تجدد الفكر وتقدم العلم في المجال الإسلامي

يرى الدكتور محمد عابد الجابري في خاتمة كتابه (تكوين العقل العربي)، إن الدور الذي قام به العلم عند اليونان، وفي أوروبا الحديثة في مساءلة الفكر الفلسفي ومخاصمته، وفك بناءاته وإعادة تركيبها، قد قامت به السياسة في الثقافة العربية الإسلامية، واعتبر أن اللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحددها العلم، وإنما كانت تحددها السياسة، وظل العلم في تصوره، علم الخوارزمي والبيروني وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية، ولم يشارك في تغذية العقل العربي، ولا في تجديد قوالبه، وفحص قبلياته ومسبقاته.
وهذا الرأي لا يمكن التسليم به بالكامل، ولا رفضه بالكامل أيضاً، ويبقى في حدود الفرضية، لكنها فرضية جديرة بالتأمل والنظر، وهي بحاجة إلى فحص وتشخيص، إما للتثبت منها والقبول بها، وإما للتشكيك فيها والاجتناب عنها.
ولعل ما يعترض هذه الفرضية ويصلح أن يكون نقداً وتضعيفاً لها، يمكن التذكير بشخصيتين جمعتا بين العلم والفكر، وكانتا من أكثر الشخصيات حضوراً وتأثيراً ليس في المجال الفكري الإسلامي فحسب، وإنما في المجال الفكري العالمي أيضاً، وهما ابن سينا وابن رشد وكلاهما من العلماء والفلاسفة. فبقدر ما كان ابن سينا مشهوراً في الطب وصنف فيه كتابه الشهير (القانون في الطب)، بقدر ما كان أيضاً مشهوراً في الفلسفة وصنف فيها كتابه الشهير كذلك موسوعة (الشفاء)، وليس هذا فحسب، فقد كان ابن سينا قطباً وصاحب مدرسة في الفلسفة كما كان قطباً وصاحب مدرسة في الطب كذلك، فكتابه (القانون في الطب) بعد أن ترجم إلى اللاتينية ظل قروناً عدة، كما يقول المستشرق ديلاسي أوليري، ممثلاً للمدرسة العربية في الطب في أوروبا الغربية، ومحتفظاً بمكانته في جامعتي مونبيليه ولوفان حتى عام 1650م.
وهكذا ابن رشد الذي كان طبيباً وفيلسوفاً، وقيل عنه أنه كان يفزع في فتواه في الطب كما يفزع في فتواه في الفقه، ومثل ابن سينا كان قطباً في الفلسفة وصاحب مدرسة فيها، وحجة في الفلسفة حتى عند الأوروبيين أيضاً، حسب قول المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون، ونص كلامه (فكان ابن رشد الحجة البالغة للفلسفة في جامعاتنا منذ أوائل القرن الثالث عشر الميلاد، ولما حاول لويس الحادي عشر تنظيم أمور التعليم في سنة 1473 أمر بتدريس مذهب هذا الفيلسوف العربي ومذهب أرسطو).
والطب بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة والمفكرين لم يكن حقلاً للكتابة والتصنيف، أو العلاج والتطبيب فحسب، بل كان أيضاً بمثابة الحقل العلمي التجريبي الذي يتم فيه عند هؤلاء ملاحظة وفحص واختبار الأفكار والنظريات والمعارف الأخرى، وليس في مجال الطب فقط، وإنما في المجالات الأخرى أيضاً.
كما أن كتب الفلسفة عند المسلمين كانت تستوعب وتضم مختلف أقسام وأصناف العلوم والمعارف، وتجلى ذلك في موسوعة (الشفاء) لابن سينا، التي ضمت حسب تقسيمه علوم الطبيعيات والرياضيات والإلهيات، وهذه الكتب والمؤلفات تصلح أن تكون شاهداً على حضور العلم في الثقافة العربية الإسلامية.
وبالتالي لا يمكن القول مطلقاً بأن العلم لم يساهم في رفد وإنماء الثقافة العربية الإسلامية، وفي بناء وتكوين العقل العربي، كما هو رأي الدكتور الجابري، ومع ذلك يمكن القول أن تأثير السياسة كان أشد قوة وتأثيراً وخطورة أيضاً في الثقافة العربية الإسلامية من العلم، وهذا يعني أن هناك قدراً من المخالفة النسبية مع رأي الدكتور الجابري، وقدراً أيضاً من الموافقة النسبية معه1.

___________

    1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 8 نوفمبر 2007م، العدد 15048.