نظرة في الحديث (1)

قد عرفت مصافقة التفسير والخبر في سبب نزول الآية الكريمة، ومطابقة النصوص والأسانيد في إثبات الحديث والإخبات إليه، وقد أفرغته الشعراء في بوتقة النظم منذ عهد متقادم كأبي محمد العوني الغساني المترجم في شعراء القرن الرابع في قوله:

يقول رسول الله: هذا لأمتي   هو اليوم مولى رب ما قلت فاسمع
فقال جحود ذو شقاق منافق   ينادي رسول الله من قلب موجع:
 أعن ربنا هذا أم أنت اخترعته   فقال: معاذ الله لست بمدع؟
فقال عدو الله: للهم إن يكن   كما قال حقا بي عذابا فأوقع
فعوجل من أفق السماء بكفره   بجندلة فانكب ثاو بمصرع

وقال آخر في أرجوزته:

وما جرى لحارث النعمان   في أمره من أوضح البرهان
على اختياره لأمر الأمه   فمن هناك سائه وغمه
حتى أتى النبي بالمدينة   محبنطئا من شدة الضغينة
وقال ما قال من المقال   فباء بالعذاب والنكال

ولم نجد من قريب أو مناوء غمزا فيه أو وقيعة في نقله مهما وجدوا رجال إسناده ثقاتا فأخبتوا إليه، عدا ما يؤثر عن ابن تيمية (1) في منهاج السنة ج 4 ص 13 فقد ذكر وجوها في إبطال الحديث كشف بها عن سوءته كما هو عادته في كل مسألة تفرد بالتحذلق فيها عند مناوئة فرق المسلمين، ونحن نذكرها مختصرة ونجيب عنها.

 

* (الوجه الأول) *:

إن قصة الغدير كانت في مرتجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وقد أجمع الناس على هذا، وفي الحديث: أنها لما شاعت في البلاد جائه الحارث وهو بالابطح بمكة وطبع الحال يقتضي أن يكون ذلك بالمدينة فالمفتعل للرواية كان يجهل تاريخ قصة الغدير.

 

* (الجواب) *:

أولا ما سلف في رواية الحلبي في السيرة، وسبط ابن الجوزي في التذكرة، والشيخ محمد صدر العالم في معارج العلى، من أن مجيئ السائل كان في المسجد - إن أريد منه مسجد المدينة - ونص الحلبي على أنه كان بالمدينة، لكن ابن تيمية عزب عنه ذلك كله، فطفق يهملج في تفنيد الرواية بصورة جزمية.

 

* (ثانيا) *

فإن مغاضاة الرجل عن الحقايق اللغوية، أو عصبيته العمياء التي أسدلت بينه وبينها ستور العمى: ورطته في هذه الغمرة، فحسب إختصاص الأبطح بحوالي مكة. ولو كان يراجع كتب الحديث ومعاجم اللغة والبلدان والأدب لوجد فيها نصوص أربابها بأن الأبطح كل مسيل فيه دقاق الحصى، وقولهم في الإشارة إلى بعض مصاديقه: ومنه بطحاء مكة. وعرف أنه يطلق على كل مسيل يكون بتلك الصفة، وليس حجرا على أطراف البلاد وأكناف المفاوز أن تكون فيها أباطح.
روى البخاري في صحيحه 1 ص 181، ومسلم في صحيحه 1 ص 382 عن عبد الله ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها.
وفي الصحيحين عن نافع: أن ابن عمر كان إذا صدر عن الحج أو العمرة أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينيخ بها.
وفي صحيح مسلم 1 ص 382 عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى في معرسه (2) بذي الحليفة فقيل له: إنك ببطحاء مباركة. وفي إمتاع المقريزي و غيره: أن النبي إذا رجع من مكة دخل المدينة من معرس الأبطح، فكان في معرسه في بطن الوادي فقيل له: إنك ببطحاء مباركة.
وفي صحيح البخاري 1 ص 175 عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر، وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو - كان في تلك الطريق - أو حج أو عمرة هبط ببطن واد فإذا ظهر من بطن أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية فعرس ثم حتى يصبح وكان ثم خليج يصلي عبد الله عنده، وفي بطنه كثب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فدحا فيه السيل بالبطحاء. الحديث. وفي رواية ابن زبالة: فإذا ظهر " النبي " من بطن الوادي أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية.
وفي مصابيح البغوي 1 ص 83: قال القاسم بن محمد: دخلت على عايشة رضي الله عنها فقلت: يا أماه؟ اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة (3) ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء.
وروى السمهودي في وفاء الوفاء 2 ص 212 من طريق ابن شبة والبزار عن عايشة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: بطحان على ترعة من ترع الجنة.
وقبل هذه الأحاديث كلها ما ورد في حديث الغدير من طريق حذيفة بن أسيد وعامر بن ليلى قالا: لما صدر رسول الله من حجة الوداع ولم يحج غيرها أقبل حتى كان بالجحفة نهى عن سمرات متقاربات بالبطحاء أن لا ينزل تحتهن أحد. الحديث، راجع ص 26، 26، 46.
وأما معاجم اللغة والبلدان ففي معجم البلدان 2 ص 213: البطحاء في اللغة مسيل فيه دقاق الحصى. والجمع: الأباطح والبطاح على غير قياس - إلى أن قال -: قال أبو الحسن محمد بن علي بن نصر الكاتب: سمعت عوادة تغني في أبيات طريح بن إسماعيل الثقفي في الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكان من أخواله:
أنت ابن مسلنطح البطاح ولم * تطرق عليك الحني والولج (4)
فقال بعض الحاضرين: ليس غير بطحاء مكة، فما معنى الجمع؟ فثار البطحاوي العلوي فقال: بطحاء المدينة، وهو أجل من بطحاء مكة وجدي منه، وأنشد له:

وبطحاء المدينة لي منزل   فيا حبذا ذاك من منزل


فقال: فهذان بطحاوان فما معنى الجمع؟ قلنا: العرب تتوسع في كلامها وشعرها فتجعل الاثنين جمعا، وقد قال بعض الناس: إن أقل الجمع اثنان، ومما يؤكد أنها بطحاوان قول الفرزدق:

وأنت ابن بطحاوي قريش فإن تشأ   تكن في ثقيف سيل ذي أدب عفر


" ثم قال ": قلت أنا: وهذا كله تعسف. وإذا صح بإجماع أهل اللغة أن البطحاء:
الأرض ذات الحصى فكل قطعة من تلك الأرض بطحاء، وقد سميت: قريش البطحاء، وقريش الظواهر. في صدر الجاهلية ولم يكن بالمدينة منهم أحد. وأما قول الفرزدق وابن نباتة فقد قالت العرب: الرقمتان ورامتان. وأمثال ذلك كثير تمر في هذا الكتاب قصدهم بها إقامة الوزن فلا اعتبار له.
" البطاح " بالضم: منزل لبني يربوع وقد ذكره لبيد فقال:

تربعت الأشراف ثم تصيفت   حساء البطاح وانتجعن السلائلا

وقيل: البطاح ماء في ديار بني أسد، وهناك كانت الحرب بين المسلمين وأميرهم خالد بن الوليد وأهل الردة، وكان ضرار بن الأزور الأسدي، قد خرج طليعة لخالد ابن الوليد، وخرج مالك بن نويرة طليعة لأصحابه، فالتقيا بالبطاح فقتل ضرار مالكا فقال أخوه متمم يرثيه:

سأبكي أخي ما دام صوت حمامة   تورق في وادي البطاح حماما


وقال وكيع بن مالك يذكر يوم البطاح:

فلما أتانا خالد بلوائه   تخطت إليه بالبطاح الودايع


وقال في ص 215: البطحاء: أصله المسيل الواسع فيه دقاق الحصى. وقال النضر:
الأبطح والبطحاء بطن الميثاء والتلعة والوادي. هو التراب السهل في بطونها مما قد جرته السيول يقال: أتينا أبطح الوادي وبطحاءه مثله وهو ترابه وحصاه السهل اللين.
والجمع الأباطح، وقال بعضهم: البطحاء كل موضع متسع. وقول عمر رضي الله عنه:
بطحوا المسجد. أي ألقوا فيه الحصى الصغار. وهو موضع بعينه قريب من ذي قار. و بطحاء مكة وأبطحها ممدود. وكذلك بطحاء ذي الحليفة، قال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غازيا فسلك نقب بني دينار فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها: ذات الساق، فصلى تحتها فثم مسجده، وبطحاء أيضا مدينة بالمغرب قرب تلمسان.
بطحان " روي فيه الضم والفتح " واد بالمدينة وهو أحد أوديتها الثلاثة وهي: العقيق، وبطحان: وقتاة، قال الشاعر وهو يقوي رواية من سكن الطاء:

أبا سعيد لم أزل بعدكم   في كرب للشوق تغشاني
كم مجلس ولى بلذاته   لم يهنني إذ غاب ندماني
سقيا لسلع ولساحاتها   والعيش في أكناف بطحان


وقال ابن مقبل في قول من كسر الطاء:

عفى بطحان من سليمي فيثرب   فملقى الرمال من منى فالمحصب


وقال أبو زياد: بطحان من مياه الضباب.
وقال في ص 222: البطيحة بالفتح ثم الكسر وجمعها البطائح، والبطيحة والبطحاء واحد. وتبطح السيل إذا اتسع في الأرض. وبذلك سميت بطائح واسط. لأن المياه تبطحت فيها أي سالت، واتسعت في الأرض، وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة، وكانت قديما قرى متصلة وأرضا عامرة، فاتفق في أيام كسرى أبرويز أن زادت دجلة زيادة مفرطة، وزاد الفرات أيضا بخلاف العادة، فعجز عن سدها فتبطح الماء في تلك الديار والعمارات والمزارع فطرد أهلها عنها. الخ.

___________

(1) ابن تيمية الداعب على إنكار الضروريات، والمتجري على الوقيعة في المسلمين، وعلى تكفيرهم وتضليلهم، ولذلك عاد غرضا لنبال الجرح من فطاحل علماء أهل السنة منذ ظهرت مخاريقه وإلى هذا اليوم، وحسبك قول الشوكاني في البدر الطالع 2 ص 260: صرح محمد البخاري الحنفي المتوفى 841 بتبديعه ثم تكفيره ثم صار يصرح في مجلسه: إن من أطلق القول على ابن تيمية: إنه شيخ الاسلام. فهو بهذا الإطلاق كافر.
(2) التعريس. نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة.
(3) أصله من الشرف: العلو. واللاطئة من لطئ بالأرض: لزق.
(4) الحنى: ما انخفض من الأرض. الولج ج ولاج بالكسر: النواحي. الازقة. ما اتسع من الأودية. أي لم تكن بينهما فيخفى حسبك.