النصوص والمؤلّفات الأخلاقية لدى الإماميّة؛ لمحة تاريخية

 

يتّخذ منهج أتباع أهل البيت عليهم السّلام ـ في الدراسة التطبيقية لمختلف المناهج في ميدان الأخلاق الإسلاميّة ـ موقعاً خاصاً، نظراً لِما يمتاز به هذا المنهج من خصائص متفرّدة.
ولا ريب أن كلّ واحد من الأئمّة الاثني عشر عليهم السّلام قد عُرف في عصره بوصفه أستاذاً بارزاً في الأخلاق.. فكانت أقوالهم وأفعالهم المربّية قد تخطّت تأثيراتها البيئةَ الإمامية الخاصة إلى البيئات المسلمة عامة بوصفها تعليمات أخلاقية هادية تصوغ الإنسان صياغة إنسانية متألّهة صادقة.
ومن النصوص الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ما ذاع صيته وانتشر انتشاراً واسعاً في مختلف البيئات، من مثل خُطَب ورسائل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وعدّة من النصوص المنقولة عن الإمام زين العابدين عليه السّلام مثل مواعظ الإمام التي رواها سعيد بن المسيَّب، و « رسالة الحقوق » التي رواها أبو حمزة الثُّمالي.
ولابدّ من الاشارة هنا إلى أن مختارات من خطب الإمام عليّ عليه السّلام ورسائله وحِكَمه التي جمعها الشريف الرضي ( ت 406 هـ ) تحت عنوان « نهج البلاغة » قد امتازت باهتمام خاص مِن قِبل الإماميّة، باعتبارها مرجعاً راقياً في التعليم الأخلاقي، وكُتبت حولها شروح كثيرة على امتداد القرون.
وقد امتازت تعاليم الإمام محمد الباقر عليه السّلام بالتوسّع والتأكيد على التعاطي التفصيلي فيما يتّصل بمكارم الأخلاق وبمساوئها. وقد برز في هذه التعليمات التوجيهية ـ بشكلٍ لافت ـ آفاق من الأخلاق الاجتماعية كالتركيز على الاهتمام بشؤون المؤمنين، وأسلوب تنظيم العلاقة بينهم، وحتّى أدب التحدّث.. ممّا ينحو منحى بسط التعاليم المتعلّقة بـ « الحقوق » ( لاحظ مثلاً: أصول الكافي للكليني 180:2 ـ 181. حلية الأولياء لأبي نعيم 184:3 ـ 187 ).
أمّا أثر الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في عرض التعاليم الأخلاقية الإمامية فهو بيّن فيما وصل إلينا من مؤلّفات الإماميّة، إذ اشتملت جميع أبوابها الأخلاقية على أحاديث منقولة عن هذا الإمام العظيم. يُضاف إلى هذه الأحاديث الكثيرة المتناثرة عدد من النصوص التي نسبها رواة الإمامية إليه عليه السّلام، مِن مثل وصيّته لأصحابه ( أصول الكافي 2:8 ـ 14 ) ورسالته لعبد الله النجاشي ( رجال النجاشي 101 ، 213. الأربعون لابن زهرة 46 ـ 55 ).
وفي التحليل العام يتجلّى ـ لدى المقارنة بالاتجاهات الأخلاقية المعروفة الأخرى ـ أنّ منهج التعليم الأخلاقي للإمام الصادق عليه السّلام وأصحابه يصدر من الرؤية التوحيدية النقيّة والمعرفة الحياتيّة العميقة التي تبشّر بالتوازن والاعتدال في العبادة، والتعاطي السليم مع النعم الإلهيّة التي أسبغها على الإنسان، والمحافظة على حدود الله تعالى وصَون حقوق الناس، ومخالفة تحريم ما حلّل الله.
ومن هنا.. حَظِيَت التعليمات الأخلاقية والتزكية الذاتية بموقع مهم في الأحاديث المرويّة عن الأئمّة عليهم السّلام، وهذه الأحاديث ممّا روته المصادر الإماميّة، ونقلته ـ إلى حدٍّ ما ـ مؤلفات سائر المؤلفين المسلمين. وقد أوردت بعض المصادر ـ مثل تحف العقول للحسن بن شعبة الحرّاني ( ق 4 هـ )، ونزهة الناظر للحسين الحلواني ( ق 5 هـ ) ـ احاديث كلّ إمام من الأئمّة عليهم السّلام على حدة، وهي تؤكّد بشكل خاص على الجنبة الأخلاقية.

* * *

لدى استقراء المؤلفات الشيعية في ميدان الأخلاق، ينبغي الإشارة إلى أنّ معلوماتنا عن البدايات الأولى لتدوين النصوص الأخلاقية الشيعية غير وفيرة. وهذه المعلومات، على قلّتها، تدلّ على أن الإماميّة ـ وخاصة مدرسة الكوفة ـ كانوا من السبّاقين في تدوين الآثار الأخلاقية في العالم الإسلاميّ. وقد حمل عدد من أوائل المؤلفات الأخلاقية عنوان « كتاب الزهد »، وتتضمن الفهارس العديدَ منها، ذُكر من بينها كتاب لأبي حمزة الثمالي ( ت 150 هـ )، ويحيى بن عليم الكلبي ( منتصف القرن الثاني الهجري )، وكتاب اللؤلؤ في الزهد من تأليف يونس بن عبدالرحمن ( رأس المئة الثانية الهجرية ).
وفي القرن الثالث استمرّ نهج كتب الزهد، ومن نماذجه الباقية: كتاب الزهد للحسين بن سعيد الأهوازي ( أوائل القرن الثالث الهجري )، وهو يضمّ ـ إضافةً إلى ما يتبادر من معنى الزهد ـ مباحث مِن قبيل: فضيلة حُسن الخُلق، والمعروف والمنكر، والإحسان إلى الوالدين وذوي القُربى، وحقّ الجار، والأمر بالمعروف. وفي هذا القرن عمد مؤلفو الأخلاق الإماميون ـ وفي ضمن حركة معارضة لتطرف المتصوّفة ـ إلى تأليف كتب مثل: التجمّل، والمروءة، والتجمّل والمروءة، وإلى جمع أحاديث الأئمّة عليهم السّلام في هذا الباب.
ونموذجاً من النماذج الخاصة في هذه المرحلة، ينبغي أن نشير إلى الأقسام الأخلاقيّة من مجموعة «المحاسن» للبرقي ( ت 274 أو 280 هـ )، ومن هذه الأقسام: كتاب آداب النفس، وكتاب التهذيب. وهذا النموذج الذي ذكرناه يسبق زمنياً مؤلفاتٍ مثل « آداب النفوس » لمحمد بن جرير الطبري ( ت 310 هـ ) و « تهذيب الطبع » للديمرتي.
وقد ظلّ التأليف الأخلاقي في القرن الرابع على النهج المتقدم، نشير منها إلى الأقسام الأخلاقية من كتاب الكافي للكليني.
حتّى إذا كان القرن الخامس الهجري طرأ تحوّل في طرائق تأليف الآثار الأخلاقيّة، نظراً للتحوّلات الأسياسية التي شهدتها البيئات الفقهية والكلامية الإماميّة. ومع أنّ مدوّنات القرن الخامس محدودة العدد.. إلاّ أنّ تأليفها يُلاحَظ فيه خصائص وأساليب جديدة. نجد مثلاً أنّ أبا الفتح الكراجكي في كتابه « كنز الفوائد » الذي يَصعُب تحديد موضوعه.. قد عالج موضوعاتٍ أخلاقية معالجةً ضافية، وفي كتابه الآخر « معدن الجوهر » عُني الكراجكي بالترتيب العددي، كما كان صنع ابن بابويه؛ الشيخ الصدوق في كتابه « الخصال ». وما يمكن أن يُعدّ من مزايا آثار الكراجكي اللافتة للنظر: إيراده كلمات حكماء العرب، وحتّى حكماء الفرس والهنود واليونانيين إلى جانب أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السّلام.
ويُعَدّ كتاب « مكارم الأخلاق » للحسن بن الفضل الطبرسي ( النصف الثاني من القرن السادس الهجري ) صورةً متكاملة لكتاب « الآداب الدينية » الذي ألّفه أبوه. وخلافاً لما يدلّ عليه العنوان.. فإنّ الموضوع الأساس لكتابه هو الآداب الدينية لا الأخلاق بالمعنى الخاص. أمّا كتاب « مشكاة الأنوار » الذي جمعه الحسن بن الفضل وأتمّه أبو الفضل علي الطبرسي فهو كتاب أخلاقي خالص يتضمن موضوعات عامّة، مثل: صفات المؤمن، ومحاسن الأفعال، ومكارم الأخلاق، وعيوب النفس، وسواها.
وفي القرن السابع الهجري، لدى ظهور الخواجة نصير الدين الطوسي ( ت 672 هـ ) وآثاره الأخلاقية مثل « أخلاق ناصري » بدأ تداول الأخلاق النظرية بين الإماميّة على نهج الفلاسفة. ومع أنه يقترب من الآثار الفلسفية السابقة مثل « تهذيب الأخلاق » لأبي علي مِسْكَوَيه.. إلاّ أنّه امتاز بخصائص متفرّدة. وقد غدا هذا الكتاب نموذجاً حَذَت حَذوَه آثار لاحقة، من قبيل « اخلاق جلالي » لجلال الدين الدَّواني، و «اخلاق محسني» للواعظ الكاشفي.
ومن مؤلفات الإماميّة الأخلاقية الأخرى بعد القرن السابع الهجري، التي انتهجت نهجاً مغايراً لنهج نصير الدين الطوسي.. يمكن ذكر كتب مثل « التحصين في صفات العارفين » لابن فهد الحلّي ( ت 841 هـ ) ومدوّنات الشهيد الثاني ( ت 965 هـ ) كـ « مسكّن الفؤاد » و « كشف الرِّيبة في أحكام الغِيبة » بوصفها كتباً على نهج الأخلافية للملاّ محسن الفيض الكاشاني ( ت 1091 هـ ) من مثل « المحجّة البيضاء » في تهذيب إحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب « معراج السعادة » للملاّ أحمد النراقي ( ت 1265 هـ ).
هذا، وقد شهد القرن الأخير مؤلفات عديدة في الأخلاق، ربّما تتّسع الفرصة للحديث عنها لاحقاً.