دور الامام علي عليه السلام في حفظ القرآن وتفسيره

لأهلِ البيت، آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) دَورٌ خَطِير في مُختلف شؤون القرآن الكريم، في تفسيره وتأويله، وتبيين معانيه، والإحاطة بمبانيه… كَدَورِهم في حِفظه وضَبطه وحِراسته عن الضياع والتغيير طول عمر الإسلام.

وقد كان الإمام عليّ (عليه السلام) رأسَ كَتَبَة الوحي، وأجْمَعهم للقرآن، وأعرَفهم بالتنزيل والتأويل، وأعلم الصحابة بمعاني القرآن والإحاطة بمَقاصِده ومَرامِيه، وأحرصهم على حِفظه وحِراسته، شهد بذلك التأريخ وكُتُب الحديث.

كان (عليه السلام) مِثل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ومَثَله الظاهر، بل ونَفْسُه الكريمة، المتمثّل فيها شخصيّة الرسول الكاملة، سوى أنّه ليس بنبيّ… وقد قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّكَ تَسْمَع ما أسْمَع، وتَرى ما أرَى، إلاّ أنّكَ لَسْتَ بِنبيّ…».

ومعنى ذلك أنّه (عليه السلام) كان له ذلك الحسّ المُرهف الرقيق الذي كان يؤهّله للاستماع إلى الملأ الأعلى كما في الأنبياء (عليهم السلام).

 

الائمة عليهم السلام ورثة علم الانبياء

قال الإمام أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام): «إنّ العِلم الذي نَزَل مع آدم (عليه السلام) لم يُرفع، والعِلم يُتَوارث»، وكان عليّ (عليه السلام) عالم هذهِ الأمّة، وإنّه لم يهلك منّا عالِمٌ قطّ إلاّ خَلَفه مِن أهله مَن عَلِم مثل عِلْمِه أو ما شاء الله…).

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّا – أهلَ البيت – شجرةُ النُبوّة، ومَوضِع الرسالة، ومُختلَف الملائكة، وبيتُ الرحمة، ومَعدِن العِلم…».(الكافي:1/221-222)

نعم، إنّهم (عليهم السلام) فُروع تلك الشجرة الطيّبة التي أصلُها ثابت – هو مقام النبوّة وموضع الرسالة… – وفَرعها لا يزال يَتَصَاعد في السماء، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، تُؤتي أُكُلها كلّ حين بإذن ربّها؛ يؤتي الحكمة مَن يشاء، ومُن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً… .

 

الامام علي أعْلَم الأُمّة بالقرآن تنزيله وتأويله

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّ لعليّ عِلْماً بكتاب الله وسنّتي ليس لأحدٍ مِن أمّتي، يَعْلَم جميع عِلمي؛ إنّ الله علّمني عِلماً لا يَعلَمُه غيري، وأمرني أنْ أعلّمه عليّا ففعلتُ…، وإنّ الله علّمه الحكمة وفَصْل الخطاب…».(كتاب سُليم بن قيس:71)

ومِن ثمّ كان باب علم النبيّ ومفاض حكمته. (مستدرك الحاكم:3/124)

وقد علّمه ألفَ بابٍ مِن العلم ينفتح مِن كلّ باب ألف باب.(بحار الأنوار:89/104)

قال (عليه السلام): «وليس كلّ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يسأله فَيَفْهَم، وكان منهم مَن يسأله ولا يستفهم…، وكنت أدخل عليه كلّ يوم دخلة، فيخليني فيها أدور معه حيث دار.

وقد علم أصحاب رسول الله أنّه لم يكن يصنع ذلك بأحدٍ غيري…؛ إذا أسأله أجابني، وإذا سكتُّ أو نفدَت مسائلي ابتدأني، فما نَزَلَت عليه آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها علَيّ، فكتبْتُها بخطّي، ودعا الله أنْ يفهمني إيّاها ويحفّظني؛ فما نسيت آية من كتاب الله مُنذ حفظتها وعلّمني تأويلها، فحفظته وأملاه عليّ فكتبته…؛ ثمّ وضَع يده على صدري ودعا الله أنْ يملأ قلبي علماً وفهماً وفقهاً وحكماً ونوراً، وأنْ يعلّمني فلا أجهل، وأنْ يحفّظني فلا أنسى…».(كتاب سُليم:106)

إذن، فلا غرو أنْ يكون (عليه السلام) أعْلَم الأُمّة بالقرآن تنزيله وتأويله… .

 

هل استفادت الامة من علم الامام علي بالقرآن

أخرج ابن عساكر في تأريخه بالإسناد إلى أبي الطُفَيل قال: سَمِعْت عليّاً (عليه السلام) وهو يَخطب الناس، فقال: «يا أيها الناس! سلوني؛ فإنّكم لا تجدون أحداً بعدي هو أعلم بما بين اللّوحين منّي، فسلوني..».

وقد عقد ابن عساكر باباً ذَكَر فيه أنّه لم يقل أحدٌ على المنبر سلوني عن بين اللّوحين… إلاّ عليّ بن أبي طالب. (تأريخ دمشق، ترجمة الإمام أمير المؤمنين:3/22-25، ح1040)

والمراد بما بين اللّوحين ما بين دفّتيّ المصحف، كما في رواية أُخرى عنه قال: أقبل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ذات يوم حتّى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «يا أيّها الناس! سلوني قبل أنْ تفقدوني، فو الله ما بين لوحيّ المصحف آية تخفى عليّ، فيما أُنزلت ولا أين نزلت ولا ما عُنِي بها…». (تاريخ دمشق:3/20، ح1036)

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «سلوني قبل أنْ تفقدوني، فو الله ما بين لوحيّ المصحف آية تخفى عليّ، فيما أُنزلت ولا أين نزلت ولا ما عُنِي بها».

قال سُلَيم بن قيس الهلالي: جَلست إلى عليّ (عليه السلام) بالكوفة في المسجد والناس حوله، فقال: (سلوني قبل أنْ تفقدوني، سلوني عن كتاب الله، فو الله ما نزلت آية مِن كتاب الله إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعلّمني تأويلها…».

فقال ابن الكوّا: فما كان ينزل عليه وأنت غائب؟ قال عليه السلام: «بلى، يحفظ عليّ ما غِبت عنه، فإذا قدِمت عليه قال لي: يا عليّ! أَنزل الله بعدَك كذا وكذا فيُقرئُنيه، وتأويله كذا وكذا فيُعلّمنيه…». (كتاب سُليم:212-214).

فقد كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يحفظ عليه (عليه السلام) ما فاته من نزول القرآن فيقرئه إيّاها ويعلّمه تأويلها…؛ الأمر الذي يُنبئك عن مبلغ حرص النبيّ على تربية عليّ وتعليمه الكتاب والحكمة، ممّا لم يحظَ بهِ غيره من الأصحاب…، ومن ثمّ كان أقرأ أصحاب النبيّ وأعلمهم بالتنزيل والتأويل، وأصبح مرجع الصحابة، سَواء على عهده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أم بعد وفاته.
 

عند الامام علي عليه السلام علم الظاهر والباطن

يُحدّث أبو بكر بن عيّاش عن ابن مسعود أنّ رجُلَين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قرءا آياً مِن سورة الأحقاف، فاختلفا في القراءة…، قال: فذَهَبْتُ بهما إلى النبيّ، فغضِب، وعليّ عنده…، فقال عليّ: «رسول الله يأمركم أنْ تقرءُوا كما عُلّمتم…». (المناقب لابن شهر آشوب:2/42)

وعن زيد بن أرقم قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأُبَي بن كعب، فاختلفت قراءتهم بقراءة أيّهم آخذ؟ قال: فسَكَتَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليٌّ (عليه السلام) إلى جَنبه، فقال عليّ (عليه السلام): «ليقرأ كلّ إنسان كما عُلّم، كلّ حسن جميل». (تفسير الطبري:1/10)

وفي حديث عبد الله بن مسعود: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أسرّ إلى عليّ (عليه السلام)، فقال عليُّ: «إنّ رسول الله يأمركم أنْ يقرأ كلّ رجلٍ منكم كما عُلّم…»، قال: فانطلقنا وكلّ رجل منّا يقرأ حروفاً لا يقرؤها صاحبه…، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. (مستدرك الحاكم:2/223-224)

وفي رواية أبي جعفر الطَبَرَي بإسناده عن زرّ بن حبيش، عن ابن مسعود، قال: تمارينا في سورةٍ من القرآن…، فانطلقنا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فوجدنا عليّاً يناجيه…، فقلنا: إنّا اختلفنا في القراءة…، فاحمرّ وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال: «إنّما هلَك مَن كان قبلكم باختلافهم بينهم…»، ثمّ أسرّ إلى عليّ شيئاً، فقال لنا عليّ: «إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يأمركم أنْ تقرؤوا كما عُلّمتم…». (تفسير الطبري:1/12؛ جامع الأبطحي:1/279).

الأمر الذي يدلّك على مدى قُرب منزلة عليّ (عليه السلام) مِن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان موضعَ نجواه، ولسانَه الناطق بعلمه وبابَ حكمته… وهكذا شَهِد كِبار الصحابة شهادتهم بشأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان الرجل الأوّل في العهد الأوّل بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان موضع سرّه وعيبة علمه، كان أقرأهم لكتاب الله، وأحفظهم لآياته الكريمة، وأعلمهم بتفسيره وتأويله…).

فقد أخرج ابن عساكر بإسناده إلى شقيق، عن عبد الله بن مسعود، قال: (إنّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلاّ له ظهر وبطن، وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر والباطن…).

وأخرج عن عبيدة السلماني، قال: (قال عبد الله بن مسعود: لو أعلم أحداً أعلمُ بكتاب الله منّي تبلغه المطايا…، فقال له رجل: فأين أنت عن عليّ؟ قال: به بدأت، إنّي قرأت عليه).

وعن زاذان عن ابن مسعود، قال: (قرأت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تسعين سورة، وختمت القرآن على خير الناس بعده، فقيل له: مَن هو؟ قال: عليّ بن أبي طالب). (تأريخ دمشق، ترجمة الإمام أمير المؤمنين:3/25-26، ح1048، وح1409 وح1051)

وأخرج أبو جعفر الطوسي عنه، قال: (قرأت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبعين سورة من القرآن، أخذتها مِن فِيه…، وقرأت سائر القرآن على خير هذه الأمّة وأقضاهم بعد نبيّهم، عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه). (أمالي الطوسي:2/219)

وإذ ما عرفنا أنّ السِّوَر المكّية لا تعدو ستّاً وثمانين سورة، نعرف الوقت الذي بدأ ابن مسعود في تعلّم القرآن مِن عليّ (عليه السلام) كان وقتاً مبكّراً يوم كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمكّة قُبيل هجرته إلى المدينة أو بعدها بقليل… وهو وقت مبكّر جدّاً… (راجع الجزء الأوّل من التمهيد:104)