الأم النموذجية عبر التاريخ فاطمة الزهراء عليها السلام

فاطمة عليها السلام خير كلمة واسم يفتتح به الكلام، وبعدها تحتار العقول بِمَ تصفها أو ماذا تقول فيها، فتلجأ الى الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليصفها ويكنيها فهو من يعرفها، لنجده يقول فيها اشياء كثيرة. وتبقى كلماته بحقّها خالدة مدى العصور ومحيرة مر الازمان والدهور وكلّ لقب لها يشير الى معنى معين، ويفيد كرامة خاصة، ويحكي رواية لاهل الدراية.

ففي الحديث عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام ان فاطمة عليها السلام كانت تكنى ام ابيها. كنّاها بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما اشتهر بين العلماء. وقد اختلفوا في معنى هذه الكنية العظيمة، وذهبوا فيها مذاهب تشعّبت فيها آراء الفضلاء الصائبة، وتفرّقت انظار العلماء المستطابة. والملاحظ انّ الوجوه التي ذكرت وسنذكرها لهذه الكنية كلّها تصلح لأن تكون عليها السلام أم بعلها أيضاً وأم بنيها كذلك.

ولكن قبل ذكر الوجوه والمعاني الممكنة لهذه الكنية. نتعرّض لبيان معنى الأم، والاستعمالات الواردة فيه.

 

الأم لغة واستعمالا

الام في اللغة العربية تطلق ويراد بها معان متعددة قال في تاج العروس: الأم وقد تكسر عن سيبويه: الوالدة.

والأم المسكن.

وأم القرى: مكة زيدت شرفاً: لأنها قبلة جميع الناس يؤمّونها، أي: يقصدونها.

قال قتادة: أم الكتاب: أصله.

هكذا غيره في كتب اللغة وما يذكرونه ليس الا استعمالات العرب للكلمة. وقد جرت العادة على أن يذكروا اولا المعنى الحقيقي، او ما هو الاكثر استعمالاً، ثم يفرعون عليه باقي الاستعمالات المجازية.

 

الأم الحقيقية

ومن الواضح جدّاً ان فاطمة عليها السلام ليست أمّاً حقيقة للرسول بمعنى أنها ليست هي الوالدة له، وإنما هي أمّ ابنيها الحسن والحسين ريحانتي رسول الله عليهم السلام فليس المراد بام ابيها انها والدته، وهذا امر بديهي، ولذا علينا ان نتحرى الاستعمال المجازي المناسب (لأم ابيها) دون التورّط بمعارض ومن هنا تذكر عدّة وجوه لهذه التسمية، لكن معظمها لا يخلو من تكلف، ولذا نقتصر في هذا الصدد على ذكر الوجوه القريبة من الذوق العربي في هذه التسمية، والملاحظ انها كلها تصلح لأن يُطلق عليها أم بعلها وأم ابنيها ايضا:

 

1. شدة العلاقة بينهما والسكن اليها

فمن جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعاملها معاملة الولد أمه: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم يثني بفاطمة ثم يأتي بيوت أزواجه، وفي لفظ: ثم بدأ ببيت فاطمة، ثم اتى بيوت نسائه، وكان يقول فيها: فاطمة حوراء انسية فكلّما اشتقت الى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة.

وكـــــــــان يــــــــقـــــــــول: ان فاطمة بضعة مني، وهي نور عيني، وثمرة فؤادي يسوءني ماساءها، ويسرني ما سرها.

وهناك تعابير كثيرة منه في حقها، كلها تدلّ على شدّة تعلّقه بها، وعلى سكنه وهدوئه واطمئنانه كلما نظر الى وجهها الشريف.

ومن جهتها كانت عليها السلام تعامله معاملة الأم ولدها. والتاريخ يؤيد ذلك، والاخبار تعضده، ففي الاخبار الكثيرة انها كانت تحتضنه، وتضمد جروحه، وتمسح الدم عن جبهته، وتسكن آلامه تماماً كالأم المشفقة على ولدها، ففي البحار: فلما دنت فاطمة عليها السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأته قد شجّ في وجهه وأدمي فوه ادماء، صاحت وجعلت تمسح الدم.

ولا شك انها كانت تعامل ابنيها وبعلها بنفس هذه المعاملة، فهي تواسي عليا عليه السلام. وتضمّد جروحه وتسكن آلامه. كما أن الأئمة عليهم السلام كانوا يسكنون اليها ويستريحون بالنظر لها، فلذا هي بهذا المعنى ام بعلها وبنيها، كما هي أم ابيها.

 

2. فاطمة عليها السلام ثمرة شجرة النبوة

ففاطم حاصل عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدف درر العصمة ولآليها. وبعبارة أخرى؛ ان الولد هو المقصود للأب والأم وفاطمة الزهراء عليها السلام خاصة هي المقصود الاصلي والاصل الكلي من بين اولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فمعنى (أم أبيها) أن فاطمة عليها السلام اصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الولد الذي كان يقصده ويريده النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويريد نتائجها الكريمة وفوائدها العظيمة المترتبة عليها من جهة البنوة، ومن فضائلها النفسانية المطلوبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه يكون معنى (أم) أي القصد والاصل والمقصود والمراد. وهذا المعنى ينسجم مع رأي اللغويين، بل والمحدثين أيضاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنك مني وأنا منك وانت بضعة مني وروحي التي بين جنبي، فهي أصل وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومجمع انوار العترة الطاهرة، ومنبع أسرار الرسالة، وبهذا المعنى يصح ان نسمي فاطمة عليها السلام أم بعلها، وأم أبنائها ايضاً، فهي المقصود الاصلي ومستودع سر علي والأئمة من ولدها عليهم السلام ولولا علي لما كان لها كفؤ.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا الشجرة وفاطمة أصلها وعلي لقاحها والحسن والحسين ثمرها.

وفي الحديث عن سلام بن المستنير قال: سألت ابا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء قال: الشجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسبه ثابت في بني هاشم، وعنصر الشجرة فاطمة وفرع الشجرة علي أمير المؤمنين وأغصان الشجرة وثمرها الأئمة عليهم السلام.

 

3. تعبير دارج عن فرط المحبة

من الشائع على الألسن ان يخاطب الوالد ابنه ولاسيما ابنته بلغة الرأفة والرحمة، لذلك فإن التعبير بـ(أم ابيها) هو تعبير مجازي، يراد به التعبير عن شدّة المحبة والعطف، وعليه يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يخاطب ابنته فاطمة عليها السلام بهذه العبارة وكأنّه يقول بتعبيرنا اليوم: (يا أمي) ليحكي عن شدة حبه لابنته والذي يعضد هذا الوجه كل ما ورد عنه في حبها، سيما في مثل هذا السياق، كانت فاطمة تكنى ام ابيها، وكانت احب الناس الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا الاستعمال بمعنى شدة الحب لها، يصح إطلاقه على زوجها وابنيها لفرط حبهم لها عليها السلام فهي ايضاً أم بعلها وبنيها.

 

4. كرامة ومنزلة

ان الله عز وجل شرّف أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكناهن بأمهات المؤمنين، فصرن في معرض أن يخطر ببالهن انهن أفضل النساء، حتى من بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فلأجل ذلك كناها أبوها بـ(أم أبيها) صوناً لهذه الخواطر والوساوس، يعني يا نساء النبي ان كنتن امهات المؤمنين ففاطمة عليها السلام ام النبي وأم الرسول، أم ابيها، وبهذا الشرف الذي أعطاها إياه النبي، وهذه المنزلة تكون أماً لأمير المؤمنين وأماً أيضاً لولديها عليهما السلام ولجميع العالمين.

هذه بعض الوجوه المذكورة في معنى أم أبيها، وهناك وجوهٌ اخرى نعرض عنها اختصاراً بذكر أهمها، وبقليل من التدقيق نلاحظ أن هذه الوجوه كلها تصلح لأن تطلق على الزهراء عليها السلام تسمية أم بعلها وبنيها.

وهكذا كانت الزهراء عليها السلام الأم المثالية التي يهدأ بالنظر إليها غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتسكن آلامه والأم الرائدة التي يطمئن بكنفها زوجها، ولا تثقل همومه، والأم القدوة التي يترعرع في حجرها الحسنان عليهما السلام وتغذوهما بالأخلاق الحميدة والخصال الرفيعة والأم التي ينبع منها معين نور الأئمة وتتأصل الشجرة والأم التي يقتبس المؤمنون من سنا ضياها منارة الأمل في النجاة، فسلام الله عليها أماً وابنة وزوجاً ونبراسا للعالمين.