احتجاج الإمام الصادق عليه السلام على الصوفية

روى الحسن بن علي بن شعبة الحلبي في تحف العقول خبر دخول سفيان الثوري على الصادق ( عليه السلام)، وقال: ثم أتاه قوم ممن يظهرون التزهد، ويدعون الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشف، فقالوا: إن صاحبنا حصر عن كلامك ولم تحضره حجة .

فقال لهم: هاتوا حججكم فقالوا: إن حجتنا من كتاب الله قال لهم: فأدلوا بها فإنها أحق ما اتبع وعمل به قالوا: يقول الله تبارك وتعالى يخبر عن قوم من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ): « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون « فمدح فعلهم وقال في موضع آخر: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا « فنحن نكتفي بهذا .

فقال أبو عبد الله، عليه السلام: أخبروني أيها النفر، ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه الذي في مثله ضل من ضل، وهلك من هلك من هذه الأمة؟ فقالوا: نعلم بعضه، فأما كله فلا .

فقال لهم: من ها هنا أتيتم . وكذلك أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، أما ما ذكرتم من أخبار الله إيانا في كتابه عن القوم الذي أخبر عنهم بحسن فعالهم، فقد كان مباحا جائزا ولم يكونوا نهوا عنه وثوابهم منه على الله، وذلك أن الله جل وتقدس أمر بخلاف ما عملوا به، فصار أمره ناسخا لفعلهم، وكان نهيه تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين ونظرا لكي لا يضروا بأنفسهم، وعيالهم منهم الضعفة الصغار والولدان والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع، فإن تصدقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعا، ومن ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله): خمس تمرات أو خمس أقراص أو دنانير أو دراهم يملكها الإنسان، وهو يريد أن يمضيها، فأفضلها ما أنفقه الإنسان على والديه، ثم الثانية على نفسه وعياله، ثم الثالثة على القرابة وإخوانه المؤمنين، ثم الرابعة على جيرانه الفقراء، ثم الخامسة في سبيل الله، وهو أخسها أجرا . وقال النبي، ( صلى الله عليه وآله )، للأنصاري حيث أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق، ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار: (لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنونه مع المسلمين، ترك صبية صغارا يتكففون الناس) .

ثم قال ( عليه السلام): حدثني أبي أن النبي قال: ( إبدأ بمن تعول، الأدنى فالأدنى ) . ثم هذا ما نطق به الكتاب ردا لقولكم ونهيا عنه، مفروضا من الله العزيز الحكيم قال: « الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما « أفلا ترون أن الله تبارك وتعالى أراد غير ما أراكم تدعون إليه؟ والمسرفون مذكورون في غير آية من كتاب الله، يقول: « إنه لا يحب المسرفين « فنهاهم عن الاسراف ونهاهم عن التقتير، لكن أمر بين أمرين، لا يعطي جميع ما عنده ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له، للحديث الذي جاء عن النبي، ( ص): (أن أصنافا من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله تخلية سبيلها بيده، ورجع يقعد في البيت ويقول يا رب ارزقني ولا يخرج في طلب الرزق، فيقول الله جل وعز: عبدي أو لم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة ، فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكيلا تكون كَلا على أهلك، فإن شئت رزقتك، وإن شئت قترت عليك، وأنت معذور عندي؟ ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثم أقبل يدعو: يا رب أرزقني ! فيقول الله: ألم أرزقك رزقا واسعا أفلا اقتصدت فيه كما أمرتك ولم تسرف وقد نهيتك؟ ورجل يدعو في قطيعة رحم ). ثم علّم الله نبيه كيف ينفق، وذلك أنه كان عنده أوقية من ذهب، فكره أن تبيت عنده فتصدق بها وأصبح ليس عنده شئ، وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه، فلامه السائل واغتم هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه، وكان رحيما رقيقا فأدب له نبيه بأمره إياه فقال: « ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا « يقول: إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك، فإذا أعطيت جميع ما عندك كنت قد خسرت من المال . فهذه أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، يصدقها الكتاب، والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين ثم من قد علمتم في فضله وزهده سلمان وأبوذر، فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسننه حتى يحضره عطاؤه من قابل، فقيل له: يا أبا عبد الله أنت في زهدك تصنع هذا، وأنك لا تدري لعلك تموت اليوم أو غدا فكان جوابه أن قال: ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء؟ أو ما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت وأما أبو ذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها، إذا اشتهى أهله اللحم، أو نزل به ضيف، أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة، نحر لهم الجزور أو من الشاء، على قدر ما يذهب عنهم قرم اللحم، فيقسمه بينهم ويأخذ كنصيب أحدهم لا يفضل عليهم، ومن أزهد من هؤلاء وقد قال فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، ما قال . ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئا البتة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وأشيائهم، وتؤثرون به غيرهم على أنفسهم وعيالاتهم.

أخبروني عن القضاة، أجور منهم حيث يفرضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال: أنا زاهد وأنه لا شئ لي؟ فإن قلتم جور ظلمتم أهل الإسلام، وإن قلتم بل عدل خصمتم أنفسكم . أخبروني لو كان أخبروني لو كان الناس كلهم كما تريدون زهادا لا حاجة لهم في متاع غيرهم، فعلى من كان يتصدق بكفارات الأيمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة؟ إذا كان الأمر على ما تقولون لا ينبغي لأحد أن يحبس شيئا من عرض الدنيا إلا قدمه وإن كان به خصاصة .

فبئس ما ذهبتم إليه، وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله وسنة نبيه وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل ! أو ردكم إياها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ، والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي .

وأخبروني، أنتم أعلم أم سليمان بن داود، عليهما السلام حيث سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده: فأعطاه الله ذلك، وكان يقول الحق ويعمل به ثم لم نجد الله عاب ذلك عليه ولا أحدا من المؤمنين، وداود قبله في ملكه وشدة سلطانه . ثم يوسف النبي حيث قال لملك مصر: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ! فكان من أمره الذي كان واختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن، فكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم، وكان يقول الحق ويعمل به، ثم لم نجد أحدا عاب ذلك عليه، ثم ذو القرنين، عبدا أحب الله فأحبه، طوى له الأسباب وملكه مشارق الأرض ومغاربها، وكان يقول بالحق ويعمل به ثم لم نجد أحدا عاب ذلك عليه، فتأدبوا أيها النفر بآداب الله للمؤمنين، واقتصروا على أمر الله ونهيه، ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به، وردوا العلم إلى أهله تؤجروا وتعذروا عند الله، وكونوا في طلب علم الناسخ من القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه، وما أحل الله فيه مما حرم، فإنه أقرب لكم من الجهل . ودعوا الجهالة لأهلها فإن أهل الجهل كثير وأهل العلم قليل . وقد قال الله عز وجل: (( وفوق كل ذي علم عليم )).