من وصايا الامام الصادق(ع)

ما اكثر الغالي من نصائحه والثمين من وصاياه، فإنه لم يترك نهجاً للنصح إِلا سلكه، ولا باباً للارشاد إِلا ولَجه، فتارةً يحثّنا على التقوى والورع والاجتهاد وطول السجود والركوع، ويقول: كونوا دُعاة الى انفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً. واُخرى يريد منّا أن نرتقي فوق تلك الرتب فنكون من أرباب الشكر والدعاء والتوكّل فيقول: من اُعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً، من اُعطي الدعاء اُعطي الاجابة، ومن اُعطي الشكر اُعطي الزيادة، ومن اُعطى التوكُّل اُعطي الكفاية، ثمّ قال: أتلوت كتاب اللّه عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه﴾ وقال: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ وقال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾. ويرشدنا الى الأرفع من هذا منزلة فيقول: اذا أراد أحدكم ألا يسأل اللّه شيئاً إِلا أعطاه فلييأس من الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إِلا عند اللّه، فإذا علم اللّه عزّ وجلّ ذلك من قلبه لم يسأل اللّه شيئاً إِلا أعطاه. وطوراً يرغّبنا في الأخلاق الكريمة والصفات الفاضلة فيشير الى التواضع ويصف لنا بعض مواضعه فيقول: من التواضع أن ترضى من المجلس دون المجلس، وأن تُسلّم على من تلقى، وأن تترك المراء وإِن كنت محقاً، ولا تحبّ أن تُحمد على التقوى. ويذكر عدَّة خصال يزدان بها المرء ويسمو بها مرتقى عليّاً فيقول لأصحابه: اسمعوا منّي كلاماً هو خير من الدُهم الموقّفة لا يتكلّم أحدكم بما لا يُعنيه، وليدع كثيراً من الكلام فيما يعنيه، حتّى يجد له موضعاً، فرُبّ متكلّم في غير موضعه جنى على نفسه بكلامه، ولا يمارينّ أحدكم سفيهاً ولا حليماً، فإن من مارى حليماً أقصاه، ومن مارى سفيهاً أرداه، واذكروا أخاكم اذا غاب عنكم بأحسن ما تحبّون أن تذكروا به اذا غبتم، واعملوا عمل من يعلم أنه مجازى بالإحسان. ويصف لنا حُسن الخُلق بما يدفعنا على المسارعة بالتخلّق به فيقول: اذا خالطت الناس فإن استطعت ألا تخالط أحداً منهم إِلا كانت يدك العليا عليه فافعل، فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة ويكون له حُسن الخُلق، فيبلغه اللّه بخُلقه درجة الصائم القائم. وما اكثر ما يحثّ به على التجمُّل بلباس الخُلق الحسن، وقرينة السخاء ومن ذلك قوله: إِن اللّه ارتضى لكم الاسلام ديناً فاحسنوا صحبته بالسخاء وحُسن الخُلق. وأوصانا على لسان المفضّل بن عمر الجعفي بخصال ست لا توزن بقيمة، قال له: اوصيك بستّ خِصال تبلغهنّ شيعتي، قال: وما هي يا سيّدي؟ قال عليه السلام: “أداء الأمانة الى من ائتمنك، وأن ترضى لأخيك ما ترضى لنفسك، واعلم أن للاُمور أواخر فاحذر العواقب، وأن للاُمور بغتات فكن على حذر، وإِيّاك ومرتقى جبل سهل اذا كان المنحدر وعراً، ولا تعِدنّ أخاك وعداً ليس في يدك وفاؤه” قُل لي برّبك أيّ خِصالٍ هذه !! وكم حملنا على أمثالها ممّا يجعلنا في مصافّ الملائكة المقرّبين؟ ولكن أين السامع. ونهانا عن خِصالٍ بارتكابها الضعة والسقوط، فقال عليه السلام: لا تمزح فيذهب نُورك، ولا تكذب فيذهب بهاؤك. وإِيّاك وخِصلتين: الضجر والكسل، فإنك إِن ضجرت لا تصبر على حق، وإِن كسلت لم تؤدّ حقاً. وقال عليه السلام: وكان المسيح عليه السلام يقول: من كثر همّه سقم بدنه، ومن ساء خُلقه عذَّب نفسه، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر كذبه ذهب بهاؤه، ومن لاحى الرجال ذهبت مروَّته. وممّا أوصى به أصحابه قوله: تزاوروا فإن في زيارتكم إِحياءً لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإِن تركتموها ظللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم. أقل: حقّاً إِن الرشد والنجاة بالتمسّك بأقوالهم، والضلال والهلاك بالصفح عن نصائحهم، لأنهم لم يدَعوا سبيلاً للإرشاد إِلا دلّوا عليه، ولا طريقاً للإضلال إِلا نهوا عنه. وقال عليه السلام: اجعلوا أمركم هذا للّه ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان للّه فهو للّه، وما كان للناس فلا يصعد الى السماء، ولا تخاصموا بدينكم، فإن المخاصمة ممرضة للقلب، إِن اللّه عزّ وجل قال لنبيّه صلّى اللّه عليه وآله “إِنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ اللّه يهدي من يشاء” وقال “أفأنت تكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين” ذروا الناس فإن الناس قد أخذوا عن الناس وإِنكم أخذتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعن علي عليه السلام ولا سواء، وأني سمعت أبي يقول: اذا كتب اللّه على عبد أن يدخله في هذا الأمر كان أسرع اليه من الطير الى وكره. أقول: فكم كانت محاججات مبتنية على اُصول صحيحة يفحم بها أحد الجانبين فلا ينقلب عمّا كان عليه مع وضوح الحقّ لديه وتجلّي الحقيقة، وكم من مُلحد أو كافر اعتنق دين الاسلام بأقلّ دلالة، وأدنى سبب. وقال عليه السلام وهو يريد من أصحابه التوطين والنظر الى الأمر من بعيد: اصبروا على الدنيا فإنما هي ساعة، فما مضى منه فلا تجد له ألماً ولا سروراً، وما لم يجئ فلا تدري ما هو، وإِنما هي ساعتك التي أنت فيها، فاصبر فيها على طاعة اللّه، واصبر فيها عن معصية اللّه. أقول: إِن هذه الكلمة تصوّر لك حال المرء في هذه الحياة، لأن الماضي منسى حزناً كان أو سروراً، والآتي مجهول لا يُدرى، وإِنما المرء ابن ساعته، وصبر ساعة سهل، سواء كانت طاعة فيأتي بها، أو معصية فيصفح عنها، فالإنسان في كلّ ساعة هو لتلك الساعة، والى هذا أشار الشاعر بقوله: ما مضى فات والمؤمّل غيب***ولك الساعة التي أنت فيها وقال عليه السلام: اجعل قلبك قريباً برّاً، وولداً مواصلاً، واجعل عملك والداً تتبعه، واجعل نفسك عدوّاً تجاهده، واجعل مالك عارية تردها. وقال عليه السلام: إِن قدرت ألا تُعرف فافعل، ما عليك ألا يثني عليك الناس، وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس اذا كنت محموداً عند اللّه. وقال يحثُّ على الدعاء: الدعاء يردّ القضاء ما ابرم ابراماً، فاكثر من الدعاء فإنه مفتاح كلّ رحمة، ونجاح كلّ حاجة، ولا ينال ما عند اللّه عزّ وجل إِلا بالدعاء، وأنه ليس باب يكثر قرعه إِلا ويوشك أن يُفتح لصاحبه. وقال، وما أشرفها كلمة: لا تطعنوا في عيوب من أقبل اليكم بمودَّته ولاتوقفوه على سيّئة يخضع لها، فإنها ليست من أخلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولا من أخلاق أوليائه. وقال عليه السلام، وما أنفعها كلمة: احسنوا النظر فيما لا يسعكم جهله وانصحوا لأنفسكم، وجاهدوا في طلب ما لا عُذر لكم في جهله، فإن لدين اللّه أركاناً لا تنفع من جهلها شدَّة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته، ولا يضرّ من عرفها فدان بها حسن اقتصاده، ولا سبيل الى أحد الى ذلك إِلا بعون من اللّه عزّ وجلّ. العِشرة كان من الجميل النافع أن نجمع وصاياه ومواعظه حسب الموضوعات. ولئن فاتنا ذلك كلّه فلا يفوتنا بعضه، فنحن ذاكرون الآن نبذاً في بعض الموضوعات ممّا هو في متناول أيدينا. ونبتدئ بالعِشرة. لا شكّ أن الانسان من غريزته المحاكاة والتقليد لمعاشريه وأقرانه، فإن كانوا أخياراً اقتبس منهم محاسنهم، وإِن كانوا أشراراً انطبع بمساوئهم وذلك طبعاً في الأكثر الغالب من البشر، ولأجله وجّه إِمامنا نصيحته الى الناس فقال عليه السلام:”إِيّاكم وعِشرة الملوك وأبناء الدنيا ففي ذلك ذهاب دينكم ويعقبكم نفاقاً، وذلك داء ردي لا شفاء له، ويورث قساوة القلب ويسلبكم الخشوع”. وعليكم بالإشكال من الناس والأوساط من الناس فعندهم تجدون معادن الجواهر، وإِيّاكم أن تمدُّوا أطرافكم الى ما في أيدي أبناء الدنيا، فمن مدَّ طرفه الى ذلك طال حُزنه ولم يشفِ غيظه واستصغر نعمة اللّه عنده، فيقلّ شكره للّه، وانظر الى من هو دونك فتكون لأنعم اللّه شاكراً، ولمزيده مستوجباً، ولجوده ساكناً. الاستباق الى الخيرات: إن تهيئة العمل الصالح فرصة لا ينبغي إِضاعتها، ولربّما كانوا تقويتها مدعاة للندم، وشؤون الحياة كلّها فُرص تمرُّ ليس في أيدينا إِعادتها، لأن آلاف الأسباب المهيّئة لظرف العمل اكثرها خارج عن قدرتنا وإِرادتنا، ولكن حثَّ أبو عبد اللّه عليه السلام على انتهاز مثل هذه الفرص السوانح فقال:”إِذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخّره، فإن اللّه عزّ وجلّ ربّما اطّلَعَ على العبد وهو على شيء من الطاعة فيقول: وعزّتي وجلالي لا اُعذّبك بعدها أبداً” والكمات الواردة عنه في ذلك كثيرة. وكما حَثَّ على المسارعة الى الخير عند العزيمة عليه نهى عن امضاء العزيمة اذا كانت في المعصية فقال عليه السلام:”واذا هممت بسيّئة فلا تعملها فإنه ربّما اطّلع على العبد وهو على شيء من المعصية فيقول: وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً”. ووصاياه في مثل ذلك لا يحيط بها الحصر.