خُطوطٌ خضراء.. في الإمامة

معنى الإمامة

ـ بالمعنى العامّ تعني الانقياد لحجّة الله في الأرض، نبيّاً كان أو وصيّاً، فكلاهما يجسّدان حكم الله تعالى، فيجب اتّباعهما والانقياد لهما.
ـ وبالمعنى الخاص تعني انطباق الإمامة في أشخاصٍ معيّنين، فبعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله تعيّنت الإمامة في المطهّرين من أهل بيت الوحي والنبوة، في سلسلة الحجج الذين لم ينقطعوا بعد رحيل النبيّ صلّى الله عليه وآله، إذ الإمامة تعيّنت في الصفوة من أهل بيته صلوات الله عليه وعليهم.

 

الإمامة العامّة في القرآن الكريم

هذه الإمامة هي من ضرورات الدين الكبرى، ولا يختلف عليها مسلمان، فالجميع يعتقد أنّ الله تبارك وتعالى يحتجّ على عباده بأوليائه الذين اصطفاهم فجعلهم حُججاً على بريّته، وأوجب على الناس اتّباعهم والتسليم لهم، إذ هم سفراؤه وخلفاؤه في أرضه.
أمّا دليل هذه الإمامة في كتاب الله عزّوجلّ، فآياته عديدة وفيرة، منها قوله تعالى:
ـ « وما أرسَلْنا مِن رسُولٍ إلاّ لِيُطاعَ بإذنِ الله » [ سورة النساء:64 ]. وقوله تعالى حكايةً عن أقوال عدّة أنبياء قصّ خبرَهم في القرآن الكريم:
ـ « فاتّقُوا اللهَ وأَطِيعونِ » [ آل عمران:50، الشعراء:108، 110، 126، 131، 144، 150، 163، 179، سورة الزخرف:63 ]. وقال عزّ من قائل:
ـ « قُلْ إن كنتُم تُحبُّونَ اللهَ فآتَّبِعُوني يُحْبِبْكمُ اللهُ ويَغفِرْ لكُم ذُنوبَكُم، واللهُ غَفُورٌ رحيم * قُلْ أَطيعُوا اللهَ والرسُولَ، فإنْ تَوَلَّوا فإنّ اللهَ لا يُحبّ الكافرين » [ سورة آل عمران:31 ـ 32 ]. فالاتّباع هو مناط محبّة الله وسبب مغفرته جلّ وعلا.
وأمّا علامة الإيمان فالتسليم والاتّباع: « وقالوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفرانَكَ رَبَّنا وإليكَ المصير » [ سورة البقرة:285 ]، « إنَّما كانَ قولَ المؤمنين إذا دُعُوا إلَى اللهِ ورسُولهِ لِيَحكُمَ بينَهم أن يَقُولوا سَمِعْنا وأطَعْنا، وأُولئك همُ المفلحون » [ سورة النور:51 ]، « وما كان لِمؤمنٍ ولا مُؤمنةٍ إذا قَضَى اللهُ ورسُولُه أمراً أن يكونَ لَهمُ الخِيرَةُ مِن أمرِهِم، ومَن يَعْصِ اللهَ ورسُولَه فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً » [ الأحزاب:36 ]، « فَلا وربِّكَ لا يُؤمنونَ حتّى يُحكِّموكَ فيما شَجَرَ بَينَهم، ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنفُسِهِم حَرَجاً مِمّا قَضَيتَ ويُسلِّموا تسليماً » [ سورة النساء:65 ].
وإذا كان التسليم للإمامة سبباً حقّاً لتحقيق الإيمان وتحصيل المغفرة والفوز بمرضاة الله جلّ شأنه، فلابدّ أنّ التمرّد على هذه الإمامة يكون مُوجِباً للسقوط في العذاب الأخرويّ، وذلك إقرار الذين سيسقطون أنبأ عنهم وعن حالهم كتاب الله الحكيم، حيث جاء فيه قوله تبارك وتعالى: « يومَ تُقلَّبُ وُجُوهُهُم في النار يقولون يالَيتَنا أطَعنا اللهَ وأطَعْنا الرسولا * وقالُوا ربَّنا إنّا أطَعْنا سادتَنا وكُبَراءَنا فأضَلُّونَا السَّبيلا » [ الأحزاب:66 ـ 67 ].
الإمامة الخاصّة في القرآن الكريم
تلك الإمامة الشريفة التي عيّنها الله جلّ وعلا في حُججه المُصطفَينَ بعد رسوله وحبيبه المصطفى صلّى الله عليه وآله، وجعل لهم مقامَ وجوب طاعة العباد لهم، إذ هم يجسّدون حكم الله تعالى قولاً وفعلاً وتقريراً، حيث حباهم بالعصمة المطلقة العليا، فنهضوا بمسؤولية الهداية التي كان نهض بها رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وقد تكفّل القرآن الكريم بإثبات هذه الإمامة المقدّسة بآياتٍ كثيرة، رسم مِن خلالها ملامح الصورة الواضحة المشرقة، ليختار الناس حظَّهم وتوفيقهم قبالها، فمَن ركب سفينة هذه الإمامة نجا وفاز وسعد، ومَن تخلّف عنها هلك وخاب وأسِفَ ونَدِم! وكان من بيانات كتاب الله استمرار الإمامة والولاية في ذريّة خليل الرحمان إبراهيم عليه السلام حيث قال الله عزّوجلّ فيه:
ـ « وإذِ آبتلى إبراهيمَ ربُّهُ بِكلماتٍ فأتَمَّهُنَّ قالَ إنّي جاعِلُك للناسِ إماماً، قال ومِن ذُرّيّتي، قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظالمين » [ سورة البقرة:124 ]. قال الإمام عليّ بن موسى الرضا سلام الله عليه في حديثٍ نادرٍ جامعٍ في فضل الإمام وصفاته: « فأبطَلَت هذه الآيةُ إمامةَ كلِّ ظالمٍ إلى يوم القيامة، وصارت في الصَّفوة. ثمّ أكرمه الله تعالى بأن جعَلَها في ذرّيته أهلِ الصفوة
والطهارة، فقال: « وَوَهَبْنا لَهُ إسحاقَ ويَعقُوبَ نافلةً، وكُلاًّ جَعَلْنا صالحين * وجَعَلْناهُم أئمّةً يَهْدُونَ بأمرِنا، وأوحَينا إليهِم فِعلَ الخيراتِ وإقامَ الصلاةِ وإيتاءَ الزكاةِ وكانوا لنا عابدين » [ الأنبياء:72ـ 73 ]. فلم تَزَل في ذريّته يَرِثُها بعضٌ عن بعضٍ قَرْناً فَقَرناً حتّى ورّثها الله تعالى النبيَّ صلّى الله عليه وآله، فقال جَلّ وتعالى: « إنَّ أَولى الناسِ بِإبراهيمَ لَلَّذينَ آتَّبعُوهُ وهذا النبيُّ والذينَ آمنوا واللهُ وليُّ المؤمنين » [ آل عمران:68 ]، فكانت له خاصّةً، فقلّدها صلّى الله عليه وآله عليّاً عليه السلام بأمرِ اللهِ تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريّتهِ الأصفياء الذين آتاهُم اللهُ العلمَ والإيمان بقوله تعالى: « وقالَ الذينَ أُوتُوا العلمَ والإيمانَ لقد لَبِثتُم في كتابِ اللهِ إلى يومِ البعث » [ الروم:56 ]، فهيَ في وُلدِ عليّ عليه السلام خاصّةً إلى يوم القيامة؛ إذ لا نبيَّ بعد محمّد صلّى الله عليه وآله... إنّ الإمامة هي منزلةُ الأنبياء، وإرثُ الأوصياء، إنّ الإمامة خلافةُ الله وخلافة الرسول صلّى الله عليه وآله، ومقامُ أمير المؤمنين عليه السلام، وميراث الحسن والحسين عليهما السلام... » ( الكافي للكليني 154:1 ـ 155 / ح 1 ـ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ).
وقد عبّر القرآن الكريم عن الإمامة في ذريّة إبراهيم الخليل عليه السلام بالاصطفاء، فقال عزّ شأنه: « إنَّ اللهَ آصْطَفى آدمَ ونُوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمران عَلَى العالَمين * ذُرِّيَّةً بعضُها مِن بعضٍ واللهُ سميعٌ عليم » [ سورة آل عمران:33 ـ 34 ]. ولم يكتفِ القرآن بالإخبار باستجابة دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في إبقاء الإسلام والإمامة في ذرّيتهما، بل أخذ يخاطب الذريّة المصطفاة بقوله: « وكذلكَ جَعَلْناكُم أُمّةً وَسَطاً لِتكُونُوا شُهداءَ عَلَى الناسِ ويكونَ الرسُولُ عليكُم شهيداً » [ سورة البقرة:143 ]، فمَن يا تُرى تلكُم الأمّةُ الوسط التي أعطاها الله تبارك وتعالى مقام الشهادة على أعمال العباد في الدنيا والآخرة ؟!
إنّها الأمّة التي جعلها الله تعالى بمثابة الصراط المستقيم الذي يهدي الله إليه من يشاء، فهي الأمّة المفلحة التي أصبح وجودها في الناس ضرورةً حقيقيّة للرشاد، وهي جماعةٌ لها مرتبةٌ خاصّة، مكلّفةٌ بتكاليفَ إلهيّةٍ خاصة، حيث وصفهم الله عزّوجلّ هكذا: « وَلْتكُنْ مِنكُم أُمّةٌ يَدْعونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ ويَنهَون عنِ المُنكَر وأُولئك هم المُفلحون » [ سورة آل عمران:104 ].
هذا ما يكون منهم: الهداية والإيمان يُشرِق فيهم إلى الناس، ولسانهم وحالهم ينطقان بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهُم أَولى بذلك، إذ هم أهل بيت النبيّ ومَن أذهب الله عنهم الرجسَ وطهّرهم تطهيراً.. وهم الذين وصفهم القرآن بأنهم أهل الفلاح، بل هم أهل الصلاح والإصلاح. أمّا ما ينبغي أن يكون بعد ذلك من الناس: فالتصديق والتقديس، والطاعة والتسليم، والأخذ عنهم لا عن غيرهم، والرحيل إليهم لا إلى سواهم.
إليهم.. وإلاّ لا تُشَّد الركائبُ
ومنهم.. وإلاّ لا تَصُحّ المواهبُ
وفيهم.. وإلاّ فالحديثُ مُزَخْرفٌ
وعنهم.. وإلاّ فالمحدِّثُ كاذبُ