هكذا كانت سيدة النساء (عليها السلام)

((يافاطمة إعملي لنفسِكِ فإني لا أملك لكِ من الله شيء))

هذه الكلمة الخالدة لرسول الله صلى الله عليه وآله تلخَّص النهج الإسلامي في بناء الإنسان.. وعلى ضوئها يتوضّح ويتحدّد مقياس التقييم والتفاضل بين الناس، فبالعمل الصالح وحده المستند إلى الإيمان، يرتقي المسلم في معارج الكمال، وبهما فقط يتسلّح في خوض جهاده الأكبر القاسي ضد سلطان الغرائز والشهوات... ليكون، بالتالي، مستحقاً لرضوان الله تعالى وثوابه الجزيل في الدنيا والآخرة.

وقد وعت فاطمة (عليها السلام) هذه الحقيقة جيداً، ووضعتها نصب عينيها في كل لحظةٍ من لحظات عمرها المبارك فلَمْ تَتَّكِل على حسبٍ أو نسب، وهي التي ـ لو جاز لأحدٍ الاستناد إلى مثل ذلك ـ لكانت جديرةً بأن تفخر على الأولين والآخرين. فأبوها هو رسول الله صلى الله عليه وآله سيد الخلق أجمعين، أمها أم المؤمنين خديجة (رض)، وزوجها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) اللذان قال في حقهما الرسول صلى الله عليه وآله : ((ما قام ولا استقام الدين إلاّ بسيف علي ومال خديجة)).

ولكن عاشت فاطمة (عليها السلام) بدلاً من ذلك، حياةً كلها جهاد وصبر وذوبان بحبّ الله ورسوله ورسالته، حتى حقّ لها أن تنال الوسام الرفيع الذي منحها إياه أبوها صلى الله عليه وآله ، حين وصفها ـ وهو الناطق بأمر الله ـ ((بسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين))، التي ((يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها))، وبأنها (عليها السلام) ((بضعة منه صلى الله عليه وآله ))، ((من آذاها فقد آذاه صلى الله عليه وآله )) وبأنها ((نور عينيه صلى الله عليه وآله ، وثمرة فؤاده وروحه التي بين جنبيه صلى الله عليه وآله ))، وبأنها (عليها السلام) ((الحوراء الإنسيّة)). أي بتعبير آخر كانت الزهراء (عليها السلام) التجسيد الحي الكامل بين النساء، لرسالة الإسلام التي جاء بها أبوها صلى الله عليه وآله . فما هي ـ باختصار ـ مظاهر العظمة في شخصيتها (عليها السلام) التي غدت معها مثلاً أعلى للمرأة، أو المرأة ـ النموذج في كل زمان ومكان، على الرغم من سنيّ حياتها القليلة التي لم تبلغ العشرين عدّاً.

إن جوابنا على ذلك، وبدون أدنى مبالغة، لا يشكّل سوى غرفةٍ بسيطة من بحرها الطامي سلام الله عليها.

* ففي حياتها الأسرية: كانت (عليها السلام) القدوة لجميع النساء:

أ ـ في برّها بأبيها، وشدّة احترامها لمقامه العظيم، وتعلّقها به صلى الله عليه وآله حتى أسماها صلى الله عليه وآله بـ ((أم أبيها)).

ب ـ وفي حُسْن تبعّلها وعِظَم وفائها لزوجها أمير المؤمنين (عليه السلام)، حتى فاقت متانة علاقتهما الزوجية كلَّ وصف. يقول الإمام علي (عليه السلام): ((فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمرٍ حتى قبضها الله عزّوجلّ. ولا أغضبتني ولا عَصَتْ لي أمراً. لقد كنتُ أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان)).

ج ـ وفي قوة حنانها وعطفها على أولادها، وخصوصاً الحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام).. إلى درجة أنها لُقّبت (عليها السلام) ((بالحانية)).

* وفي زهدها وعزوفها عن حطام الدنيا وتعلّقها بالمثل العليا، بلغت أقصى المدى وغاية المنى.. وهو ما نشهده:

أ ـ في قبولها بالمهر المتواضع القليل، وهي خير النساء شرفاً وقدراً، بل تؤكد الروايات أنها تمنّت على أبيها صلى الله عليه وآله أن يدعو الله لها ليجعل مهرها: الشفاعة في عصاة أُمّتِه صلى الله عليه وآله يوم القيامة.

ب ـ وفي تخلّيها عن كل ما تملكه في سبيل مرضاة الله سبحانه، ومِنْ ذلك العقد الوحيد الذي كانت تزيّن به جيدها، والذي دفعته لأحد فقراء المسلمين؛ بل حتى أنها تخلت ـ مع زوجها وبنيها ـ عن طعامهم للمسكين واليتيم والأسير، وفضّلوا التضوّر جوعاً لمدة ثلاثة أيام كاملة لوجه الله، لا يريدون جزاءً ولا شكوراً.. فأنزل الله في وصف هذا الإيثار العظيم قرآناً.

* وفي عبادتها وتقواها (عليها السلام)، يقول أبوها صلى الله عليه وآله : ((متى قامت في محرابها بين يَدَيْ ربّها (جلّ جلاله) زَهَر نورُها لملائكة السماء، كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض. ويقول الله (عزوجل) لملائكته: ياملائكتي انظروا إلى أمَتَي فاطمة سيدة إمائي قائمة بين يديّ ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلتْ بقلبها على عبادتي)).

* وفي علمها، فاقت (عليها السلام) كل النساء.. ولو شاء الله لها أن تعيش أكثر لفاض نورها على الناس ويكفي، في الدلالة على ما بلغته من مستوى رفيع، التأمّل في مضامين الخطبتين اللتين حفظهما لنا التاريخ عنها (عليها السلام).

* وفي جهادها لنصرة الحق، رسمت (عليها السلام) الطريق لكل امرأة، بل لكل انسان.. كما نلاحظ في تصدّيها ومقاومتها للانحرافات في المجتمع الإسلامي بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله ، وما سجّلته من مواقف مشهودة، في هذا المجال، حتى أنها أوصت زوجها الإمام علي (عليه السلام) بأن يُخفي قبرها، ولا يُشرِك في تشييعها إلا القلّة من الصحابة كتعبيرٍ منها ـ أمام المسلمين جميعاً ـ عن غضبها ورفضها لتلك الانحرافات.

وبعد، ونحن نحتفي بذكرى ميلاد الزهراء (عليها السلام)، حريّ بنا، بل بنساء أمتنا بالذات الانصراف إلى دراسة وتمثّل سيرة سيدة النساء، والتعرّف من خلالها على عظمة هذا الدين القويم الذي نجح في صياغة الإنسان الكامل على قاعدة الإيمان والعمل الصالح، بعد أن فشلت في ذلك ـ كما أثبتت وتثبت التجارب ـ سائرُ المبادئ والطروحات.