رحم ما كانت بطانتها من لحم و دم- لقد شقت من قبل رحم مثلها عن ولاده جاءت رحما لسمو الانسان، تلك مريم واضعه فى حضنها ذلك الذى احتضن الارض و السماء، و هذه فاطمه الزهراء تتفتق خاصرتها عن سلاله هى ديمومه النبوه فى خطها الصاعد مع الاجيال- هى ارث الانسان فى احتكاكه بالجوهر الاسمى فيه، هى ذلك التحضير النفسى لتحسس الانسان بقيمته المربوطه بالمصدر الاعلى، هى تكثيف ذلك الادارك الانسانى عن طريق التحسس الضمنى بان اللَّه سمو، و اكثر ما يتحسس به هم الاولياء المرهفون.

و ما كان الحسن و الحسين الا بدايه السلسله الموتمه ان الرحم التى انشقت عنهما ما طالبت الا فى انها كانت مستقرا لذريه تحدرت من قطب الوعى العقلى و التفتح النفسى، تحدرت من مشئيه ذلك الذى استوحى المشيئات.

«هذان ولداى امامان قاما ام قعدا».

«النجوم امام لاهل السماء و اهل بيتى امان لاهل الارض».

«يا على، اساس الاسلام حبى وحب اهل بيتى».

«اثبتكم على الصراط اكثركم حبا لاهل بيتى».

انها مشيئه فى تعيين الارث وضبط المخططات، ان الجزيره المفككه بحاجه الى هذا الانضباط، ان انسان الجزيره المشتت بحاجه الى جامع- الى ضابط والى وازع-انها باشد الحاجه الى القياده.

و ارث محمد ما وسع اليضيق و ما انفرج ليقبض، و لقد اصبح ارث الرسول اشمل من ان يحد بتخوم و ابعد من ان يحصر بمجال- و لم يكن اعتماد النبى فى التحصين و التكميل الا على رجل واحد شاركه بالتنوير و الاضاءه، و لم يهب حبه الكامل الا لامراه واحده انشطرت من قبله و انتزعت من روحه، و لم يعقد له امل الا على اهل هذا البيت الذى اخذت يدرج فيه عمادا الاتى.

لهذا جمع اهل البيت تحت كسائه:

«انما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس اهل البيت و يطهركم تطهيرا».

«الصلاه اهل البيت- الصلاه».

هكذا تم التحضير، فالرسول انما هو فوق الارض لتسرى عليه نواميس الارض- لن يكون بعيدا يوم يترك فيه جبله التراب، و لن يترك صفحه الارض قبل ان يترك لها خريطه الغد، ان الشريعه قد نزلت فى قرآن، و سيعين عليا اول قيم على هذه الشريعه، من هنا تكون بدايه الخط من جيل الى جيل.

و لم تكن- اذا- فاطمه الا لتتسع و هى تسمع اباها يمهد لها و لاهل بيتها بالارث و بالوصايه.

فى مبدا البعثه قال النبى فى على: «هذا اخى و وصيتى و خليفتى فيكم».

فى غروه الخندق قال: و قد برز على الى عمرو بن ود: «برز الايمان كله الى الشرك كله».

و قبل الهجره قال: «انت منى بمنزله هارون من موسى، غيرانه لا نبى من بعدى».

و لقد روى ابن عباس: ان النبى قال: «انه لا ينبغى ان اذهب الا و انت خليفتى»- «لا يحبك الا مومن و لا يبضغك الا منافق».

و لقد قال الرسول: «انا مدينه العلم و على بابها».

«اقضاكم على»

على مع الحق و الحق مع على لن يفترقا حتى يردا «على الحوض»

«لكل نبى وصى و وارث و ان وصيى و وارثى على»

و يوم الغدير قال: «اللهم وال من والاه و عاد من عاداه»

«من كنت مولاه فعلى مولاه»

بهذا التحضير الكامل هيا النبى عده المستقبل، موجها اهل الجزيره لاعتماد الخطه الجامعه التى تاخذ على عاتقها السير بالامه على منهج موحد، ليبعد عنها الضلال، و ليقيها شر الفرقه.

ان ام الحسن و الحسين كانت اشد الناس استيعابا لقيمه التحضير.

الامامه
و ما كان التحضير الا ليحصر القياده فى نطاق عصمتها، فالخلافه الاولى هى لزوم جمع الصفات الكبيره، فيها، فهى امامه، من حقها ان تكون راسا كبيرا و عينا وسيعه و قلبا رحيما، من حقها ان يكون لها ثقل السداد و بعد النظر وقطب العداله و روح السماح، من حقها ان تكون هذا الراى و هذا العطف و هذا التفانى، من حقها ان تكون هذا الكل و هذا التوجيه و هذه الرفعه، من حقها ان تكون ترجيح عصمه.

فى اللحظه التى تامنت فيها للجزيره هذه العصمه المتكامله تضافرت مجادله نحو تحقيق، ما شهد التاريخ له مثيلا.

لم يكن النبى العظيم ليغفل عن سر نجاح دعوته الكبيره، فاحب ان يترك للجزيره من بعده من يتمكن من متابعه جدل الحبال- لن يكون ذلك عن طريق الاختيار، فقبائل الجزيره لم تبلغ بعد الرسد حتى تتسلم بنفسها زمام نفسها، ان تربيه المجتمعات الانسانيه تلزمها الاجيال الطوال حتى تصبح الثقافه فيها اصيله المعدن، و معها تعمق تلك الثقافه فى المجتمعات، فان الافراد فيها تتفاوت مفاهيمهم و لا يجمعهم كلهم صواب الادراك، ليبقى هناك واحد تنفرد فيه صفات القياده.

و لقد احب النبى ان يعين القياده من بعد تحضير طويل، و لقد وجد فى على كل انصباب الصفات الموهله، و لقد جليت هذه الصفات و برزت جلوتها، و لا شك فى ان جلوتها كانت نتيجه هذا الاحتكاك المتين.

من هنا يبدا الخط فى توارث الصفات و نقلها فى جو من الاحتكال الدائم يكون فيه التمرس الطويل طريق للاقتباس و للابداع.

هكذا حصر الامامه فى على لتكون من بعده وحى ولاء عن ولاء و فهم عن فهم و مراس عن مراس و توليد عن توليد و كفاءه عن كفاءه. بهذا الخط الثابت تتوصل

الجزيره الى حقيقه ديمومتها فى الخط البناء المتصاعد، موفره عن نفسها التمرغ فى حزبياتها و الوان سياساتها مبعده عن نفسها اخطار الاختيار فى الرجوع الى قبلياتها المتناحره على كرسى السيادات.

بهذا الاستقرار تتوصل الى نحت نفسها فى تعميق ثقافاتها و تنميه معاولها و تمتين ركائزها، و بهذا الاستقرار تتوصل الى تنقيه اجوائها من زحم الغبار، و الى تجنيب و احاتها من رجفان السراب.

تلك كانت نظره اصيله الى مجتمع كمجتمع الجزيره، مر حقبا طويله بمحاولات قاسيه ما كان يجنى منها غير التفكك المخزى: فلقد عاش مشتتا فوق رقعه ملتهبه، الاستنباط، و تهرب منها روابط المجتمعات المتحضره من اقتصاد نام وثقافه مولده.

و لم تشعر يوما بقيمه وحدتها حتى جاء النبى يلملم خيوطها و يجمع شتيتها- و لقد سلمها للتاريخ عبره من اذكى العبر: فى كيف ان المجتمعات المترديه يفعل فيها التوجيه الموحد ما لا تفعله ايه قوه اخرى و فى اى مجتمع لا يعتمد فكره التوحيد.

تلك كانت يقظه الجزيره فى تحريك القوه الشعبيه فيها نحو اهداف و مثل هى وحدها تلك الاهداف و تلك المثل تعين المنهج و تلون الخط و تعصر المجهود من كل طاقه بشريه حتى تعمل ايجابا.

ان تسليم الجزيره لامامه مصقوله- خصوصا فى ذلك الوقت من تاريخها، و فى تلك الحال من اوضاعها، كان فيه كل الصواب و كل الرشد.

و ما كانت فاطمه الزهراء الا لتشعر بهذا الثقل يرزح على بيتها الكبير، فهى ام هذه الامامه و بدايه هذا التاريخ.

الارث
كل الذين يرثون يتعين ميراثهم الا فاطمه الزهراء، فان ارثها لم يكن ليتعين، فهو- فى الوقت الذى كان يشار اليه فى فدك- كانت حقيقته تمتد من مكه الى المدينه الى خيبر الى هوازن ثم الى الشام و الكوفه، ثم اخذ يمتد الى فارس و الهند و الى مصر و افريقيا.

لقد كان ميراثها فى فدك من لون التراب، و اصبح- فيما بعد- من نوع الاثير... لقد كان يتقيم- مع كر الايام- كانه من لوع امتداد الاظلال للاجسام، تقصير فى قرب هذه من مصدر النور و تستطيل مع بعدها عنه.

و كان ارثها مع ابيها نبوه، و اصبح فى زواجها من على، امام ثم ارتباطا ببطولات، و تطور فى فدك الى صنوج تستثير الى جهاد، و انقلب مع الحسن و الحسين الى امتداد القضيه ثم الى الستشهاد.

ثم تطاول الظل فاصبح الارث و لاء تعشتقه الاجيال عفه مسلك و طيب تذكر و حباب مسابح ووجه قدوات، و حقا مشروعا يطلب و ذكرا لا تطاله النسوه.

البقيع
ان البيت الذى بنى فى البقيع من جريد النخل، هو الملجا الذى كانت تاتى اليه فاطمه تنفس فيه عن آلامها و احزانها، لو ان وصيه ابيها احترمت لكان لها كل التاسى- لكانت لها اليوم جهود تصرف للعمل الايجابى، ولكن الموت الذى اسكت قلب ابيها مهد السبيل لرجعه جاهليه حالت دون وصول زوجها الى تسلم المقود.

ذلك كان الفشل الذريع. لقد هبطت- من اعلى ذروتها- باسم الامال، لقد ذبلت- من ابهج يوانعها- معاقد الاحلام.

كل ذلك جاء الما على الم- يزحم بعضه البعض، و جاء مع الكفر بالنعم، جاء مع الجحود مبيتا على الكره و البغض و التحدى، جاء انتهازا لفرصه و ضربه غدر: فكان اختلاسا و تحقيرا و امتهان كرامات و اخلالا بمواعيد و نقضا لمواثيق.

و جاء تهديدا لوحده جماعيه عصر مجهود عمر فى خلقها و تمتينه و تعهدها. جاء تهديدا بهدر اتعاب كلفت كثيرا من التضحيات و نزف الدم فى مجال تحقيقها و تثبيتها و تسييرها فى وجهاتها الصاعده المتالفه، جاء خطرا على الغد الذى ينتظر اكمال الصرح الثابت بعزيمه الابطال العباقره، جاء محدودا بنزعه، مصبوغا بميل، مبتورا بنيه، مجروحا بغايه، مذلولا بقصد، مجنوحا بقصر نظر. جاء يقسم الخط الموحد الى خطين، ثم كل خط منهما الى ما لا يعلم الا اللَّه قيمه كسوره.

تلك هى جسامه الالام التى كانت تعانيها فاطمه- فى البقيع- دموعا على ابيها الراحل، و نفثات من صدرها كانها الهلع على المصير.

بسمتان
و لارض- ما استحقت من فاطمه غير بسمتين طافتا على ثغرها كما تطوف السخريه على فم حكيم امام كومه من الجهله او شر ذمه من الافاكين، و البسمه الاولى تذوقها ثغر فاطمه و الالم يعصر قلبها حول فراش ابيها يطوف حوله شبح الموت، و كانت بسمه فيها كل الغبطه و كل الرضى، لقد شهدت لها بهذه البسمه عائشه ام المومنين، لقد تعجبت عائشه من بسمه تسرح على محيا فاطمه الحزينه قباله جسد ابيها تتجاذب اوصاله الحشرجه- و لقد اتهمتها بما يشبه الخبل- فالموت الذى يخيم بجناحيه فى القاعه الواجمه ليس بمقدوره ان يستل غير الدموع و لولوله، و ما يخيم بجناحيه فى القاعه الواجمه ليس بمقدوره ان يستل غير الدموع و لولوله، و ما درت- الا بعد حين- ان بسمه فاطمه كانت جوابا على وعد اسره الاب فى اذن ابنته بانها ستكون اول الاحقين به.

تلك هى البسمه الاولى طرحتها فاطمه على وجهها ازارا توارت خلفه بحور من المعانى: بحر من الادراك، بحر من الحب، بحر من التفانى، بحر من الزهد، بحر من الهزء بالارض و تراب الارض، بحر من التفلت، بحر من التوق الى التملص و الانعتاق، بحر من الايمان بابيها، بحر من العنفوان، بحر من البطولات- و بحر من التراث المجيد.

و كرت بعد هذه البسمه دموع فتحت فوق خديها المجارى هى دموع الحنين الى تحقيق ما وعدت من قرب اللقاء، هى دموع التراب يغتسل بتكسير الموج على الشواطى، هى دموع الابطال يرسفون فى قيود الاسر، هى دموع الماسى تتجسم فوق خشبات المسارح.

و جاء دور ختام الماساه، تلك كانت بسمتها الثانيه، بسمتها الاخيره، لقد جادت بها و هى تسجى نفسها فوق نعش تمكنت هى من الصعود اليه، لقد كان قبولها بالموت كقبول عروس بجلوتها يوم الزفاف، لقد اغتسلت- ثم طلبت ان تلبس ثوبها الجديد، و القت على جسدها بساط الكفن. لقد تمت الجلوه الباهره.

كل شى قد تم. ان الكلمه الاخيره جاءت التماسا بان لا يكشف جسدها بعد موتها، لقد انجزت هى بنفسها كل الواجبات، و اغمضت عينيها، و على ثغرها تطفو ابتسامه الرضى:

لقد اصبحت فى حضره ابيها...

اسماء بنت عميس
تباركت انامل «اسماء بنت عميس» تباركت كف لممت الفراش، و حامت حوله كما تحوم الفراشه المزاهر، تباركت باع اسندت الراس المنحنى على فراش الموت، تباركت قدمان طافتان فى البيت كما يطوف الطهر فى عب الزنابق، تباركت اذن نزلت فيها آخر دعوه من دعوات فاطمه:

«سترتمونى- ستركم اللَّه».

لملمه الخيوط
عناصر البحث:

دواف

منطلقات

شده الاوتار

حبل الحزام

المردن

دوافع
اذ ينتهى هذا العرض، بهذا التصوير التلميحى الموجز، يكون قد برز الاطار الذى تتنزل فيه شخصيه فاطمه الزهراء.

كان فى موت النبى بروز هذه الشخصيه التاريخيه- و كان التصرف بالخلافه على النحو الذى انتقلت فيه الى يد ابى بكر الصديق ما عين بروز فاطمه الى الساحه المكشوفه بروزا اضفى عليها هاله كبيره من البطولات، و كانت «فدك» مفتاحا للبوابه التى اطلت منها على رحابه التاريخ.

و الحق يقال: ان كل القضايا التى لا يولج اليها من مداخلها تتعقد فى وجه الوالجين، و ليست كل قضيه الا لتكون مستنده على نظره فلسفيه تبرر وجودها كقضيه، ان الفلسفه الحقيقه هى التى تكمن وراء القضايا، تتثبت هذه الاخيره عليها من عمق الواقع و من عمق الضروره.

و قضيه الخلافه بعد النبى كانت من تلك القضايا المصيريه الكبيره و كانت على مستوى القائد الاكبر، عالجها بحرص و رويه، و لقد راى انه من الخطر البالغ افلات الزمام فيها فى معرض طرحها على الراى العام ليقرر الراى العام وجهتها و كيفيه مصيرها، لقد كانت الشورى لديه شبه مفقوده، فهو لم يكن يامن للشورى، لقد كان له الراى المنفرد بالعمل، يقينا منه بعدم وجود الاكفاء فى معاجله قضيه فتيه وضع هو بنفسه لها كل البنود.

ذلك كان واقع الجزيره، فى ضعفها كمجتمع، و فى ضعف هذا المجتمع كثافه و توجيه. ان الراى العام فيها كان نهبا لنزعات قبليه مشروره دون روابط- دون تحسس بمسووليات تتحملها همه الواعين المخلصين- ان قيمه المجتمع لم تكن من بين الفضائل التى يتسابق الى حرزها الواعون المدركون، ان هذا الحس كان ضعيفا جدا- فى الجزيره- بمعناه المجتمعى.

ذلك كان ضعف الجزيره تفقد به كل الروابط التى تجعل منها مجتمعا متينا،

عكس ما كان ينشا من حواليها من مجتمعات واعيه سبقتها الى نبذ قسم من خلافاتها، فسبقتها بكثير الى التحقيق.

و ما كانت الرساله الجديده غير معالجه جذريه، انوجدت بها للجزيره قضيه نجحت فى التحقيق، و هى لا تزال تنتظر- فى تثبيتها- مرور الزمن حتى تصبح ثقافه راسخه مع طول المران.

لقد اصبحت قضيه كبيره، عينتها فلسفه عميقه نبتت من واقع صريح، و لا يجب ان تكون الخطوه الاولى الا فى كل حذر، فالمجتمع ضعيف التمرس و خفيف المران، و تلك قضيه اخرى يلزم ان تسند القضيه الكبرى- انها قضيه الخلافه.

و لم تكن النظره للخلافه الاولى الا من معدن المخلوف، فالضروره- ايضا- تقضى بان تاتى طبق الاصل، دون احداث ايه رجه فى البناء الذى لم تنشف بعد طينه بنيانه، ان نظره النبى الى قضيه الخلافه عينها- هو- قبل ان يرحل، فكل المصادر تشير الى كونه قد عينها من وحى هذا الحرص و هذا الواقع- ان الذى كان بمكنته ان يسن شرعا و دستورا للناس و لا جيال الناس- لم تفته هذه الحواشى ان واقع الجزيره يقضى بافضاء الحكم فيها الى سلسله منخوبه تامينا للخط المرسوم.

ان التاريخ يثق بنفسه، فلقد دل الى على بن ابى طالب بكل وضوح، بانه هو الموصى به للخلافه، ان هذا الرجل العظيم هو الذى نحته النبى الكريم ليكون على الخط الطويل، ولكانت انتهت ازمه الخلافه لو ان الامور اخذت مجراها المنحوت.

كان الولوج الى قضيه الخلافه- بعد موت النبى- من جانب غير الجانب الذى عين الدخول منه، لهذا كانت الرجه عنيفه بالنسبه الى البنايه الناشئه، لقد اهتز المجتمع من الرجه المحدثه، هكذا عاد يستيقظ الراى العام ليتسلم هو بنفسه زماما لم يكن ليعرف كيف يوجه له المسير، لقد عادت القبليه عينها تخط فى الجزيره، مثيره حولها الغبار، لقد عاد الزعماء الى التمسك باعنتهم ليلهثوا على طول طريق عقد فوقه غبار و عقد فوقه سراب...

و القضيه التى اثيرت- بنسبه ما حادث عن مستواها الاصيل- وجدت

امامها العراقيل. ففيما يختص بخلافه الصديق، كان عليها ان تعمد الى كل ما يعزز لها الدفاع- ان ذلك من اهم ملتمساتها. و كانت «فدك»- بقطعها عن اصحابها- من اهم الضلوع الدفاعيه، اذ ليس من الجائز ان يسلم الخصم اى سلاح.و فدك كانت مصدرا للخصم و موردا سيصرفه على تقويه نفسه: اكان مباشره ام مداوره فى تعزيز الانصار.

ولكن التعدى على الحق المشروع من شانه ان تكون له رده فعل تضيع قيمه القصد من المحاوله، و قد ظن بان قطع «فدك» يقطع المدد عن فاطمه، و تاه الذين ظنوا بان ليس هكذا يقطع الوريد..

ان «فدكا» كانت بخدمه القضيه الكبرى، و قطعها لا يعتبر الا بمثابه انتهاك تلك القضيه بالذات- لذلك كانت المطالبه بفدك مفتاحا للوصول الى صلب الموضوع. و لو لم تكن «فدك» موجوده لكان التفتيش عن مفتاح آخر له نفس السرعه و نفس الغايه، مع العلم بان «فدكا» لم توثر لا بقليل و لا بكثير على سير القضيه التى نشات لتنفجر ازمتها رويدا رويدا مع السنين و مع كل فرصه سانحه ان اليوم الحاضر لا يزال يلاحق القضيه من خلال اسم «فدك» و ليس من تحت فى نخله فى قريه فى الحجاز تسمى «بفدك».

هكذا ظن الذين قطعوا «فدكا» عن بيت فاطمه- فى خدمه لون سياسى ضل عن قاعده مخطوطه بناء على هندسه صممها واضع الخريطه نفسه- ولكن التغير فى الخريطه من شانه ان يودى الى خلل عام فى خطوط الهندسه، ولن يكون اصلاح هذا الخلل منوطا بغير المخطط نفسه- و ها هو الاصيل غاب، و ها هو الوكيل تفرض عليه القيود.

كل شى ء- بعد موت النبى- مسه الخلل، مسه التبديل و التحوير لقد ظهر الاحتجاج- اول ما ظهر- فى باحه المسجد، لقد نجح المخطط، ولكن النجاح كان آنيا، سوف تظهر السحب فى الافق ان لم يكن الليله ففى غد، ان العاصفه بدات تنشر امامها سحب الغبار...

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية