أمن الجن إبليس أم إنّه ملاك؟

هناك قولان للمفسرين حول كون الشيطان من الجن أم انّه ملك واشتهر عند الامامية انه من الجنّ، وقد ذكر الشيخ المفيد ومؤيدوه (رضوان الله عليهم) عدداً من الأدلة على ذلك وهي:

أ: تصريح القرآن {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}، (الكهف/50) إذ لا شك بأنّ (كان) هنا ليست بمعنى (صار) كي يقال بانها تدل فقط على انّ الشيطان وبعد تمرده على الأمر بالسجود صار من طائفة الجن، لأنّ معصية الله والتمرد على أوامره لا تغيّر ماهية العاصي والمخالف من الملك إلى الجنّ، حيث انّ هناك اختلافا ماهويا ونوعياً بين الملك والجنّ، ومجرد وجود الجامع الانتزاعي بينهما أيضآ لا يستلزم حصول الوحدة النوعية بينهما.

ب: إنّ الله سبحانه جعل لنوع الجن احكاماً لم يجعل أيّاً منها لنوع الملائكة، فمثلاً أنّه تعالى ساواهم واردفهم مع الإنسان في آيات مثل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات/56)، وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. (الرحمن/13)

ومثل اتصافهم بالتناسل والتوالد وهو ما يظهر من آيات مثل قوله تعالى: {…أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ…}، ومثل تقسيم الجنّ إلى طائفتين، مؤمنة وكافرة حسبما جاء في سورة الجنّ. ومثل هذه الأحكام والخصائص لا توجد عند الملائكة. وعليه فلا يمكن عدّ الجن قسماً أو صنفاً من أقسام وأصناف الملائكة.

ج: هناك مميزات خاصة بالملائكة، ولا توجد عند الجن، كما في صفة العصمة التي تستفاد من قوله تعالى {…لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، لأنّه نظراً إلى معصية إبليس، وعلى أساس الشكل الأول من القياس نستنتج أنّه ليس من الملائكة وذلك كما يلي: إبليس عصى، وكل من يعصي فليس ملكاً، إذن إبليس ليس ملكاً. كما ويمكن استخراج هذه النتيجة على أساس الشكل الثاني من القياس ايضأ وذلك بأن يقال: إبليس عصى، وكل ملك لا يعصي، إذن إبليس ليس ملكاً.

وكذلك صفة وميزة الرسالة التي ذكرت في الآية الكريمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا…} (ونظراً إلى الألف واللام في الملائكة) فهي تتعلق بجميع الملائكة، ومن الواضح أنّ مقام الرسالة لا يتناسب مع المعصية.

هذه الوجوه التي تنفي كون إبليس ملكاً نقلها أيضأ الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه)، ثم أجاب عليها بوجوه لا تتناسب مع المقام والمكانة العالية لهذا المفسر الكبير.

فهو يقول حول الوجه الأول انّ (كان) بمعنى (صار) (وهذا يدلّ على انّ ابليس كان من الملائكة سابقآ) وعلى فرض انّ (كان) قد استعملت بمعناها الأصلي فانّ كون ابليس من الجنّ لا ينافي كونه ملكاً، لانّه قيل: انّ الجنّ يُعَدّون طائفة من طوائف الملائكة إذ إنّهم مثل خزنة الجنّة أو انّ غطاءً وجُنّة تحجبهم عن رؤية العيون، ولذلك أطلق عليهم اسم الجن. وهذا الكلام غير مقبول لما تقدم من انّ هناك اختلافاً ماهويا بين الجنّ والملائكة.

وحول الوجه الثاني يقول: أولاً، انّ امتلاك إبليس للذرية قد ثبت بالخبر الواحد، وعلى فرض صحة هذا الطريق (هذا الخبر)، فهو لا يمنع من أن الله قد اختصَّ أحد الملائكة، أي إبليس، بشهوة النكاح، لأجل تجديد التكليف، ولا وجه لاستبعاد ذلك.

وجواب النقد المذكور: انّ ما دل على امتلاك إبليس للذرية ليس هو الرواية فقط، بل انّ الذي يدل على ذلك، بالدرجة الأولى، هو الآية الكريمة {..أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ…}، امّا اتّصاف أحد الملائكة بشهوة النكاح دون أن يتصف سائر الملائكة ولو بدرجة ضعيفة منها فانّه لا يتناسب مع الوحدة الماهوية بين الملائكة، أي انّ امتلاك الذرية نفسه، دليل على انّ إبليس يتميز بماهية مستقلة.

وحول الوجه الثالث يقول في عصمة الملائكة: انّ ما يدلّ على عصمة الملائكة يتعلق بخزنة النار ولا علاقة له بنوع الملائكة، لانّ الله سبحانه يقول في أول الآية {..عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ}، ثم يقول: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ}.

وحول رسالة الملائكة يقول: انّ عموم آية {…جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا…} تخصصه الآية { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا…} (الحج/75)، لان كلمة (من) تقتضي التبعيض، أي انّ بعض الملائكة، لا جميعهم. وعليه فإنّ قضية رسالة الملائكة سوف تكون على نحو الموجبة الجزئية، لا الموجبة الكلية، والقياس الفاقد للقضية الكلية ليس منتجاً.

وجواب القسم الأول من هذا الوجه هو انّه إذا سلّمنا كون الآية الكريمة {…عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} تدل فقط على عصمة خزنة جهنم، فانّ الملائكة المشرفين على الجنّة الحسّية وما فوقها، سوف يكونون معصومين حتماً، لانّ درجتهم الوجودية أعلى من خزنة جهنم، ومن جهة أخرى فان الآية الكريمة {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}، كليّة وشاملة لجميع الملائكة.

ويمكن النقض على هذه الكليّة بقصّة (فطرس)، لكن هذه القصة، لا سندها معتبر، ولا دلالتها قويّة، لانّ هذا النحو من الروايات على فرض صحتها، فهي غير معتبرة في المسائل العقائدية، وإذا كانت حجة في نفسها أيضآ فيجب عرضها على القرآن كسائر الروايات غير القطعية، وفي حال مخالفتها مع الاصول الكليّة للقرآن، فانّها تترك جانباً، ويوكل علمها إلى أهله.

وجواب القسم الثاني، اي الآية الكريمة {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ…} هو كما يلي:

أ: إنّ تكرار كلمة (من) في (ومن الناس) يؤدّي إلى وجود احتمال إنّ (من) الأولى نشئوية والثانية تبعيضية، ويكون معنى الآية إنّ الله يصطفي جنس الملائكة للرسالة، ولكنه يختار البعض من الناس لهذا المقام.

ويمكن الاشكال على هذا الكلام بانّه أولاً، ما الدليل على أن (من) الأولى نشئوية و(من) الثانية تبعيضية؟ ثانيآ، أن كون (من) نشئوية يدل فقط على أن الله يجتبي من جنس الملائكة رسلأ، ولا يدل على انّ جميع الملائكة يكونون رسلاً، بل انّ لازم الاصطفاء والاجتباء هو ما ذكرناه.

والجواب على ذلك اولاً، أنّ تكرر كلمة (من) دلالة على اختلاف معانيها أو احتمال ذلك والاّ فلا وجه للتكرار. ثانيا، انّ الكلام كان منصباً على نقد – كلام الشيخ الطوسي رحمه الله حيث استنبط التبعيض من الآية المذكورة ولم يكن الكلام مسوقاً لاثبات الإيجاب الكليّ. والمقصود انّه من المحتمل أنّ الآية المذكورة لا تدل على التبعيض لا انّ الآية تدلّ على الكليّة.

ثالثاً، انّ اجتباء جميع الملائكة من بين المخلوقين لا ينافي لازم الاصطفاء، لانّ جميع الملائكة جزء من المخلوقين وبعض منهم.

ب: انّ الرسالة التي ذُكرت في الآية الكريمة {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ…}، هي الرسالة في الوحي وإبلاغه، واختصاصها ببعض الملائكة لا ينافي مطلق الرسالة المذكورة في الآية الكريمة {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا}، التي تدل على أنّ جميع الملائكة رسل ويتصفون بمطلق الرسالة؛ سواء كانوا كإسرافيل (سلام الله عليه) والملائكة المنضوين تحت امرته، والذي هو رسول في شؤون الحياة، أو كميكائيل (سلام الله عليه) والمأمورين بأمره، وهو الموكّل بالرزق أو كعزرائيل (سلام الله عليه) والمبعوثين الخاضعين لأمره والذين بيدهم مهمة قبض الأرواح والذين أشارت إليهم الآية الكريمة {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أو مثل الكرام الكاتبين المسؤولين عن كتابة عقائد وأخلاق وأعمال الناس، أو مثل جبرائيل والملائكة التابعين لأمره والذين عليهم مهمة إبلاغ الوحي، وقد ذكر الله سبحانه هذه الطائفة الأخيرة بنحو خاص من التجليل والثناء فقال {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} في حين أنّ الآية الأولى تتعلق فقط بالنوع الأخير من الرسالة، إذن فلا تنافي بين الآيتين، حتى تكون إحداهما مخصوصة بالأخرى. نعم يجب الالتزام بانّ مطلق الرسالة الإلهية حتى وان كانت في غير إبلاغ الوحي فإنها مستلزمة لعصمة الرسول، والاّ فانّه لا يمكن اثبات العصمة العامّة للملائكة من الآية الكريمة {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا}.