الامام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام

نحن أمام بحر طامٍ عمّ جوده وبدرٍ سام أشرق وجوده، نحن أمام شمس المعارف الکبرى وأستاذ الأئمة وقائد جمیع الأمة، الذی لم یُرَ إلا صائماً أو قائماً أو قارئاً للقرآن.
نسب أزهر فی التاریخ فحول الصحاری إلى أزاهیر، وحَسَبٌ تجاوز فی علوّه المریخ فسطعت منه المجامیر، وعزمٌ فلّ به حراب الدهر وحلم ملأ به إهاب الفخر، وبحر بعید قعره، زخّار موجه، یفیض عطاءً دون توقّف، حتى شهد بفضله القاصی والدانی مسحت شمس هُداه دیاجیر الجهل وأضاءت تعالیمه کل حنایا الروح والعقل.
منهله عذب لروّاده، ومنتج لقصّاده. یزدحم أهل الفضل فی رحابه، ویشرفون بتقبیل أعتابه. والکل یرجعون بطاناً مرویّین یشهدون بقوة حجته وشدة عارضته، یذعنون له تسلیماً واطمئناناً، ویعترفون بمرجعیته تقدیراً واحتراماً.

لقد منی
الإمام الصادق (علیه السلام) بعصر أقلّ ما فیه أنه عصر الاتجاهات غیر المتجانسة فکان (علیه السلام) یجمع بین المتفرقات ویفرق بین المجتمعات.
مدرسة سیارة ولکنها شاملة ومستوعبة لکل ما تحتاجه الأئمة فی حاضرها ومستقبلها معبّراً عن طموحها وتطلعاتها.
والده بقر العلم بقراً وأورثه ما عنده من أدب کأحسن ما یرام، حتى بزّ الأولین والآخرین عدا ما استثنی، فإن الله تبارک وتعالى سخّره لإکمال السلسلة وقیادة المرحلة. یهدی التائهین من جانب، ویعلم الجاهلین من جانب آخر. یخاطب الناس على قدر عقولهم ویؤدبهم بحسب استعدادهم، یظهر على الزنادقة فیطبّعهم، وعلى الفیاهقة فیطوّعهم. وکم نصبوا له المکائد لیوقعوه فیها ولکنه کان أحذر وأجرأ من أسد.
یعالج الأمور بحکمة علی وصبره، وقوة الحسین وجهاده، له من جدّه النبی محمد (صلى الله علیه وآله) المثل الأعلى والقدرة الحسنى، لم تغرّه بهارج الدنیا وزینتها، ولم یجرِ إلى بعض مزالقها. وأثبت أنه الأعلم والأفقه، بل الأستاذ الأوحد فی تلک الدنیا التی کثر فیها العلماء وکانوا ظاهرتها الأبرز.
والإمام الصادق (علیه السلام) استطاع بواسع علمه ورحابة صدره أن یستوعب الجمیع ویعلم الأئمة المتأخرین، کأبی حنیفة ومالک والشافعی وأحمد، ویثبت أستاذیته للمدارس الفکریة والجامعات العلمیة کلها، حتى أصبح حدیث الناس وشغلهم الشاغل. ولشدة إقبال الناس إلیه وتتلمذ العلماء علیه وتأسیسه المدارس وتخریجه العلماء نسب المذهب الجعفری إلیه، وانعطف الموالون لأهل البیت إلیه مع أنه جزء من السلسلة المبارکة. لکن الوضوح الذی حدث فی عصره والانتصار الثقافی الکبیر الذی حققه جعل الاتجاه الثقافی والإعلامی یمیل نحوه بالخصوص. وبعبارة صریحة کان ینشر مذهب رسول الله (صلى الله علیه وآله)، بصِیَغ متطورة کحاضر سعید ومستقبل اجتماعی متقدم.
إن الأقوال والنعوت التی تُبرز دور الإمام الصادق (علیه السلام) وتظهر علوّ مقامه وسموّ فضله قد صدرت عن کبار علماء الإسلام من شتى الفرق والمذاهب، وما زالت آثارها باقیة حتى الآن، والحوزات العلمیة الیوم هی امتداد لتلک الحوزة العلمیة العظیمة، ومن تراث ذلک الإمام الهمام.
والإمام الصادق هو صاحب مدرسة عظیمة جداً مدت جذورها عمق التاریخ وبقیت مبارکة طیبة، أصلها راسخ فی الأرض وفروعها فی السماء، تؤتی أکلها کل حین بإذن ربها.
وصاحب هذه المدرسة وحده موسوعة علمیة، تقف وراء طاقاته التکوینیة المتینة أسباب جلیلة ساهمت جمیعها فی شحن المعارف الواسعة إلى فکره المرکّز، وإرادته المعتصمة بالمران الأصیل.
وکانت تلک المعارف والطاقات المبارکة کلها تصب فی بوتقة واحدة هی بوتقة بناء مجتمع صالح وفرد یعیش حریة الفکر وحریة الإنسانیة وعبودیة الباری عز وجل.