أبو طالب عليه السلام كمؤمن آل فرعون

إننا إذا تتبعنا سير الدعوة، ومواقف أبي طالب عليه السلام فإنّنا نجد: أنّه كان بادئ ذي بدء يكتم إيمانه، تماماً كمؤمن آل فرعون، والظاهر أنه قد استمر يظهر ذلك تارة، ويخفيه أُخرى إلى أن حُصر الهاشميون في الشعب، فصار يكثر من إظهار ذلك وإعلانه.

وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان، وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرتين».(أمالي الصدوق:٥٥١. أصول الكافي:١/٣٧٣)

وعن الشعبي، يرفعه، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «كان والله أبو طالب بن عبد المطلب بن عبد مناف مؤمناً مسلماً، يكتم إيمانه؛ مخافة على بني هاشم أن تنابذها قريش».(الغدير:٧/٣٨٨. أمالي الصدوق:٥٥٠)

ومن المعلوم أنّ محمد ابن الحنفية حمل في حرب الجمل على رجل من أهل البصرة، قال: فلما غشيته قال: أنا على دين أبي طالب، فلما عرفت الذي أراد كففت عنه.(الطبقات الكبرى لابن سعد:٥/٦٧)

وثمة أحاديث أُخرى عديدة بهذا المعنى لا مجال لذكرها.(راجع: الغدير:٧/٣٣٨. الفصول المختارة:٨٠. إكمال الدين:١٠٣)

 

لابد من كتمان الإيمان

ونستطيع أن نقول: إنّ كتمان إيمان أبي طالب عليه السلام كانت ضرورة لابد منها؛ لأنّ الدعوة كانت بحاجة إلى شخصية اجتماعية قوية تدعمها، وتحافظ على قائدها، شرط أن لا تكون طرفاً في النزاع، فتتكلم من مركز القوة لتتمكن الدعوة من الحركة، مع عدم مواجهة ضغط كبير يشل حركتها، ويحد من فاعليتها.

قال ابن كثير وغيره: (إذ لو كان أسلم أبو طالب – ونحن نقول لابن كثير: إنه قد أسلم، ولكنه كتم إيمانه وإسلامه مدة – لما كان له عند مشركي قريش وجاهة، ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه، ولاجترؤوا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه).(البداية والنهاية:٣/٤١. السيرة النبوية لدحلان:١/٤٦)

 

مفارقات محيِّرة

كيف يحكمون لزيد بن عمرو بن نفيل ابن عم عمر بن الخطاب، ولولده سعيد بن زيد، ولورقة بن نوفل، وقس بن ساعدة، ولأبي سفيان الذي ما فتئ كهفاً للمنافقين، والذي ذكرت تصريحاتهم ومواقفهم في غزوة أُحد. (الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله:٤/٢٥٢)

إذن، كيف يحكمون لهؤلاء بالإسلام؟! بل يروون عنه صلى الله عليه وآله: أنه قال عن أُمية بن أبي الصلت: أنّه كاد أن يسلم في شعره.(صحيح مسلم:٧/٤٨)

ويقول الشافعي عن صفوان بن أُمية: (وكان كأنه لا يشك في إسلامه)، لأنّه حين سَمع يوم حنين قائلاً يقول: غلبت هوازن، وقُتل محمد، قال له: (بفيك الحجر، فوالله، لرب قريش أحب إلي من رب هوازن).(الأغاني:٣/١٩٠)

فكيف يحكمون لكل هؤلاء بالإسلام، أو بالاقتراب منه، وهم لم يدركوا الإسلام، أو أدركوه ولم يسلموا، أو أظهروا الإسلام، وأبطنوا الكفر؟

ثم يحكمون بالكفر على أبي طالب عليه السلام، الذي ما فتئ في الفترة الأخيرة، ربما بعد الهجرة إلى الحبشة يؤكد ويصرح عشرات المرات في أقواله وفي أفعاله، ويعلن بالشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وآله بالنبوة والرسالة؟! ما لهم كيف يحكمون!

 

ما هو ذنب أبي طالب رضوان الله عليه؟

ولكننا رغم كل ذلك نقول: إنّه يؤخذ على أبي طالب عليه السلام شيء واحد، هو من أكبر الذنوب، وأعظم السيِّئات والعيوب، التي يستحق من يتلبس بها – شاء أم أبى – الحساب العسير، ولا بد أن يحرم لأجلها من كل امتياز، ويسلب منه كل وسام.

وهذا الذنب العظيم والجسيم هو أنه كان أباً لذلك الرجل الذي تكرهه قريش، ويبغضه الحكام، ويشنؤه أهل الباطل.. وكانوا وما زالوا يتمنون له كل سوء، وكل ما يسوء، وقد قطعوا رحمه، وجهدوا للحط من شأنه، وصغَّروا عظيم منزلته، لا لشيء سوى أنه كان قد قتل آباءهم وإخوانهم على الشرك والكفر، وهو يدافع عن دين الله سبحانه، ويجاهد في سبيل الله، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله.

وهذا الرجل هو – بصراحة – ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وزوج ابنته، وأبو سبطيه، وهو المسمى بـ(علي) أمير البررة، وقاتل الكفرة الفجرة، الذي كان مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله، وكان الولي والوصي صلوات الله وسلامه عليه وعلى أبيه، وعلى الأئمة الأطهار من بنيه.

فكان لابد – بنظرهم – من نسبة كل عظيمة إليه، وإلى أبيه أبي طالب عليه السلام، ووضع الأحاديث المكذوبة في حقهما، وتزوير تاريخهما، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

فحفلت مجاميعهم الحديثية والتاريخية بألوان من الدجل والتزوير، وأفانين من الكذب والبهتان، والأفائك والأباطيل، حتى لقد نسبوا إلى أبي طالب عليه السلام الكفر – والعياذ بالله – ولو كان ثمة شيء أعظم من الكفر لنسبوه إليه، ووصموه به، كيداً منهم لعلي، وسعياً منهم للنيل من مقامه، وهو الذي كان ولا يزال الشوكة الجارحة في أعين الأُمويين، والزبيريين، وجميع الحاقدين على الحق وأهله، فظهرت منهم أنواع من الافتراءات عليه، وعلى أخيه جعفر، وأبيه أبي طالب، وعلى كل شيعتهم ومحبيهم، والمدافعين عنهم.

وحين بدا لهم أن ذلك لا يشفي صدورهم شفعوه بنوع آخر من الكيد والتجني، حين سعوا إلى إطراء أعدائه، أعداء الله ورسوله، وأعداء الحق، فنسبوا فضائل أولياء الله إلى أعداء الله، حتى إنك لا تكاد تجد فضيلة ثبتت لعلي عليه السلام بسند صحيح عند مختلف الفرق الإسلامية، إلا ولها نظير في مخالفيه، ومناوئيه، والمعتدين عليه، ولكنها – في الأكثر ولله الحمد – قد جاءت بأسانيد ضعيفة وموهونة، حتى عند واضعيها.

هذا، ويلاحظ: أن هذه الأفائك الظالمة في حق أبي طـالب عليه السلام قد ظهرت بعد عشرات السنين من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي كان المدافع الأول عن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه، كما يظهر من كثير من المواقف له صلى الله عليه وآله، حدثنا عنها التاريخ، وحفظتها لنا كتب الحديث والرواية، رغم ما بذله الحاقدون من جهود لطمسها، وطمس سواها من الحقائق الناصعة، والشواهد والبراهين الساطعة.

ولو أن أبا طالب رضوان الله تعالى عليه كان أباً لمعاوية مثلاً، أو لمروان، أو لأي من الذين تصدوا للحكم من المناوئين والمنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام، وعن خطهم ومنهجهم، لرأيت ثم رأيت من آيات الثناء عليه ما يتلى آناء الليل، وأطراف النهار، ولوجدت الأوسمة تلاحقه، وتنهال عليه من كل حدب وصوب، وبلا كتاب ولا حساب، ولألفيت الذين ينبزونه بتلكم الأكاذيب والأباطيل، ويرمونه بالبهتان، هم أنفسهم حملة رايات التعظيم والتبجيل، والتكبير والتهليل له رحمه الله.

ولوجدت من الأحاديث في فضائله ومناقبه وما له من كرامات وشفاعات إن دنيا، وإن آخرة، ما يفوق حد الحصر، وما يزيد ويتضاعف باطراد في كل عصر ومصر.

ولربما تجد من يدَّعي: أن أبا طالب عليه السلام قد آمن بالنبي حتى قبل أن يبعث صلى الله عليه وآله، كما ادَّعوه لبعض من يوالونهم ويحبونهم!!

ولعل بعضهم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول فيه كما قالوه في بعض أسلافهم: لو لم أبعث فيكم لبعث فلان!! أو ما شاكل ذلك.

هذا إن لم يدَّعوا له مقام النبوة، أو ما هو أعظم من ذلك كما ادَّعوا ذلك ليزيد لعنه الله، قاتل الإمام الحسين عليه السلام، وهادم الكعبة.

 

القول الصحيح

إن أبا طالب عليه السلام قد كان محظوظاً جداً، حيث لم يكن قريباً لهؤلاء، ولا لمن يتولاه هؤلاء، فنجا من أن تنسب إليه فضائل مكذوبة، ومن أن يعطى أوسمة لا حقيقة لها، إذ يكفي هذا الرجل من الفضائل والأوسمة ما كان قد ناله عن جدارة واستحقاق بجهاده، وبإخلاصه، وبعمله الصالح الذي نال به رضا الله سبحانه، وذلك هو الفضل العظيم، والحظ الأسعد، والمقام الأمجد.

 

مفارقات.. ذات دلالة

 أبو طالب عليه السلام كمؤمن آل فرعونالغريب في الأمر: أن من هؤلاء القوم، من يرى أن قاتل عمار بن ياسر من أهل الجنة، وأن ابن ملجم مجتهد في قتله الإمام علياً عليه السلام، ثم هم يدافعون عن يزيد ابن معاوية لعنه الله، ويعتبرونه من أهل الجنة، بل ادَّعى له بعضهم النبوة قبحهم الله وإياه.

كما أن البعض كابن عربي يرى: أن فرعون مؤمن، وأنّ عبدة العجل موحدون مؤمنون، إلى غير ذلك من ترهات وأباطيل وأضاليل.

هذا عدا عن أنهم قالوا: إن حاتم الطائي يدخل النار لكنه لا يعذب بها لجوده، وأن كسرى لا يعذب لعدله، وأن أبا سفيان، أبا معاوية الذي يقول لعثمان حينما صارت إليه الخلافة: قد صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أُمية، فإنما هو الملك، ولا أدري ما جنة ولا نار.(النزاع والتخاصم:٢٠)

إن أبا سفيان هذا، مؤمن تقي عادل، معصوم، وأن أبا طالب عليه السلام – أو فقل: أبو الإمام علي عليه السلام – كافر مشرك، وفي ضحضاح من نار، يبلغ كعبه، ويغلي منه دماغه!!

نعم.. ما عشت أراك الدهر عجباً!!

 

حال أبي طالب رضوان الله عليه حال رسول الله صلى الله عليه وآله

فإنّ حال أبي طالب عليه السلام مع الأُمويين وأشياعهم، ومن افترى عليه بغضاً منه بولده علي عليه السلام.. يشبه إلى حد كبير حال النبي صلى الله عليه وآله مع المشركين، الذين حكى القرآن حالهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاًْ}.[الإسراء:١٧]

إن مبغضي أبي طالب يقولون: لن نقر بإيمان هذا الرجل، ولو تضافرت على ذلك كل الأدلة والشواهد، وحتى لو نص الله ورسوله عليه.

فبئس الخلف من الأُمويين وأشياعهم، ومن الزبيريين وأتباعهم، ومن كل شانئ لعلي، ومصغر لشأنه، لبِئس السلف من طواغيت الجاهلية وعتاتها، ومن قتلة الأنبياء وفراعنة الأرض، وجبابرتها.

 

موقف أبي لهب من دعوة النبي صلى الله عليه وآله

ثم إننا نشير أيضاً هنا إلى أنهم يذكرون: أنّه بعد أن توفي أبو طالب عليه السلام أعلن أبو لهب استعداده لنصرة النبي صلى الله عليه وآله.

فاحتالت قريش، فأخبرته أنه يقول: إن أباك عبد المطلب في النار، فسأله عن ذلك، فأخبره بما طابق ما أخبروه به؛ فتخلى عن نصرته، وانقلب ليكون عدواً له ما عاش.(البداية والنهاية:٣/١٣٤)

 

نقول إننا لا نشك في كذب هذه القضية.

أولاً: كيف لم يعلم أبو لهب طيلة عشر سنين من عدائه للنبي، ومحاربته له: أن هذا هو رأيه صلى الله عليه وآله ورأي الإسلام في كل من يموت مشركاً بالله تعالى؟! وعلى أي شيء كان يحاربه طيلة هذه المدة إذن؟!

بل إن أبا لهب كان من أهم الشخصيات القوية التي كانت تدير حركة الصراع ضد الإسلام العظيم، ونبيه الكريم، فكيف يمكن أن يجهل حملة لواء الشرك هذا الأمر، ويعرفه غيرهم؟!

ثانياً: لماذا عاداه في حياة أبي طالب عليه السلام، ثم عاد إلى حمايته ونصرته بعد وفاته؟!

أو لماذا لم يفعل أبو لهب مثل فعل أبي طالب عليه السلام؟!

ثالثاً: قد أسلفنا أن عبد المطلب لم يكن مشركاً، بل كان على دين الحنيفية مؤمناً صادق الإيمان.

 

سر افتعال الرواية

ولعل سر افتعال هذه الرواية هنا هو إظهار: أن حماية أبي طالب عليه السلام للرسول قد كانت بدافع العصبية والحمية القبلية، أو الحب الطبيعي.

ولكن أين كانت حمية وعصبية أبي لهب قبل هذا الوقت، وأين كان حبه الطبيعي لابن أخيه؟

ولاسيما حينما حصرت قريش الهاشميين في الشعب، وكادوا يهلكون جوعاً؟!

وأين ذهبت حميته بعد ذلك؟

وهو الذي كان يتتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله من مكان إلى مكان يؤذيه، ويصد الناس عنه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.