أم عمارة

قصة

أم عمارة

يوسف الشيخ

 

ها هي قافلة المدينة تتحرك نحو مكة، فيها من الرجال الكثيرون، ومن النساء امرأتان هما أم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار الأنصارية وأختها.

الفرحة تظهر على وجوه أغلب القوم، وكيف لا يملأ جوانحهم السرور وتفعم قلوبهم البهجةُ وهم ماضون للقاء رسول الله  صلى الله عليه وآله  ومبايعته.

وفي هدأة الليل حيث توقفت القافلة لتستريح من وعثاء السفر جلست أم عمارة إلى جانب زوجها زيد بن عاصم ومعهما ابناهما عبد الله وكان في أول الشباب، وحبيب وكان صغير السن. فراح حبيب يسأل أمه:

أما آن لنا أن نصل يا أمّاه؟ وتجيبه بحنان: عمّا قريب سنصل يا بني وأرجو أن يحقّق الله مآربنا.

ـ إنها مسافة طويلة وشاقّة يا أمّاه.

ـ ولكن الجدّ يقطع المسافات الطوال أيها الحبيب الغالي.

ـ وهل نرى رسول الله حين نصل؟

ـ أرجو الله أن يحقّق لنا ذلك.

ـ إذن ما أهون التعب!

وبعد أن يستريح القوم يتأهّبون لمتابعة السير جادّين بكل ما أُوتوا من عزم وعزيمة إلى أن وصلوا مكة، وقد أضناهم التعب ولكن لم يستطع أن يحطّ من عزائمهم، فقد كان يحدوهم أملٌ قوي جامح بأن يروا محمداً  صلى الله عليه وآله  ويبايعوه.

وفي المساء وحيث نام بعض من لم يعرفوا سبب مجيء كثير من أهل المدينة، هبّ أولئك الذين أراد لهم الله أن ينعموا ببيعة رسول الله في العقبة وكان من أولئك المبايعين أم عمارة وأختها وزوجها وولداها.

ويبايع أهل العقبة رسول الله ويعودون مسرعين نحو المدينة ليفوّتوا الفرصة على مشركي مكة. أما أُولئك فما أن أخبرتهم عيونهم ببيعة العقبة حتى راح فرسانهم يفتّشون الأرجاء علّهم يعثرون على أحد المدنيين فيذيقونه ألوان العذاب صابّين حقدهم وضغائنهم عليه.

ويمسك بعض فرسانهم بسعد بن عبادة ويروح مزمجراً:

ـ لا بدّ من قتلك أيها الصابئ.

ويجيبه سعد بهدوء وتؤدة، ولكن هل لك أن تخبر جبير بن مطعم والحارث بن عوف بن أمية بالأمر؟

ـ وما شأنك بهما؟

ـ لقد كنت أجير لهما في المدينة.

ويمضي الفارس مسرعاً ومعه سعد وهو لا يمسك عن الزمجرة والسباب حتى يصل إلى نديّ قريش، ويرى المشركون سعداً فتفتر ثغورهم عن ابتسامات صفراء مليئة حقداً. ويتمنى كل واحد منهم أن يفتك بسعد، غير أن جبير بن مطعم يفاجئهم: مهلاً يا قوم فقد كان سعد يجير لي في المدينة وهو الآن بجواري.

ويحاول أبو جهل مقاطعة جبير: ولكن...

فيقول جبير بلهجة حازمة: إنه بجواري.

ويصمت الكل على مضض.

* * *

وتمضي فترة من الزمن يصل بعدها رسول الله إلى المدينة مهاجراً، فتمتلئ بيوت المدينة فرحاً بلقاء سيد المرسلين، ويشعر رجال المدينة ونساؤها، وشيبُها وشبّانها وأطفالها بالطمأنينة والراحة، أما أم عمارة فما كانت تلقى امرأة حتى تقول: لقد بدأت المعركة.. لقد آن لنا أن نضحِّي.. وتسألها جارةٌ لها: وبِمَ نُضحِّي يا أم عمارة؟

فتقول: لا بد من تضحيات كثيرة وكثيرة جداً، فلا بدّ أن قريشاً ستحاول بكل ما لديها من قوة ومن رباط خيل أن تؤلّب علينا القبائل العربية وتهاجم المدينة لتنال من رسول الله  صلى الله عليه وآله  ومن أنصاره.

وتقول المرأة: لن يستطيعوا، فأبناؤنا على أتم الاستعداد.

وتجيبها أم عمارة: نحن كلّنا بالمرصاد لكل مؤامرة تُحاك، وسيرى المشركون كيف يكون دفاعنا عن رسول الله، وأي منقلب سينقلبون.

وتقول المرأة: تتحدّثين يا أم عمارة وكأنّك ستخوضين المعركة إلى جانب الرجال..

ـ ولِمَ لا.. سأخوضها إن شاء الله معارك حامية، وليس لي أمنية إلاّ أن أنال الشهادة في سبيل الله وسط الميدان.

* * *

أخذ أهل المدينة يعدّون العدّة لكل طارئ، للذود عن رسول الله  صلى الله عليه وآله  وللدفاع عن حمى الإسلام، وكلهم حماس وقوة، وبدأ كلٌّ يشحذ سلاحه ويُجهّز دوابّه ليوم المعركة، وبدأت أم عمارة وزوجها زيد بتحضير ما يلزم للمعركة التي كانوا يرون أنها واقعة لا محالة.

وبدأت المعركة فعلاً حين حاول المسلمون اعتراض قافلة قريش، فتنكّب أبو سفيان الطريق واستطاع أن يرسل إلى قريش بالنبأ، ويطلب منها العدد والعُدّة.

وتحركت قريش بصناديدها ورجالها وكل منهم يريد أن يفتك بمحمد وبالإسلام.

والتقت الجيوش في بدر واحتدمت المعركة وعلا سعيرها واشتدّ أوارها وكان من الأبطال المناضلين في سبيل الله عبد الله بن زيد.

وانتهت المعركة ليعود عبد الله مسرعاً إلى داره فتلتقيه أمه مزغردة وقد وصلت الأنباء بالانتصار الكبير، وبمقتل صناديد قريش.

تلتقي أم عمارة ولدها: أهلاً ببطل آل زيد بن عاصم. فيفتر ثغر عبدالله عن ابتسامة فيها كل معاني الانتصار، وسيفه ما يزال في يده ويقول: أنا واحد من أبطال المدينة يا أمّاه.. لست بالفذّ الأوحد، فكل من كان من المسلمين في المعركة كان مَثَلاً في البطولة والتضحية.

وتقول أم عمارة: وكيف لا يكونون كذلك وهم تلامذة مدرسة محمد  صلى الله عليه وآله .

ـ لو رأيت يا أمّاه المهاجرين والأنصار وهم ينقضّون على أعداء الإسلام كأنهم النسور.. لقد أشبعناهم ضرباً وطعناً.

ـ وهل قُتل اللعين أبو جهل فعلاً؟

ـ ليس أبو جهل فحسب يا أمّاه، فقد قتل معظم رجالات الشرك في قريش.

ـ الحمد لله، ولكن لا بدّ من أن نهيئ النفوس لمعركة جديدة قد تكون أقسى وأشدّ، فسيحاول المشركون الأخذ بالثأر ولا بدّ. وهنا يتدخّل حبيب ـ وهو بعدُ صغير ـ: سنكون لهم بالمرصاد يا أمّاه.

ويبتسم عبد الله قائلاً: ستكون بطلاً صنديداً يا حبيب فأنت ابن أمّك وأبيك.

توفي زيد بن عاصم، واحتسبته زوجه أم عمارة عند الله، وأحسّت منذ يومئذ بعبءٍ ثقيل وهو إعداد ولدّيها ليكونا بطلين في سبيل الدين الحنيف. فراحت تحثّهما على الجهاد وتشدّ من عزيمتهما، وتقوي سواعدهما..

لم يكن حبيب أقلّ حماساً من أخيه البطل عبد الله، فها هُوَ ذا في ساحة الدار يشحذ السيوف ويجلوها، وتقول أم عمارة:

ـ ليكن سلاحكما كما ارتضاه اللهُ ورسوله.

فيجيبها حبيب: لقد شحذت سيف عبد الله وكم أتمنى لو أحمل السيف في وجه أعداء الله.

فتقول أمه: ما هي إلاّ أيام وتكون بطلاً من أبطال الإسلام إن شاء الله.

ويتناول حبيب سيف أبيه قائلاً: إنه سيف أبي يا أمّاه.. لا بدّ أن أقاتل به..

فتقول أم عمارة: اشحذه يا حبيبي وسيقاتل به غيرك هذه المرة! ويبتسم عبد الله: إذن ستقاتلين إلى جانب أبطال المسلمين إن شاء الله يا أمّاه؟!

ـ أرجو ذلك بإذن الله.

ـ لكنّا سنكفيك القتال إن شاء الله، وبارك الله بأبطال الإسلام فهم قادرون على إعادة الكرة والانتصار مرة ثانية كما انتصروا ببدر.

ـ ولكن لا بدّ من التأهّب لكل أمر والحذر من الغدر.

* * *

وتصل الأنباء إلى المدينة باستعداد المشركين للهجوم على المدينة بجيوش جرّارة للأخذ بالثأر. فيأمر الرسول الكريم  صلى الله عليه وآله  المسلمين بالاستعداد.

واستعدّ المسلمون وخرجوا إلى جبل أُحد كما أمر الرسول الأعظم  صلى الله عليه وآله  وأخذ الرماة مواقعهم على الجبل، وأمرهم الرسول ألاّ يتزحزحوا عن أماكنهم مهما كانت الأسباب.

واصطفّت الجيوش وكلا الفريقين يتمنّى بداية المعركة، ونساء المسلمين متأهِّبات في خيامهن لتضميد الجرحى وسقي المقاتلين، متحسّبات لكل ما يمكن أن يحدث، أمّا أم عمارة فقد ارتدت ثياب القتال، وكأنّها أعدّت نفسها لمهمة شاقة وعظيمة..

أم عمارة: أيتها الأخوات كُنّ على حذر، واشدّدْن العزم فقد يكثر عدد الجرحى.

وتجيبها إحداهن: كلنا على أتمّ الاستعداد يا أم عمارة.

وتبدأ المعركة وتخرج أم عمارة تقوّي من ساعد المقاتلين..

ـ هنيئاً لكم.. شُدّوا العزم أيها الرجال. اسقوا هؤلاء المشركين كأس الحمام.. وليمضوا إلى الجحيم.. وما أن تفرغ قربتها من الماء حتى تعدو مسرعة إلى الخيمة فتجد جريحاً من المسلمين.. فتضمّد له جراحه وتخرج مسرعة فتملأ قربتها وتمضي..

وتشتدّ المعركة ويقوى ساعد المشركين بعد أن ترك الرماة أماكنهم فوجد خالد بن الوليد ـ وهو آنئذٍ في صفوف الشرك ـ ثغرة استطاع من خلالها الوصول إلى جند المسلمين..

وبدأ ميزان القوى يتحول لصالح المشركين، وفَرّ كثير من المسلمين من الساح حين سمعوا أن محمداً  صلى الله عليه وآله  قد مات..

وتسمع أم عمارة وهي تسقي المقاتلين بأنباء من انهزم. فتشمّر عن ساعد الجدّ، وتشهر سيف زوجها، وتغير إلى وسط الساح وكأنّها الأسد الهصور:

ـ لم تعد مهمتي سقي المقاتلين ولا تضميد الجرحى ومداواتهم..

لقد آن الأوان لك يا أم عمارة أن تشهري سيف زيد في سبيل الله.

وتلتقي أم عمارة بمشرك فتضربه بحدّ سيف طالما عطش إلى الدماء، فترديه قتيلاً، وتزغرد ثم تصرخ: الله أكبر.. الله أكبر.

وينظر عبد الله من بعيد فيرى أمه وهي تهدر في الساح فيمضي مسرعاً إليها..

ـ أمّاه.. أرجوك عودي إلى الخيمة فالمعركة حامية جداً..

وتجيبه بلهجة حازمة: قاتل يا عبد الله.. امضِ إلى حيث كنت بجانب رسول الله، دافع عنه حتى تموت فداه.. الله أكبر...

وترك عبد الله أمّه وعاد إلى جانب رسول الله يدافع عنه ويقيه بجسده كما أوصتْه أمّه هادراً: أنا فداك يا رسول الله.. لن يصلوا إليك وفيّ روح.. ويبارك رسول الله له عزيمته وإخلاصه لله ولرسوله.

أما أم عمارة فقد صمّمت على منع جنود الشرك من أن يصلوا إلى النبي المصطفى ولو بقيت في الساح وحيدة.. وبينما هي كذلك يأتي قرشي مشرك ويحاول أن يضربها بسيفه فتفرّ من أمامه اتقاء للضربة ثم تكرّ عليه وتضربه بسيفها فيفرّ منها ويبتعد، وإذا بأحد المسلمين يترك المعركة فتهجم عليه أم عمارة:

ـ إلى أين؟ أتترك رسول الله في الساح وتمضي؟! بئست عزيمة الرجال هذه!!!

فيقول الرجل: استريح قليلاً ثم أعود..

ـ إذن هات ترسك لمن يقاتل.. هات الترس.. ويلقي الرجل إليها بترسه فتتناوله وإذا بفارس مشرك يهجم عليها ويضربها بسيفه فتتترّس له ثم تهجم عليه وتضرب عرقوب فرسه فيقع على ظهره فتضربه بسيفها..

رأى رسول الله ما تفعله أم عمارة فنادى ابنها عبد الله وأمره بأن يمضي ليساعدها.. قائلاً: ((أمك أمك)).

وما أن يصل عبد الله إلى أمه حتى تهدر كالسبع الضاري..

بارك الله بك يا عبد الله.. أسرع إلى رسول الله وكن إلى جانبه، لا تبرح مكانك هناك، وأنا هنا أكفيكم هؤلاء الأشرار.

ويُصاب عبد الله في عضده بجرح بسيط وينزف جرحه بغزارة فتسرع أم عمارة وتخرج من جيبها عصابة تربط به الجرح بسرعة البرق، وتقول: انهض بنا يا عبد الله لنقاتل القوم..

وينهض عبد الله بسرعة...: هيّا.

ويرجع مسرعاً إلى حيث كان مدافِعاً عن رسول الله  صلى الله عليه وآله  وترى أم عمارة قرشياً هاجِماً فتضربه بسيفها على ساقه فيبرك.. فتناولهُ ضربة أخرى يخرّ بها قتيلاً وتصرخ بأعلى صوتها.. الله أكبر..

فيناديها أحد المسلمين.. إنه ضارب ابنك يا أم عمارة..

وتزغرد أم عمارة فرحة بقتلها ذلك المشرك..

وما هي إلاّ لحظات حتى دنا ابن قميئة وهو يقول: أين محمد؟! دلّوني على محمد.. لا نجوت إن نجا..

وتصرخ أم عمارة بأعلى صوتها: أنت الذي ستُقتل إن شاء الله.. ويهجم عليها فيقف إلى جانبها مصعب بن عُمير ويتبادلان مع ابن قميئة ضربات يخرّ بعدها مصعب شهيداً.. ويقوي الله من عزم أم عمارة فتخوضها معركة حامية مع ابن قميئة إلى أن استطاع أخيراً أن يصيبها في عنقها إصابة شديدة تخرّ بعدها أرضاً.

ورأى عبد الله أمه فأسرع نحوها وضرب ابن قميئة ضربة قتله بها، وكبّر..

وحمل النسوة أم عمارة..

أُعيدت أم عمارة إلى منزلها في المدينة وقام النسوة بالإشراف عليها وخدمتها، وبقي حبيب إلى جانبها يمازحها ليخفّف عنها آلامها المضنية.. حتى عاد عبد الله يسألها: كيف حالك يا أمّاه؟

ـ الحمد لله. وكيف حال رسول الله؟ هل هو بخير.

ـ أجل يا أمّاه، ولقد أرسلني ليطمئن عنك، وإنه ليردّد دائماً قوله الذي قاله أثناء ملاقاتك الأعداء: ((ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة ؟)).

وهنا تستريح أم عمارة قليلاً ثم تبادر الحاضرين بالقول:

ـ إنها لمعركة طويلة مع الشرك، وسيشفى هذا الجرح، وأعود لأكون إلى جانب الرجال المسلمين مقاتلة عن حومة الإسلام..

وتجيبها امرأة: بارك الله بكِ يا أم عمارة.

فتقول أم عمارة: أرجو أن أكون وابناي شهداء في سبيل الله دفاعاً عن حياض الإسلام.. والدرب طويل طويل..