الخلافة الإلهية والخلافة الشيطانية

على الرغم من انّ فطرة الإنسان تسوقه نحو الخلافة الإلهية الا انّ طبيعة النزوع إلى الحس وحب الراحة والرفاهية تجعله يتهرّب ويبتعد عن جهة خلافة الله ويميل نحو جهة خلافة الشيطان.

فإذا ما تزّين بالحقّ والصدق والصلاح بطاعته أوامر العقل والوحي، فإنّه ينال مقام خليفة الله، وإذا ما تبع وسوسة إبليس واغواءه فتلوّث وتدنّس بالباطل والكذب والقبيح فانّه يتسافل إلى مقام حقير ذليل ليمسي خليفة الشيطان.

ويصنّف القرآن الكريم هاتين الطائفتين إلى {حِزْبُ اللَّهِ} (المجادلة/22)، و {حِزْبُ الشَّيْطَانِ}.(المجادلة/19)

وكما انّ خليفة الله يبلغ قرب النوافل في ظلّ العناية الإلهية، ويتكفّل الله سبحانه – في مقام الفعل – نشاط أعضائه وقواه الادراكيّة والتحريكيّة، فيظهر مثلاً في قوّته الباصرة فهو ينظر بعين إلهية وهكذا…، وخليفة إبليس أيضآ بسبب غبار الغواية وظلمات الوسوسة يتقرّب إليه ويدنو منه بحيث يتكفّل إبليس بجميع مظاهره العلمية والعملية.

ويمكن أن نرى مثالاً لهذا الاستخلاف الكاذب والخلافة الباطلة في حديث نوراني لواحد من أعظم الخلفاء الإلهيين ألا وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث يقول: «اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلَاكاً وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً فَبَاضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ وَدَبَ‏ وَدَرَجَ‏ فِي حُجُورِهِمْ فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ وَزَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ وَنَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِه‏». (نهج البلاغة/57، من خطبة له يذم فيها أتباع الشيطان)

وخلاصة هذا الكلام العلويّ هو تسلّل إبليس إلى حريم القلب بحيث يبني العشّ فيه ويقوم بالتكاثر الحرام وإلقاء البيوض فيه وتربيتها لتفقس فراخاً شيطانيّة في قلوب المغرورين والمخدوعين فتُمكّن إبليس من امتطائهم واستعبادهم والاستبداد بهم حتى يصبح هؤلاء عين الشيطان ولسانه فيقوم إبليس بالنظر بأعينهم والتكلم بألسنة المغرورين، وهذه هي الإستنابة، التي معناها ان يقوم الشخص بأعماله بالتسبيب، وبالنحو الذي يكون فيه إبليس احيانآ عين وأذن ولسان الإنسان المفسد بحيث انّه يبصر ويسمع ويتكلم بوسائل الشيطان، وتارة تكون القوى الادراكيّة والتحريكيّة للفاسق تحت تصرّف إبليس كي يقوم عن طريقها ببثّ ما لديه من أقاويل كاذبة وباطلة وقبيحة إلى أتباعه ومستمعيه.

وفي الحالين فانّ مثل هذا المفسد المبتلى بالبطلان والكذب والقبح قد تدنّس بخلافة إبليس، وتبلور جميع ما لديه من جزم علمي وعزم عمليّ طبقاً لفكر وهدف المستخلف عنه أي الشيطان {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}. (الإسراء/ 84)

وكما انّ الخلافة الالهيّة شجرة طوبى تؤتي ثمراً طيّباً، فانّ الخلافة الشيطانية شجرة خبيثة تنتج تمراً خبيثآ، لأنّ خبث الثمار نتيجة حتميّة لخبث الشجر، كما أنّ طيب الثمرة نتيجة قطعيّة لطهارة الشجرة.

وعندما يأتي فرد متهوّر فيوجّه إلى الإمام على بن أبي طالب عليه السلام سؤالاً غير مناسب فانّه يجيبه عليه السلام فيقول: «…لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِك» (نهج البلاغة/306)، أي إن المتكلّم بهذا الكلام الباطل هو الشيطان ولكنّه تحدّث بلسانك، وهذا العمل التسبيبيّ يرجع إلى استخلاف واستنابة الشيطان، لانّ النيابة والخلافة تحصل تارة بأن يكون الشيطان مجرى واداة وواسطة لعمل المفسد، واخرى بان يكون المفسد طريقاً لتحقيق أهداف إبليس، والتغاير في العنوان والاختلاف في التعبير لا دخل له في اصل المعنى، وإذا كان القرآن الكريم قد وصف بعض الغاوين والمنحرفين بأنهم: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ}، فلعلّ ذلك بسبب أنّ الارتباط الخاص بين الخليفة والمستخلف عنه يجعله ينسب إلى المستخلف عنه.

أعاذنا الله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا وجعل خاتمة أمورنا خيراً يرضاه ويُرضي خلفاءه.

 

طريق الخلافة عن المعصومين عليهم السلام

انّ درجات كمال الإنسان الكامل ومقاماته من ناحية الموهبة والكسب ليست متساوية، لان بعضها يحصل فقط عن طريق الموهبة الإلهية ولا يأتي عن طريق الاكتساب ابدآ كالنبوّة التشريعية والرسالة والإمامة حسب قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الذي يدل على أن بلوغ هذا المقام التشريعيّ غير ممكن إلاّ بالموهبة الإلهية، ولا أحد يقوى على كسب هذا المقام عن طريق تحصيل العلم وتهذيب النفس.

وبعضها فضلاً عن حصوله بالموهبة الإلهية، فانّه يأتي أيضاً عن طريق التحصيل والكسب الاختياريّ. ويعتمد هذا النحو من الكمال الاكتسابي في شدّته وضعفه على مقدار العمل الصالح ودرجة الاخلاص فيه أي بانضمام الحُسن الفعليّ إلى الحُسن الفاعلي.

والخلافة عن المعصومين وبلوغ الأفراد الصالحين درجة المظهريّة لظهور انواع كمال تلك الذوات المقدّسة هي من سنخ الكمالات الكسبية، أي انّه يمكن عن طريق تحصيل العلوم الإلهيّة التي تلقّاها أولئك الطيّبون الأطهار من الله وعملوا بها وقاموا بتعليمها وتبليغها، وبواسطة تذكية العقل النظريّ وتزكية العقل العمليّ والتضحية بالنفس بما يتناسب مع مستواه، أن يكون الإنسان نائباً وخليفة عن تلك الذوات المقدسّة فينشر ويبلّغ – نيابة عنهم – شؤونهم العلميّة والعمليّة في ظلّ الجهاد الأصغر والأوسط والأكبر وفي ضوء الفقه والاجتهاد الأصغر والأوسط والأكبر.

ان الطرق الابتدائية والتمارين الخفيفة والقصيرة فيها تبدأ من النيابة عن تلك الذوات النورانيّة في العبادات والأعمال القربيّة التي يشترط فيها أوّلاً: صحّتها، ثانياً: كونها قابلة للنيابة عنهم، وثالثاً: ثبوت صحّة النيابة فيها عن المعصومين عليهم السلام، وبعد ذلك تظهر صبغة وآثار الخلافة عنهم تدريجياً، فيجد الإنسان المتحلّي بالتقوى والمتخلّي عن الهوى والمتّصف بالعلم والعدل، نفسه نائباً عنهم.

ومن الممكن أن يبدأ السالك المشتاق إلى النيابة – لأجل بلوغ المقام الشامخ لخلافة المعصوم – من اهداء الثواب، لا النيابة، وبعد مدّة ينتقل من اهداء الثواب إلى النيابة ويستمر في التقدّم على هذا المنوال.

ويمكن ان نرى مثالاً على هذا التمرين العملي في النيابة عن المعصومين عليهم السلام في طواف الكعبة. فقد روى علي بن مهزيار عن موسى بن القاسم انه قال: – قلت لأبي جعفر الثاني (الإمام محمد بن علي الجواد): قد اردت أن اطوف عنك وعن أبيك، فقيل لي: «انّ الأوصياء لا يطاف عنهم»، فقال: «بلى، طف ما أمكنك، فانّ ذلك جائز».

ثمّ قلت له بعد ذلك بثلاث سنين: انّي كنت استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك، فأذنت لي في ذلك فطفت عنكما ما شاء الله، وثمّ وقع في قلبي شيء فعملت به، قال: «وما هو؟»، قلت: طفت يوماً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ثلاث مرات: «صلّى الله على رسول الله»، ثمّ اليوم الثاني عن أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ طفت اليوم الثالث عن الحسن عليه السلام، ثم طفت اليوم الرابع عن الحسين عليه السلام، والخامس عن علي بن الحسين.، واليوم السادس عن ابي جعفر محمد بن علي عليه السلام، واليوم السابع عن جعفر بن محمد عليه السلام، واليوم الثامن عن ابيك موسى عليه السلام، واليوم التاسع عن ابيك علي عليه السلام، واليوم العاشر عنك يا سيدي، وهؤلاء الذين أدين الله بولايتهم، فقال: «اذن والله تدين الله بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره»، فقلت: وربّما طفت عن أمّك فاطمة عليها، وربما لم أطف، فقال: «استكثر من هذا، فانّه أفضل ما أنت عامله إن شاء الله».

والنيابة عن المعصوم عليه السلام في الطواف مذكورة أيضاً في مواضع اخرى، كما انّ النيابة عن الإمام في الحج، والعمرة وعتق الرقبة ايضاً كالنيابة عنه في الطواف مشروعة بل هي من الأمور التي ورد الحثّ عليها في كتب الروايات، ولا فرق بين المعصوم الحيّ والمعصوم الراحل في هذا المجال.

وانّ صحابة الأئمّة الأطهار كانوا يبادرون إلى ذلك العمل الراجح في حضور الأئمّة، فكان ذلك يلقى ترحيباً منهم.

وخلاصة القول هي انّ بلوغ المقام السامي للخلافة الإلهيّة بحاجة إلى تمارين كثيرة تبدأ من اهداء الثواب والنيابة التبرعيّة، وتتصاعد إلى المراحل العليا حيث العقبات الكؤودة الشديدة في الإخلاص أربعين يوماً وأمثالها، هنالك يبدأ الاستعداد لظهور فيض الخلافة وتفتّح ازهار فوز الولاية.

عند ذلك يختار المبدأ الفاعليّ طبقاً لمشيئته الحكيمة من يحبّه ويكرمه فيجعله خليفةً للمعصوم.