أمالي الإمام الصادق عليه السلام

أملى الإمام الصادق ( عليه السلام ) على أحد أصحابه ، وهو المفضل بن عمر ، حيث قال ( عليه السلام ) : ( يَا مُفضل ، أوَّلُ العِبَرِ والدَّلالةِ عَلى الباري جَلَّ قُدسُه تهيئةُ هذا العالم ، وتأليفُ أجْزائِهِ ونظمُهَا على ما هي عليه . فإنَّك إذا تأمَّلت العالَم بِفِكرِكَ وخبرته بِعَقْلِك ، وجدتَهُ كالبيت المبني ، المُعَدُّ فيه جميع مَا يَحتاجُ إليهِ عِبادُه .
فالسَّمَاء مَرفوعَةٌ كالسَّقفِ ، والأرضُ مَمْدودَةٌ كالبِسَاط ، والنُّجُوم مُضيئَة كالمَصَابِيح ، والجواهر مَخزونَة كالذخائِر ، وكُل شَيءٍ فيهِ لشأنِهِ مُعَدٌّ . والإنْسَانُ كالمَالِك ذَلكَ البَيت ، والمخوّل جَميع مَا فِيه ، وضُروب النَّباتِ مُهيَّأة لِمَآرِبِهِ ، وصنوف الحيوان مَصرُوفَة في مَصَالِحِه ومَنَافِعِه . ففي هَذا دَلالَة واضِحَة عَلى أنَّ العَالِمَ مَخلوقٌ بتَقديرٍ ، وحِكْمَة ، ونظام ، ومُلاءَمَة ، وأنَّ الخَالِق لَهُ واحِدٌ ، وهو الذي ألَّفَهُ ونظَّمَهُ بَعضاً إلى بَعضٍ . جَلَّ قُدْسُهُ وتعالى جده وَكَرَم وجْهِهِ ، ولا إلَهَ غَيرَه تَعَالى عَمَّا يَقولُ الجَاحِدونَ ، وجَلَّ وعَظُمَ عَمَّا ينتَحِلُهُ المُلحِدُونَ .
نَبْدأ يَا مُفضل بِذِكْرِ خَلْقِ الإنْسَانِ فاعتَبِرْ بِه ، فأوَّل ذَلِكَ مَا يُدبّرُ بِهِ الجَنين في الرَّحِمِ ، وهو مَحْجوبٌ في ظُلُمَاتٍ ثَلاث : ظُلْمَةُ البَطْنِ ، وظُلْمَةُ الرَّحِمِ ، وظُلْمَةِ المَشِيمَةِ ، حَيثُ لا حِيلَةَ عِندَهُ في طَلَبِ غِذاءٍ ، وَلا دَفْعِ أذىً ، ولا استِجْلابِ مَنْفعَةٍ ، ولا دَفعِ مَضَرَّةٍ ، فإنَّه يَجري إليهِ مِن دَمِ الحَيضِ مَا يغذوه المَاءُ والنَّبَاتُ ، فَلا يزالُ ذَلِكَ غِذاؤُه .
حتَّى إذا كَملَ خَلقُهُ ، واسْتَحْكَمَ بَدَنُهُ ، وقَويَ أدِيمُهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الهَوَاءِ ، وبَصَرُهُ على مُلاقَاةِ الضِّيَاءِ ، هَاجَ الطَّلقُ بأمِّهِ ، فأزْعَجَهُ أشَدَّ إِزْعَاجٍ وأعْنَفَهُ ، حَتَّى يُولَدَ . فَإذا وُلِدَ صُرِفَ ذَلِك الدَّمِ الَّذي كَانَ يَغذُوهُ مِن دَمِ أمِّه إلى ثَدْيِهَا ، وانقَلَبَ الطَّعمُ واللَّونُ إلى ضَرْبٍ آخَرٍ مِنَ الغِذَاءِ ، وهوَ أشَدُّ مُوافَقَةً لِلمَولُودِ مِن الدَّمِ ، فَيُوَافِيهِ في وَقتِ حَاجَتِهِ إِلَيه . فَحينَ يُولَدُ قد تَلَمَّظَ ، وحَرَّكَ شَفَتَيهِ طَلَباً للرِّضَاعِ ، فَهو يَجِدُ ثَدي أمِّهِ كالأداوَتَينِ المُعلَّقَتَينِ لِحَاجَتِه ، فَلا يَزَالُ يَتَغذَّى باللَّبَنِ ، مَا دَام رَطِبُ البَدَنِ رَقِيقُ الأمْعَاءِ ، لَيِّنُ الأعْضَاءِ .
حتَّى إِذَا تَحرَّكَ واحتاجَ إلى غِذاءٍ فِيهِ صَلابَة لِيشتَدَّ ويقْوَى بَدَنُه ، طَلَعَتْ لَهُ الطَّوَاحِنُ مِن الأسْنَانِ والأضْرَاسِ ، لِيَمضغَ بها الطَّعَام ، فَيَلينَ عَلَيه ، ويسهل لَهُ إِسَاغَتَهُ . فَلا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتى يُدركَ ، فإِذا أدْرَكَ وَكانَ ذَكَراً طَلَع الشَّعرُ فِي وَجْهِهِ ، فَكَان ذَلكَ علامَةَ الذَّكَر ، وعِزَّ الرَّجلِ ، الَّذي يَخرُجُ بِهِ مِن جدَّةِ الصِّبَا ، وَشبهِ النِّسَاءِ ، وإنْ كَانَتْ أُنثىً يَبْقَى وَجْهُهَا نَقيّاً مِنَ الشَّعْرِ ، لِتَبقَى لَهَا البَهْجَة والنَّضَارَة الَّتي تُحَرِّك الرَّجُلُ لِمَا فِيهِ دَوام النَّسْلِ وَبَقاؤهُ .
اِعتَبِرْ يَا مُفضَّل فِيما يُدبرُ بِهِ الإِنسان فِي هَذِهِ الأحوالِ المُختَلِفَةِ ، هَلْ تَرى مثلهُ يُمكِنُ أنْ يَكونَ بالإهْمَالِ ؟ أفَرَأيْتَ لَو لَمْ يَجْرِ إِليهِ ذلكَ الدَّم وَهوَ في الرَّحِمِ ألَمْ يَكُنْ سَيَذْوِي وَيَجفُّ كَمَا يَجفُّ النَّباتُ إذَا فَقَدَ المَاءُ ، وَلو لَمْ يُزعِجْه المَخَاضُ عِندَ استِحْكَامِهِ ألَمْ يَكُنْ سَيَبقَى في الرَّحِمِ كالمَؤودِ فِي الأرْضِ ؟
وَلو لَمْ يُوافِقْهُ اللَّبَنُ مَع ولادَتِهِ ألَمْ يَكُنْ سَيمُوتُ جُوعاً ، أوْ يَغْتَذِي بِغداءٍ لا يُلائِمُهُ ، وَلا يَصْلُحُ عَلَيهِ بَدَنُهُ ؟ وَلو لَم تَطْلَعْ لَهُ الأسنَانُ فِي وَقْتِهَا ألم يَكُنْ سَيَمْتَنِعُ عَليهِ مَضْغَ الطَّعَامِ وَإِسَاغَتِهِ ، أوْ يُقيمُهُ عَلَى الرِّضَاعِ فَلا يَشتَدُّ بَدَنُه ، وَلا يَصْلُحُ لِعَمَلٍ ؟ ، ثُمَّ كَانَ يشغلُ أمَّهُ بِنَفسِهِ عَنْ تَربِيَةِ غَيرِهِ مِنَ الأوْلادِ ) .