لماذا لا يكون عند الشيعة كتاب يحتوي على الأحاديث الصحيحة فقط كما لأهل السنة

إنّ الجواب يتوقّف على فهم المرتكزات الأساسية التي ابتنى عليها التشيّع ـ الممثّل للسنّة النبوية ـ وفهم مرتكزات الأطروحة السنّية، وبالتالي نفهم الجواب على السؤال، وإليكم جزءاً يسيراً وخلاصة للجواب:

إنّ الشيعة ـ واقتداءً بأئمّتهم (عليهم السلام) الذين أسّسوا علم الدراية وعلم الرجال ـ عندهم باب الاجتهاد مفتوح، ولم يقف على عالم أو شخص، والأئمّة (عليهم السلام) بيّنوا الضوابط التي تؤخذ بها الرواية عند توفّرها، وترد عند عدم وجودها، كقول الإمام الصادق (عليه السلام): «وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (١)، وكقوله (عليه السلام) عند تعارض الروايات: «يؤخذ به ـ أي المجمع عليه ـ من حكمنا، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك» (٢)، وغير ذلك من الروايات التي أوضحت بأنّ هناك من يكذب على الأئمّة، وأنّ هناك من يدسّ ويزوّر .

فألّف علماء الشيعة ـ في الزمن القديم المتاخم لزمن الأئمّة (عليهم السلام)، وبعضهم في زمن الأئمّة ـ كتب الرجال لبيان الثقة من غيره، وبيان الرواة وأحوالهم .

وبما أنّ باب الاجتهاد مفتوح عند علماء الشيعة، والعالم الشيعي له رأيه في كلّ راوٍ وكلّ رواية، فكان هناك اختلاف في النظر والتوثيق والتضعيف، فقد يوثّق أحد العلماء راوياً معيّناً لأدلّة خاصّة عنده، بينما نرى عالماً آخر لا يوثّق هذا الراوي أو يتوقّف فيه لأدلّته الخاصّة، ومناقشته أدلّة من وثّقه، وهكذا إذا كثر العلماء تكثر الآراء وتختلف تبعاً لطبيعة الاجتهاد، الذي فتحه الأئمّة لعلماء الشيعة، الذين يتولّون الأُمور بعدهم .

فعلى ذلك، إذا أراد عالم من العلماء تأليف كتاب صحيح ـ كصحيح الكافي مثلاً ـ فلا يمكنه أن يلزم به علماء الشيعة الآخرين، لأنّ كلّ عالم له نظره الخاصّ، واجتهاده المبني على الأُصول والقواعد، التي قد يخالف فيها ذلك العالم، وبالتالي فما يراه ذلك العالم الذي ألّف صحيح الكافي صحيحاً لا يرى العالم الآخر صحّة كلّ ما فيه، بل يرى فيه بعض الروايات الضعاف، وترجع المسألة إلى عدم صحّة هذا الكتاب من أوّله إلى آخره عند العلماء، ولا يمكن إلزام العلماء بمبنى واحد، لأنّ معنى ذلك غلق باب الاجتهاد الذي فرغنا عن كونه لم يغلق .

أضف إلى ذلك: أنّ هناك روايات كثيرة صحيحة عند علماء الشيعة، وهي أكثر من روايات أهل السنّة، فهذا الكافي الذي يحتوي على أكثر من (١٦) ألف رواية، يصرّح العلماء بوجود روايات صحيحة فيه أكثر من اربعة آلاف رواية، وهذا الكافي لوحده، فما بالك بالكتب الروائية الأُخرى ـ كالاستبصار والتهذيب، ومن لا يحضره الفقيه، وغيرها من كتب الحديث ـ ؟!

وهناك من ألّف من العلماء كتباً لجمع الصحيح والحسن من الروايات، ككتاب «منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان» لابن الشهيد الثاني (قدس سره)، لكن يبقى أيضاً تحت نظر الفقيه الآخر، ومدى قبوله للروايات من حيث التصحيح والتضعيف .

وأمّا المنهج السنّي، فهو يحتاج إلى بيان كيفية بنائه، والأُسس التي سار عليها، والتي بعد معرفتها نرى المشاكل التي واجهها علم الحديث عندهم، بعد منع أبي بكر وعمر تدوين الحديث (٣) .

ثمّ مجيء دولة بني أُمية وتدوين الحديث، إلى أن ظهرت آلاف الكتب التي تحدّثت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، إلى أن ظهر لنا البخاري المولود سنة مائة وأربع وتسعين للهجرة، والذي شرع في تأليف صحيحه، وهو في سنّ السادسة عشرة(٤).

ثمّ جاء القوم بعده وقلّدوه فيما قاله: من أنّ هذا الكتاب كلّه صحيح من أوّله إلى آخره، وكذلك ألّف تلميذه مسلم بن الحجّاج صحيحه، مدّعياً نفس دعواه، وجاء من بعدهم معتمداً على كلامهم – والسياسة لها دخل أيضاً – بأنّ كلّ ما فيهما صحيح، فلذلك انسدّ باب الاجتهاد في روايات صحيح مسلم والبخاري من حيث توثيق الرواة، ومن حيث الرواية، فكلّ رواية وردت فيهما فهي مقبولة.

وهذه هي النكتة المائزة، فإذا ألّف مسلم والبخاري كتابيهما، ومن يأتي بعدهما لا يناقشهما فيهما، فينتج أنّهما صحيحان، لا غبار عليهما، وهذا هو غلق لسنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) الآمرة بالنظر في الحديث، وتمييز الصحيح من السقيم .

وليس ذلك أمراً إيجابياً للفكر السنّي كما قد يتصوّر، بل إذا أردنا التعمّق أكثر وأكثر، ينتج لنا أنّ المدرسة السنّية أضفت العصمة على كتابي مسلم والبخاري، ورفضت سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام).
مجلة الوارث 76
الكتب الستة

وهناك ملحوظة لابدّ من أن نلتفت إليها، وهي: أنّ القوم وإن قالوا بصحّة روايات البخاري ومسلم، لكنّهم في مقام العمل لا يعملون بكلّ ما في البخاري ومسلم، لوجود التعارض والتضارب بين بعض الروايات التي ينقلها البخاري نفسه، أو مسلم نفسه، كروايات الرضعات الخمس الواردة في صحيح مسلم (٥) .

وكروايات تزوّج النبيّ (صلى الله عليه وآله) ميمونة وهو محرم، مع أنّها نفسها تنكر ذلك، ومسلم (٦) يأتي برواية يجمع فيها بين أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) تزوّجها وهو محرم، وبين أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) تزوّجها وهو في حلّ، وفي نفس الجزء (٧) ينقل الرواية عن ميمونة زوجة النبيّ (صلى الله عليه وآله) تقول: تزوّجني وهو حلال .

وبالتالي لابدّ أن تكون إحدى الروايات مخالفة للواقع، لأنّه لا يمكن أن نصدّقهما معاً، فأين الصحّة المدّعاة لمسلم والبخاري ؟! وهناك شواهد كثيرة أغمضنا عن نقلها، تستطيع مراجعتها .

والخلاصة: إنّ دعوى أنّ كلّ ما في البخاري ومسلم صحيح، لا يعمل بها أهل السنّة أنفسهم، لوضوح وجود التضارب بين بعض الروايات التي في نفس البخاري، وبعض الروايات التي في نفس مسلم . وهناك تفصيلات أُخرى يطول الوقت بذكرها، تركناها اختصاراً .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) المحاسن ١ / ٢٢١، الكافي ١ / ٦٩ .

(٢) الكافي ١ / ٦٨ .

(٣) سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .

(٤) تاريخ بغداد ٢ / ١٤ .

(٥) صحيح مسلم ٤ / ١٦٧ .

(٦) المصدر السابق ٤ / ١٣٧ .

(٧) المصدر السابق ٤ / ١٣٨ .