نكاحها (عليها السلام) في الأرض

قال ابن أبي الحديد: وإن نكاحه علياً إياها ما كان إلا بعد أن أنكحه الله تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة(26).
وكان بين تزويج أمير المؤمنين بفاطمة في السماء وبين تزويجها في الأرض أربعون يوماً(27).
عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أتاني ملك فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك: إني قد زوجت فاطمة ابنتك من علي بن أبي طالب في الملأ الأعلى، فزوجها منه في الأرض(28).
قال المحقق البارع علي محمد علي دخيل: للزهراء عليها السلام فضائل ومميزات على جميع النساء باعتبارها سيدة نساء العالمين، ومن هذه الفضائل ـ وما أكثرها ـ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام وأنه كان بأمر من الله تعالى، وأن مراسيمه تمت في السماء قبل الأرض، وفي العالم العلوي قبل السفلي، روى ذلك الخاص والعام وتواتر به الحديث(29).
عن جابر قال: لما أراد رسول الله أن يزوج فاطمة علياً قال له: اخرج يا أبا الحسن إلى المسجد فإني خارج في إثرك، ومزوجك بحضرة الناس، وذاكر من فضلك ما تقر به عينك. قال علي عليه السلام: فخرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا ممتلئ فرحاً وسروراً، فاستقبلني أبو بكر وعمر فقالا: ما وراك: يا أبا الحسن؟ فقلت: يزوجني رسول الله فاطمة، وأخبرني أن الله زوجنيها، وهذا رسول الله خارج في إثري ليذكر بحضرة الناس، ففرحا وسرا ودخلا معي المسجد، فو الله ما توسطناه حتى لحق بنا رسول الله وإن وجهه ليتهلل فرحاً وسروراً.
فقال صلى الله عليه وآله: أين بلال؟ فقال: لبيك وسعديك، فقال: وأين المقداد؟ فلباه، فقال: وأين سلمان؟ فلباه، فلما مثلوا بين يديه قال: انطلقوا بأجمعكم إلى جنبات المدينة واجمعوا المهاجرين والأنصار والمسلمين. فانطلقوا لأمره، فأقبل حتى جلس على أعلى درجة من منبره، فلما حشد المسجد بأهله قام صلى الله عليه وآله فحمد الله وأثنى عليه وقال:
الخطبة الثالثة في المسجد:
الحمد لله الذي رفع السماء فبناها، وبسط الأرض ودحاها، وأثبتها بالجبال فأرساها، وتجلل عن تحبير لغات الناطقين، وجعل الجنة ثواب المتقين، والنار عقاب الظالمين، وجعلني رحمة للمؤمنين، ونقمة على الكافرين. عباد الله! إنكم في دار أمل، بين حياة وأجل، وصحة وعلل، دار زوال متقلبة الحال، جعلت سبباً للارتحال، فرحم الله امرئ قصر من أمله، وجد في عمله، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوته، فقدمه ليوم فاقته، يوم تحشر فيه الأموات، وتخشع فيه الأصوات، وتنكر الأولاد والأمهات، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، يوم يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، يوم تبطل فيه الأنساب وتقطع الأسباب، ويشتد فيه على المجرمين الحساب، ويدفعون إلى العذاب، فمن زحزح عن النار وأدخل في الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
أيها الناس إنما الأنبياء حجج الله في أرضه، الناطقون بكتابه، العاملون بوحيه، وإن الله تعالى أمرني أن أزوج كريمتي فاطمة بأخي وابن عمي وأولى الناس بي علي بن أبي طالب، والله عز شأنه قد زوجه بها في السماء، وأشهد الملائكة، وأمرني أن أزوجه في الأرض، وأشهدكم على ذلك.
ثم جلس وقال: قم يا علي واخطب لنفسك، فقال علي: أ أخطب يا رسول الله وأنت حاضر؟ فقال: اخطب، فهكذا أمرني جبرئيل أن آمرك تخطب لنفسك، ولولا أن الخطيب في الجنان داود لكنت أنت يا علي. ثم قال: أيها الناس اسمعوا قول نبيكم: إن الله بعث أربعة آلاف نبي، ولكل نبي وصي، فأنا خير الأنبياء، ووصيي خير الأوصياء. ثم أمسك صلى الله عليه وآله وابتدأ علي عليه السلام فقال:
الخطبة الرابعة من علي (عليه السلام):
الحمد لله الذي ألهم بفواتح علمه الناطقين، وأنار بثواقب عظمته قلوب المتقين، وأوضح بدلائل أحكامه طرق السالكين، وأبهج بابن عمي المصطفى العالمين، حتى علت دعوته دعوة الملحدين، واستظهرت كلمته على بواطن المبطلين، وجعله خاتم النبيين وسيد المرسلين، فبلغ رسالة ربه، وصدع بأمره، وأنار من الله آياته، فالحمد لله الذي خلق العباد بقدرته، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد، ورحم وكرم وشرف وعظم، والحمد لله على نعمائه وأياديه. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة إخلاص ترضيه، وأصلي على نبيه محمد صلاة تزلفه وتحظيه. وبعد، فإن النكاح مما أمر الله تعالى به، وأذن فيه، ومجلسنا هذا مما قضاه الله تعالى ورضيه، وهذا محمد بن عبد الله رسول الله، زوجني ابنته فاطمة على صداق أربعمائة درهم ودينار، وقد رضيت بذلك، فاسألوه واشهدوا. فقال المسلمون: زوجته يا رسول الله؟ قال: نعم، قال المسلمون: بارك الله لهما وعليهما وجمع شملهما(30).

الخطبة الخامسة:
عن أنس قال: بينا أنا قاعد عند النبي صلى الله عليه وآله إذ غشيه الوحي، فلما سري عنه قال: يا أنس تدري ما جاءني به جبرائيل من صاحب العرش؟ قلت: الله ورسوله أعلم، بأبي وأمي ما جاء به جبرائيل؟ قال: إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة علياً، انطلق فادع لي المهاجرين والأنصار، قال: فدعوتهم، فلما أخذوا مقاعدهم قال النبي صلى الله عليه وآله: الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرغوب إليه فيما عنده، المرهوب عذابه، النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد، ثم إن الله تعالى جعل المصاهرة نسباً وصهراً، فأمر الله يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، فلكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)(31).
ثم إن الله أمرني أن أزوج فاطمة بعلي، فأشهدكم أني قد زوجته على أربعمائة مثقال من فضة إن رضي بذلك علي.
وكان علي غائباً قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله في حاجته، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر بطبق فيه بسر فوضع بين أيدينا، ثم قال: انتبهوا، فبينا نحن ننتبه إذ أقبل علي عليه السلام، فتبسم إليه النبي صلى الله عليه وآله ثم قال: يا علي إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة، فقد زوجتكها على أربعمائة مثقال فضة، إن رضيت، فقال علي عليه السلام: قد رضيت يا رسول الله. ثم إن علياً مال فخر ساجداً شكراً لله تعالى، وقال: الحمد لله الذي حببني إلى خير البرية محمد رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بارك الله عليكما، وبارك فيكما، وأسعدكما، وأخرج منكما الكثير الطيب. قال أنس: فو الله لقد أخرج منهما الكثير الطيب. قلت: هذا حديث حسن عال(32).
_________________________________________
26 - شرح النهج: ج9، ص193.
27 - الجنة العاصمة: ص104.
28 - ذخائر العقبى: ص31 ـ32.
29 - فاطمة الزهراء عليها السلام: ص44.
30 - دلائل الإمامة: للطبري، ص16 ـ17.
31 - سورة الرعد، الآية 39.
32 - كفاية الطالب: الباب 78، ص298 ـ299.