العلماء ورثة الأنبياء! كيف ولماذا؟

العلماء ورثة الأنبياء!  كيف ولماذا؟

 السيد عادل العلوي

 

عن الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال:

((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقا إلى الجنة، وانّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به، وانه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، ولكن ورّثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر))(1).

المقصود من إيراد هذا الخبر الشريف أن نسلّط الأضواء على الفقرة الأخيرة من قوله (عليه السلام):

 ((العلماء ورثة الأنبياء)) فإنّ كلام الإمام إمام الكلام، فيه نور، وله أشعة وهّاجة وتحمل بطوناً من المعاني السامية كالقرآن الكريم، إذ العترة الطاهرة الثقل الثاني وعدل القرآن الكريم الذي خلّفه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لا سيّما والحديث حديثه.

فلا يخفى أن الوراثة ـ وراثة العلماء للأنبياء ـ لها أبعاد مختلفة وجوانب عديدة نذكر بعضها على نحو الإجمال والإشارة، ليكون معالم رئيسيّة لمن أراد السّير العميق في طريق هذا الخبر الشريف، (وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).

 

من أبعاد الوراثة:

1ـ الوراثة المالية:

العلماء لا يرثون الأنبياء في أموالهم، إنما يرث النبي من كان من أرحامه، يرثه على كتاب الله كما ورث سليمان داود ويوسف يعقوب(عليهما السلام)، فالعالم لا يرث النبي في ماله ومناله الدنيوي بنص منه في قوله:

((إن الأنبياء لم يورثوا ـ أي للعلماء لتناسب الحكم والموضوع ـ ديناراً ولا درهماً)) وفي رواية أخرى:

((الأصفر والأبيض)), كناية عن الذهب والفضة أو الدينار الذهبي والدرهم الفضي الذي كان في صدر الإسلام.

2ـ الوراثة العلمية:

فإن العلماء يرثون الأنبياء في علومهم كما ورد في النص: ((ولكن ورّثوا العلم)) والمراد من العلم:

هو العلم النافع الذي ينفع من علمه ويضر من جهله، أي علم الدين في أصوله وفروعه وأخلاقه (علم الفقه والعقائد والأخلاق) كما ورد ذلك في الروايات الشريفة.

ففي قول النبي الأكرم  (صلى الله عليه وآله وسلم):  ((إنما العلم ثلاث آية محكمة، وسنّة قائمة، وفريضة عادلة)).

3 ـ الوراثة الخُلُقية:

فإن العالم يرث النبي في أخلاقه السامية، وسلوكه الرفيع من التواضع وحبّ المساكين وحسن الخلق والحلم والصبر على المصائب والمتاعب وتحمل المشاكل من أجل أداء الرسالة، وكان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) خُلقه القرآن، وإنه لعلى خُلق عظيم، فالعالم الرسالي لا بدّ أن يتصف بفضائل الأخلاق ومكارم الصفات أسوة بنبيّه، فإنه وريثه في أخلاقه الحسنة، وإنّ الكلام إذا خرج من القلب الصالح المتقي الخلوق دخل في القلوب، وإذا خرج من اللسان فانه لا يتجاوز الآذان.

العالم لا بد أن يجسّد في وجوده ـ باطناً وظاهراً ـ أنوار النبوّة وتجليّات الولاية.

4ـ الوراثة في الهداية وتبليغ الرسالة:

وتعليم الناس وتزكيتهم وإنذارهم وتبشيرهم، ودعوتهم إلى عبادة الله والإخلاص في العمل والخوف من يوم المعاد كما كان يفعل الأنبياء في أممهم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا),  (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ), (فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ), (الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ), (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ).

فالنبي كان طبيباً دوّاراً يعالج أمراض الناس والمجتمع بكتابه الكريم: (وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ), (هُدىً لِلنّاسِ), (هُدىً لِلمُتّقِينَ) فالعلماء وكذلك الحوزات العلميّة لا يحق لهم أن يكتفوا بتدريس الفقه فإن ذلك كتدريس الطب والمدرّس غير الطبيب، فالعالم الفقيه من يدرّس الفقه وينزل إلى الساحة لتربية الناس وهدايتهم وتعليمهم وتزكيتهم، ولازم تبليغ الرسالة كما هو واضح تحمّل كل الأذى والمصائب من جميع شرائح المجتمع فيداويهم بالتي هي أحسن: ((أمرتُ بمداراة الناس)).

كان الأنبياء يُنشرون بالمناشير, ويسحب البساط من تحت أقدام الأئمة (عليهم السلام)، ولكل نبي فرعون، وإن الناس أعداء ما جهلوا، وعلى العالم أن يراعي أحاسيس الناس ومشاعرهم ويداويهم بكل ودّ وإخلاص فإنه الطبيب الدوّار، يعالج المجتمع كل على حسب حاله ومرضه، وله حالات مع الجهّال فمنهم: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً) ومنهم: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ومنهم: (وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ِ) ومنهم: (وَاصْبِرْ عَلَى‏ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً).

5ـ الوراثة في الاصطفاء:

فإن الله يصطفي من بين خلقه الأنبياء والمرسلين (إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ...) وعصمهم بعصمة ذاتية من الذنوب والآثام والسهو والنسيان، فكذلك الله يصطفي ويجتبي من خلقه العلماء، إلاّ أنه عليهم أن يعتصموا بالتقوى وبالعصمة في الأفعال، ويترفّعوا عن الذنوب والمعاصي والمكروهات، وإلاّ يبتلون بعقوبات إلهية، أدناها يسلب منهم حلاوة المناجاة ـ كما ورد في الروايات الشريفة ـ .

6ـ الوراثة في البركة:

فإن النبي مبارك في حياته الفردية والاجتماعيّة، ومظهر لبركة الله كما قال روح الله عيسى ابن مريم (عليهما السلام): (وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً) فالأنبياء منشأ البركات، والبركة الخير الكثير المستمر والمستقر ـ كما في اللغة ـ والعالم وريث الأنبياء في بركاتهم، فهو مبارك في حياته بقلمه وقدمه وبيانه ووجاهته، إذ هو كالشمعة تحرق نفسها من أجل إضاءة المجتمع، العالم لا بد أن يكون منشأ الخيرات والبركات في تأسيس وإدارة مشاريع دينيّة وثقافية وخيريّة كبناء المدارس والمستشفيات الأهلية والجوامع والحسينيات ونشر المعارف الحقة بكل أشكالها وغير ذلك.  

7ـ الوراثة الجهادية:

إنّ لكل نبي عدواً، فإن الله أرسله لهداية الناس وليقوموا بالقسط، ومن ثم يحارب الطغاة وأتباع الشيطان وأولياءه الذين يوحي إليهم الشيطان، فالنبي منذ بداية دعوته وحتى رحلته إلى ربه في جهاد ونضال مستمر دؤوب لا تأخذه في الله لومة لائم ولا تـثني عزيمته عداوة المستكبرين وعراقيلهم، فكذلك العالم فإنه في خندقين، خندق الهداية هداية الناس إلى الصراط المستقيم، وخندق الجهاد والنضال ومحاربة الجبابرة والطغاة، ومن يريد أن يستعبد الناس ويستثمرهم ويلهيهم عن عبادة الله والتقرب إليه، وقد فضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً, العلماء كالأنبياء يجاهدون في سبيل الله أعداء الله وأعداء دينه.

8ـ الوراثة في ثقل العقوبة:

فإن النبي بتركه الأولى يخرج من الجنة كآدم (عليه السلام), وتخرج النبوة من صلبه كيوسف (عليه السلام),  ويبكي وينوح طيلة حياته حتى سمّي نوحاً.

كذلك العلماء فإنه تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً، قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً، وإذا كانت ((حسنات الأبرار سيئات المقربين)) ـ كما ورد ـ فكذلك حسنات الجهّال سيئات العلماء، وأدنى ما يصنع بالعالم المذنب أن يسلب منه حلاوة المناجاة، وكم من عالم سلب منه نعمة العلم، وخرج من زيّ العلماء، حينما لم يعمل بعلمه، وتخلّى عن مسؤولياته الثقيلة من هداية الأمّة وإرشاد الناس وعيش آلامهم وأحاسيسهم من قريب.

وقد ورد في الخبر الشريف: ((العالِم الذي لا يعمل بعلمه، ويعصي ربّه يبتلى بواحد من ثلاث: إما أن يموت شاباً، أو يخدم السلطان ـ كوعّاظ السلاطين ـ أو يكون في الرساتيق)).

9ـ الوراثة في الحكومة:

النبوة رئاسة عامة في الدين والدنيا بنص من الله سبحانه، فالنـبي قائد الناس في دينهم ودنياهم، وإن الدين نظام قيادتهم في المجتمع إلى الخير والصلاح، و(أَنّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ) بنص من القرآن الكريم، وإن الغلبة لله ولرُسُله (لَأَغْلِبَنّ أَنَا وَرُسُلِي) والعلماء هم الذين يخشون الله (إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) والعلم يدعو إلى الصلاح، كما أن الصلاح لازم العلم، والعباد الصالحون الذين يرثون الأرض هم العلماء الصلحاء الأخيار، فإنهم قادة وهداة، وبيدهم زمام الأمور، ومقاليد الحكم، وسياسة البلاد، وبإشرافهم إدارة الحكومات، فإنهم ورثة الأنبياء.

10ـ الوراثة في الطبقات:

قال الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) في كتابه (التوحيد) إنّ الأنبياء طبقات، فمنهم من هو نبي نفسه، ومنهم نبي أسرته، ومنهم نبي محلّته، ومنهم نبي بلده، ومنهم نبي العالم أجمع وهم أولو العزم، وأصحاب الرسالات العالمية في زمانهم، وحتى ختم النبوة بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فرسالته إلى الناس كافة وإنه رحمة للعالمين وحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

والعلماء ورثة الأنبياء فمنهم من يكون في مقام نجاة نفسه، وأخرى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) وثالثة يقود سياسة محلّته، ويكون إمام جماعة المسجد فيحلّ مشاكل الناس ويعيش آلامهم، وأخرى يسوق البلد إلى شاطئ السعادة والخير، وربما تكون رسالته عالمية، وينتفع من علمه المبارك كل العالم كمراجع التقليد (جزاهم الله خيراً) والعلم إنما يقذفه الله في قلب من يشاء، والقلوب أوعية خيرها أوعاها.

وعلى كل عالم إسلامي أن ينظر إلى أقصى القوم، ويوسّع في تفكيره وعزمه ونشاطه وسياسته، ويخطّط لكل الأجيال ويهتم بأمور كل المسلمين فإنّ: ((من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)) فكيف بالعلماء وهم القادة والرعاة.

هذا ومن افتخار العلماء الأعلام أنهم ورثوا كل الأنبياء، حتى قيل في حقهم: ((علماء أمتي كأنبياء بنـي إسرائيل)) وفي رواية أخرى: ((أفضل من أنبياء بنـي إسرائيل)).

كما عاصروا أربعة عشر معصوماً (الرسول الأكرم وفاطمة الزهراء وأمير المؤمنين وأولادهم المعصومين الأحد عشر (عليهم السلام)) إذ بين أيديهم كلمات أئمتهم فكأنهم في عصرهم ومحافلهم يتلقون العلم والأدب منهم، وهذا يعنـي المعاصرة لهم، فورثوهم في علومهم وأخلاقهم وكلامهم وجهادهم وبركاتهم وقدسياتهم وقيادتهم وسياستهم، فإنهم ساسة العباد وأركان البلاد.

هذا عرض موجز لبعض أبعاد الوراثة النبويّة، وهناك العشرات كما يتفرّع من كل بُعد المئات، (وَمَا أُوتِيتُم مّنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلاً).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــ

(1) سفينة البحار/ ج3 / ص 319.