شذرات نورانيّة (54)

الرزق ـ تتمّة

• بعد أن عرَفْنا أنّ الرزق مضمون من قِبل الله تبارك وتعالى، اقتضى هذا الأمر علينا أن نعلم أنّه مضمونٌ لمن يطلبه ويسعى في الحصول عليه، وأن تستقرّ النفوس إلى ذلك، فلا ترك مع هذا عن الفرائض، ولا إطلاق للحرص في ذلك:
• رُوي أنّ عبيدة قال للإمام الصادق عليه السلام: أُدْعُ اللهَ لي أن لا يجعلَ رزقي على أيدي العباد، فقال له الإمام: « أبى اللهُ عليك ذلك إلاّ أن يجعل أرزاق العبادِ بعضِهم من بعض، ولكنِ آدْعُ اللهَ أن يجعل رزقك على أيدي خيار خَلقه، فإنّه من السعادة » ( بحار الأنوار 244:78 / ح 50 ـ عن: تحف العقول ).
• ولكي ينصرف المرء بقلبه إلى الله تعالى في أداء وظائفه، أكّدت الروايات الشريفة على أنّ الأرزاق مضمونة ومقدَّرة مع العمل والسعي وبذل الجهد المعقول، فِمّما جاء في ذلك:
ـ قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: « لا تَتَشاغَلْ عمّا فُرِض عليك بما قد ضَمِن لك، فإنّه ليس بفائتك ما قد قُسم لك، ولستَ بلا حقٍ ما قد زُوي عنك » ( بحار الأنوار 189:77 ـ 190 / ح 37 ).
ـ وقول أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى خُطبه: « قد تكفّل لكم بالرزق وأُمِرتُم بالعمل، فلا يكوننّ المضمونُ لكم طلَبُه أَولى بكم مِن المفروض عليكم عملُه » ( نهج البلاغة: الخطبة 114 ).
ـ وقول النبيّ صلّى الله عليه وآله: « إنّ الرزق لا يَجرُّه حِرصُ حريص، ولا يصرفه كراهيةُ كاره » ( بحار الأنوار 68:77 / ح 7 ـ عن: المحاسن:16 ـ 17 ).
ـ ومن كتاب لأمير المؤمنين عليه السلام إلى ابن عبّاس، جاء فيه: « أمّا بعد، فإنّك لستَ بسابقٍ أجَلَك، ولا مرزوقٍ ما ليس لك » ( نهج البلاغة: الكتاب 72 ).
• بعد هذا، إذن لماذا الاحتيال ومدُّ الأيدي إلى الحرام، وإرهاق القلوب في الطلب، ونسيان الآخرة أو تناسيها، وإهلاك النفس على الدنيا ؟!
ـ روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: « إن كان الرزق مقسوماً، فالحرص لماذا ؟! » ( بحار الأنوار 190:78 / ح 1 ـ عن أمالي الصدوق ـ المجلس الثاني ).
ـ كذلك رُوي من الأدب عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه أنشد هذه الأبيات الوعظية الحِكميّة:
دَعِ الحرصَ على الدنيا
وفي العيشِ فلا تَطمَعْ
فإنّ الرزقَ مقسومٌ
وكدُّ المرء لا ينفعْ
أي الكدّ الحريص في غير محلّه، ثم قال:
فقيرٌ كلُّ مَن يطمعْ
غنيٌّ كلُّ مَن يَقنعْ
ـ وروي عن الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام قوله مُنشِداً:
فإن تكنِ الدنيا تُعَدّ نفيسةً
فدارُ ثوابِ الله أعلى وأنبلُ
وإن تكنِ الأرزاقُ قِسماً مُقدَّراً
فقلّةُ حِرص المرء في الرزق أجملُ
ـ وهنا يأتي الضمانُ النبويّ مقروناً بالنصيحة الموقظة، حيث جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قوله: « ألا وإنّ الروح الأمين نفث في رُوعي أنّه لن تموت نفسٌ حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا اللهَ وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملْ أحدَكم استبطاءُ شيءٍ من الرزق أن يطلبه بغير حِلّه، فإنّه لا يُدرَك ما عند الله إلاّ بطاعته » ( بحار الأنوار 96:70 / ح 3 ـ عن: الكافي 74:2 ).
• إذن.. ما الميزان في طلب الرزق ؟ يجيبنا أميرالمؤمنين عليه السلام قائلاً:
ـ « لا تجاهد الطلبَ جهادَ الغالب، ولا تتّكلْ على القدر اتّكالَ المستسلم، فإنّ ابتغاء الفضل من السُّنّة، والإجمال في الطلب من العفّة، وليس العفّة بدافعةٍ رزقاً، ولا الحرص بجالبٍ فضلاً، فإنّ الرزق مقسوم، واستعمال الحرص استعمال المآثم » ( بحار الأنوار 106:78 / ح 4 ـ عن: تحف العقول ).
• وهنالك حقيقة يتعرّف عليها الناس وإن لم يصرّحوا بها، وربّما خالطوا فيها، بيّنها أميرالمؤمنين عليه السلام بقوله: « الرزق رزقان: رزقٌ تطلبه، ورزقٌ يطلبك، فإن لم تأتِه أتاك، فلا تحملْ همّ سَنَتِك على همّ يومك. كفاك كلُّ يومٍ على ما فيه، فإن تكنِ السنة من عمرك فإنّ الله تعالى سيُؤتيك في كلّ غدٍ جديدٍ ما قَسَم لك، وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهمّ فيما ليس لك ؟! ولن يَسبقك إلى رزقك طالب، ولن يغلبك عليه غالب، ولن يُبطئ عنك ما قد قُدِّر لك » ( نهج البلاغة: الحكمة 279 ).
ـ كذلك قال عليه السلام ما ينبّه الغافل: « الرزق رزقان: طالبٌ ومطلوب، فمَن طَلَب الدنيا طلَبَه الموتُ حتّى يُخرجه عنها، ومَن طلب الآخرة طلبَتْه الدنيا حتّى تستوفيَ رزقَه منها » ( نهج البلاغة: الحكمة 431 ).
• بعد هذا كلّه دُعيَ الناس ألاّ يحملوا همّاً كبيراً للرزق، يبلغ بهم إلى سوء الظنّ بالله تعالى.. برحمته وقدرته على أن يرزق عباده!
ـ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لابن مسعود: « لا تَهْتمّنّ للرزق، فإنّ الله تعالى يقول: « وما مِن دابّةٍ إلاّ على الله رزقُها » [ هود:6 ]، وقال: « وفي السماءِ رزقُكم وما تُوعَدون » [ الذاريات:22 ]، وقال: « وإن يَمْسَسْك اللهُ بِضُرٍّ فلا كاشفَ له إلاّ هو، وإن يَمْسَسْك بخيرٍ فهو على كلِّ قدير » [ الأنعام:17 ] » ( بحار الأنوار 108:77 / ح 1 ـ عن: مكارم الأخلاق ).
ـ وقال الإمام الرضا عليهالسلام: « كان في الكنز الذي قال الله عزّوجلّ: « وكانَ تحتَه كنزٌ لهما » [ الكهف:82 ]... ينبغي لمن عقل عن الله أن لا يتّهمَ اللهَ في قضائه، ولا يستبطئَه في رزقه » ( بحار الأنوار 156:70 / ح 14 ـ عن: الكافي 59:2 ).
• ولكن ما العمل إذا تأخّر الرزق ؟ وما السبب ؟
ـ قال الإمام الصادق عليه السلام: « إذا استبطأتَ الرزقَ فأكثِرْ مِن الاستغفار، فإنّ الله عزّوجلّ قال في كتابه: « استَغفِروا ربَّكُم إنّه كان غفّاراً * يُرسِل السماءَ عليكُم مِدْراراً * ويُمْدِدْكُم بأموالٍ وبنين » يعني في الدنيا، « ويَجعَلْ لكُم جَنّاتٍ » يعني في الآخرة » (بحار الأنوار 201:78 / ح 29 ـ عن: كشف الغمّة 368:2. والآيات في سورة نوح:10 ـ 12).
• وعلى أيّة حال، فإنّ المؤمن واثقٌ بالله تبارك وتعالى، ويُحسن الظنّ به، ويرجوه ويدعوه، ويتوسّل إليه بأحبّ الخلق إليه، أن يفيض عليه أرزاقه الماديّة والمعنوية، ليواصل العيش في طاعته وعبادته، والإنفاق على عيال وعبيده.. وهو إلى ذلك راضٍ قانعٌ بكلّ ما يصل إليه من الرزق، وتلك من العبادات القلبيّة التي يحبّها الله تعالى، ويبادله عليها ما يحبّ عبدُه:
ـ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «مَن رضيَ بما رزقه اللهُ قَرَّت عينه» (بحار الأنوار 124:77 / ح 22 ـ عن: أمالي الصدوق).
ـ وقال الإمام الرضا عليه السلام: « مَن رضيَ عن الله تعالى بالقليل من الرزق، رضيَ الله منه بالقليل من العمل » ( بحار الأنوار 356:78 / ح 12 ـ عن: إعلام الدين ).
ـ وممّأ أوحى الله تعالى إلى عُزَير: إذا أُتِيتَ رزقاً منّي فلا تنظر إلى قلّته، ولكنِ انظرْ إلى مَن أهداه » ( بحار الأنوار 452:78 / ح 20 ـ عن: دعوات الراوندي ).