يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب

إنّ هذه الفقرة واردة في زيارة العسكريين عليهما السلام وزيارة الرضا عليه السلام أيضاً المروية عن أبي جعفر الجواد عليه السلام، والظاهر جريان ذلك في الحجة عجل الله فرجه وعليه السلام وإن كانت زياراته خالية منها إلا أن الروايات لا تخلو عن التنبيه عليه والإشارة بل بعضها نص فيه، منها ما في الكافي عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «يَا ثَابِتُ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ كَانَ وَقَّتَ هَذَا الْأَمْرَ فِي السَّبْعِينَ فَلَمَّا أَنْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَخَّرَهُ إِلَى أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ فَحَدَّثْنَاكُمْ فَأَذَعْتُمُ الْحَدِيثَ فَكَشَفْتُمْ قِنَاعَ السَّتْرِ وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتاً عِنْدَنَا وَيَمْحُو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ»، قَالَ: أَبُو حَمْزَةَ فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام فَقَالَ: «قَدْ كَانَ كَذَلِكَ».(الكافي:1/368)

وغيرها من الأخبار الظاهرة في أن ساعة ظهوره عليه السلام من العلم المكنون المخزون الذي فيه البداء يقدم ويؤخر كيف شاء الله، فيكون أمر البداء ثابتاً في الأئمة الستة الأخيرة من موسى إلى الحجة عجل الله فرجه وصلوات الله عليهم أجمعين، وإن اختلفت وجوهه فيهم عليهم السلام ولم يكن على وجه واحد.

أما البداء الذي وقع في شأن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام فيحتمل على وجهين:

الأول: وهو الذي ذكره جل من العلماء أن أكثر الأصحاب في زمن الصادق عليه السلام كانوا يظنون أن الإمامة والوصاية تنتقل إلى ابنه الأكبر إسماعيل لما يرون منه شدة حبه عليه السلام إياه وكان أكبر أولاده ذا جمال وحسن وكمال ولأمه فاطمة بنت الحسن بن علي بن الحسن عليهم السلام وبوجود هذه الخصال وغيرها زعموا أنه أولى بأمر الإمامة وشأن الولاية والوصاية، لاسيما كونه ابن حرة علوية فاطمية، ولعمري إنه لمزيد فخر وشرف فبدا لله فيه أن توفاه في حياة الصادق عليه السلام وكان فعل به بعد موته ما فعل من كشفه عن وجهه بعد تكفينه وتقبيله غير مرة إتمام للحجة أنه ميت لا غائب، وأن أمر الإمامة لله يجعله حيث يشاء ليس بمحبة مخلوق وهو به، وكل ذلك لئلا يفتتن الناس به عمن جعله الله ولياً وقيماً على خلقه وحافظاً لدينه، ومع هذا كله قد افتتن به وتاه عن سبيل هداه خلق كثير وقالوا إنّ الإمامة في ولده كل من خرج بالسيف {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}.(التوبة:115)

فاقتضت حكمته سبحانه موت إسماعيل رحمة الله عليه في حياة أبيه عليه السلام وأراد ذلك لمصلحة عامة رحمة للمؤمنين وإتماماً لكمال الحجة للظالمين فأظهر بذلك ما كان خفياً عندهم من إمامة موسى عليه السلام ووصايته وأثبته بعدما كان غير ثابت لديهم ومحا ما كان مثبتاً وظاهراً في نفوسهم من أمر إسماعيل، وتشير إليه روايات يمكن أن يستدل بها، منها ما روي في المجمع عن الصادق عليه السلام قال: «ما بدا لله في شيء كما بدا في إسماعيل ابني».(أسرار التوحيد:379)

وعن يونس بن يعقوب قال: أمرني أبو عبد الله عليه السلام أن آتي المفضل وأعزيه بإسماعيل وقال: «أَقْرِئِ الْمُفَضَّلَ السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ إِنَّا قَدْ أُصِبْنَا بِإِسْمَاعِيلَ فَصَبَرْنَا فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرْنَا إِنَّا أَرَدْنَا أَمْراً وَأَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمْراً فَسَلَّمْنَا لِأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».(الكافي:2/92)

وما رواه الميرزا في رجاله في ترجمة عبد الله بن شريك عن رجال الكشي عن عبد الله بن محمد قال: حدثني الحسن بن علي الوشا، عن أحمد بن عائد، عن أبي خديجة الجمال قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «إِنِّي سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِسْمَاعِيلَ أَنْ يُبْقِيَهُ بَعْدِي فَأَبَى، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَعْطَانِي فِيهِ مَنْزِلَةً أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْشُورٍ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَرِيكٍ الْعَامِرِيُّ وَفِيهِمْ صَاحِبُ الرَّايَة».(مختصر البصائر:115)

وفي الكافي عن إسحاق بن محمد عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي الحسن عليه السلام بعدما مضى ابنه أبو جعفر وإني لأفكر في نفسي أريد أن أقول كأنهما أعني أبا جعفر وأبا محمد عليهما السلام في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمد عليهما السلام، وأن قصتهما كقصتهما إذ كان أبو محمد المرجى بعد أبي جعفر، فأقبل علي أبو الحسن عليه السلام قبل أن أنطلق فقال: «نعم يا أبا هاشم، بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر عليهما السلام ما لم يكن يعرف له كما بدا له في موسى عليه السلام بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون، وأبو محمد ابني الخلف من بعدي عنده علم ما يحتاج إليه ومعه آلة الإمامة». (الكافي:1/327،ح 10)

وكان أبو جعفر اسمه محمد أصغر سناً من أخيه أبي محمد الحسن عليه السلام وكان يظن لهذا الأمر كإسماعيل فبدا لله فيه فأماته فمحا ما في نفوس بعض الناس من الظن وأثبت في أي محمد عليه السلام ما لم يكن يعرف له كما كشف عن حال موسى عليه السلام بمضي إسماعيل من إثبات إمامة الباقي بمضي الماضي كما يدل عليه ما فيه عن علي بن جعفر قال كنت حاضراً عند أبي الحسن عليه السلام لما توفي ابنه محمد فقال للحسن: «يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً».(الكافي:1/326،ح4)

 

ورواية أخرى مثله معنى بتفاوت يسير.

ولا يخفى ما في هذه الرواية من صراحتها فيما ذكر من معنى البداء أن الواقع في شأن موسى عليه السلام كشفه سبحانه عن حال موسى عليه السلام ما كان مستوراً لبعض من العباد وإيضاح إمامته، ورفع اشتباه المتوهمين أن لها أهلاً غيره عليه السلام، وكذلك في شأن سائر الأئمة الخمسة الأخيرة صلوات الله عليهم، فيكون ما وقع في إسماعيل رحمه الله من البداء موته قبل الصادق عليه السلام وعدم بقائه بعده، وقد سأل الله له ذلك ودعاه وهو السبب الأقوى لبقائه لكنه سبحانه أماته في حياته مع وجود السبب والمقتضي لبقائه لمانع أقوى منه وهو بقاء كثير ببقائه في الشبهة والحيرة عن طريق هداهم لعدم معرفتهم إمامهم وملجأهم، فاقتضت حكمته سبحانه إماتته إبلاغاً للحجة وإيضاحاً للمحجة لئلا يكون للناس حجة، ففيه مصلحة عامة وتشمله وجميع الأمة، أما صلاح الأمة فواضح وكذلك صلاح إسماعيل لئلا يغتر به الناس وأبدله سبحانه أن يكون أول منشور في ثلة من المؤمنين فينصر به الدين كما يدل عليه رواية الرجال عن أبي خديجة الجمال، فمقتضى موته أقوى من مقتضى بقائه كما أن مانع موته أقوى من مانع موته وهذا هو الذي في الرواية الثانية من قوله: «أردنا أمراً وأراد الله أمراً فسلمنا الأمر لله»، يعني أراد عليه السلام حياة إسماعيل وأراد سبحانه موته لمنافع شتى، وكذلك قوله في أول الروايات «ما بدا لله شيء كما بدا له في إسماعيل ابني» يعني أن البداء فيه إماتته قبله عليه السلام أعظم من سائر ما وقع فيه البداء إذ كان وقوعه بعد السؤال والدعاء له بالبقاء، ودعاء المعصوم عليه السلام لا يرد بل يستجاب، فصار بقاؤه بدعائه منبتاً مبرماً قبل أن يوجد له مانع يمنعه، فلما وجد ما هو أقوى منه مما ذكر من الحكمة والمصلحة العامة وأنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة أن لا يهلك أحداً من الأمة إلا بعد إقامة الحجة وإبانة الطريق {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}.(الأنفال:42)

محا ما أثبته بدعوة الإمام عليه السلام من بقائه وأثبت ما كان ممحواً بها فلأجل ذلك صار أعظم فافهم، ولا تتوهم أن دعوته عليه السلام قد ردت ومسألته ما استُجيبت حاشاهم بل أفعالهم مثل أقوالهم.

فكما إذا أخبروا عن شيء يكون ثم ما كان لمانع له من عالم الشهادة فقد صدقوا أنفسهم إذ كانوا أخبروا أيضاً بوجود المانع وتغييره، وإذا أخبروا فكان ما أخبروا فقد صدقوا أنفسهم، فكذلك دعاؤهم وسؤالهم عن الله سبحانه من غير تفاوت، لكن سر إخبارهم ودعائهم سيجيء إن شاء الله تعالى فانتظر حتى يأتي محله إذ إجماله يخل ولا يفيد والتفصيل عن مقتضى المقام بعيد.