فلسفة الثقافة

فلسفة الثقافة كما يعرفها الكاتب البريطاني المعاصر تيري إيجلتون في كتابه (فكرة الثقافة) الصادر عام 2000م، بأنها تعبر عن اتجاه فكري يمكن النظر إليه على أنه ضرب من المجاهدة في محاولة للربط بين معاني الثقافة المتعددة التي راحت تنفصل شيئاً فشيئاً وكل يعوم في اتجاه، ويرى هذا الاتجاه أن الثقافة بمعنى الفنون تمثل سمة من سمات العيش المرهف الأنيق، والثقافة بوصفها كياسة يمثل مهمة ينبغي على التغيير السياسي أن يحققه في الثقافة بمعنى الحياة الاجتماعية ككل، وبهذا يتحد من جديد كل من الجمالي والأنثروبولوجي. بهذا القدر السريع والعابر يعرف إيجلتون هذا الاتجاه الفكري في الثقافة والدراسات الثقافية، بدون أن يشرح كيف ظهر هذا الاتجاه، و ماهي الأسس الفكرية التي يستند عليها، و عن قيمته المعرفية والفكرية، كما لم ينخرط في مناقشته ومساءلته، و لا حتى إظهار وجهة نظر تغاير أو توافق، تحايد أو تساكن. خصوصاً و أن الكتاب مفعم بالمناقشات التفسيرية و التحليلية والنقدية، وتقليب مختلف وجهات النظر. فقد حاول إيجلتون أن يتتبع في هذا الكتاب فكرة الثقافة بتعريفاتها المتعددة والمختلفة والمتعارضة أحياناً، وكيف تتغير وتتحول هذه المفاهيم والتعريفات، متأثرة أحياناً بعناصر ثقافية ومعرفية، وتارة بعناصر موضوعية وزمنية، فقد درس إيجلتون الثقافة تارة في طباعاتها المختلفة كما عبر عن ذلك في عنوان الفصل الأول من كتابه المذكور، وتارة في أزمتها وهو عنوان الفصل الثاني، وتارة في حروبها وهو عنوان الفصل الثالث، وتارة في البحث عن ثقافة مشتركة وهو عنوان الفصل الأخير. وذلك كله في إطار الثقافة الأوروبية بدون الإنزياح عنها قيد أنملة، وكأن البشرية لم تعرف الثقافة إلا في أوروبا، أو أنها أي الثقافة لا تستحق أن تعرف أو تدرس إلا في أوروبا. والمنهجية التي اتبعها إيجلتون في هذا الكتاب مع أنها تكاد تقترب من هذا الاتجاه الذي يعبر عنه بفلسفة الثقافة لأنه حاول البحث عن الاقتراب والابتعاد، التوافق والاختلاف، الاشتراك والانفصال، بين العديد من التعريفات المتداولة عن الثقافة، لكن النتيجة التي يصل إليها هي مغايرة تماماً عن هذا المنحى، ولعل هذه كانت رغبته أيضاً، و ما يريد الوصول إليه حسب رأيه هو أن تعود الثقافة إلى مكانها المناسب، فقد ختم كتابه في الأسطر الأخيرة منه بقوله لقد رأينا كيف اكتست الثقافة أهمية سياسية جديدة، غير أنها غدت في الوقت ذاته أبعد عن التواضع و أدنى إلى الغطرسة، لقد حان الوقت ونحن نعترف بأهميتها، أن نعيدها إلى مكانها المناسب.

والضرورات التي اقتضت الحاجة المعرفية والمنهجية لانبعاث هذا الاتجاه في حقل الثقافة والدراسات الثقافية، تشابه إلى حد كبير تلك الضرورات التي ساهمت في انبعاث فلسفة العلم أو فلسفة العلوم، و ذلك بعد أن استقلت العلوم على اختلاف حقولها عن الفلسفة، بعد مرحلة من التطور والتراكم والنضج. هذا التفرع والانفصال أوجد الحاجة إلى البحث عن إطار ينظم العلاقة والارتباط بين هذه العلوم على اختلاف حقولها وميادينها، بحيث لا يسلب عنها اختصاصها المعرفي والمنهجي، كما لا يجعلها تستقل كلياً عن بعضها، أو تنعدم الحاجة والضرورة إلى بعضها. و لهذه الغاية جاءت الحاجة لانبعاث فلسفة العلم، وهو الحقل الذي ينظم أنماط وصور العلاقة والتفاعل بين أقسام العلوم وفروعها المتعددة.
و إذا كنّا نتصور ونتعقل هذه الضرورات والموجبات في مجال العلوم، لكن كيف نتصور ونتعقل هذه الضرورات في مجال محدد هو الثقافة؟
ولعل منشأ هذه الضرورات هو أنه لا يوجد إلى الآن تعريف يصدق عليه وصف المناطقة بالجامع والمانع في تعريف الثقافة. ومنذ التراجع التدريجي والبطئ للتعريف الذي طرحه الأنثربولوجي البريطاني إدوارد تايلر في كتابه الشهير (الثقافة البدائية) الصادر عام 1871م، وهو التعريف الذي ظل مهيمناً لزمن طويل في حقل الدراسات الثقافية والأنثربولوجية، و مازال يحتفظ بنطاقه التداولي، لكن بأقل شهرة عما كان عليه في السابق. فمنذ هذا التراجع لم يتربع مكانه تعريف آخر للثقافة بشهرة ومنزلة تعريف تايلر، و في المقابل تزايدت وتعددت التعريفات بطريقة لا يمكن حصرها، فقد أحصى كوبير و كلو كهون سنة 1952م ما يزيد عن 164 تعريفاً للثقافة. ويذكر الكاتب الفرنسي لويس دوللو في كتابه (الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية) الصادر عام 1978م، كيف أن الأكاديمية الفرنسية لم تتوقف عن إعادة تعريف الثقافة وتحديث مفهومها منذ الطبعة الأخيرة لمعجمها الصادر عام 1932م، إلى أن قررت عام 1972م الإنكباب على دراسة كلمة الثقافة في جلستها يوم الخميس المخصصة لمعجم الأكاديمية.
ومعظم هذه التعريفات لا ينفى بعضها بعضاً، و لا يتفوق بعضها على بعض، لا من حيث الإرادة والشهرة، و لا من حيث المعرفة والبرهان، أي ليس بين هذه التعريفات تعريفاً يتغلب وينتصر على التعريفات الأخرى أو يتفوق عليها. وكل واحد منها لا يخلو من تخلق ولمعان، الأمر الذي يعني الحاجة لكل هذه التعريفات، و هي الحاجة التي تؤكدها فلسفة الثقافة، وتبرز قيمتها، وتنظم نسقيتها. وكأنها تريد أن تؤكد من جهة أخرى بأن هذه التعريفات بمفردها لا تعرف الثقافة، أو لا يستطيع كل واحد منها الإحاطة الكلية والتامة بها، لكنها بمجموعها تستطيع أن تعرفها وتحيط بماهيتها، وهذا يتطلب ما جاء في فلسفة الثقافة ضرب من المجاهدة في محاولة الربط بين معاني الثقافة المتعددة.
وقد وجدت أننا بحاجة إلى معجم أو قاموس خاص بالثقافة يضم مختلف المعاني والدلالات والتعريفات المطروحة حول الثقافة، وهكذا النظريات والمذاهب والمجالات الأخرى المتصلة بها، وكل ماله علاقة بهذا المفهوم من أحداث وقضايا وأعلام، وسوف تظل الحاجة قائمة إلى هذا النوع من المعاجم، و الذي بإمكانه أن يكشف لنا مستوى الإثراء واللمعان في الثقافة، وما أنجزه الفكر الإنساني الخلاق في هذا الشأن.
وما يؤكد الحاجة إلى فلسفة الثقافة هو أن العالم مازال يعظم الحاجة إليها، وحسب مبالغة لويس دوللو ومع أنه ليس في مقام المبالغة، إلا أنه يقول لو طلبنا إلى حاسب آلي أن يضع لنا إحصائية وجدول أولويات بتلك المفردات أو المفاهيم التي أصبحت تحتل مركز الصدارة في عالمنا الحاضر، فما من شك بأن تحتل الثقافة المركز البارز فيها، وقد يكون مثل هذا الموضوع كما يضيف دوللو لم يطرق من قبل بهذا التواتر، لذا فإن العالم أجمع يناقش اليوم في الثقافة، والكل يريد احتوائها والدفاع عنها. هذا الكلام قاله دوللو في عام 1978م، وفي عام 2000م اعتبر إيجلتون، قبل أن يختم كتابه (فكرة الثقافة) بأن الثقافة غدت شاغلاً حيوياً من شواغل العصر الحديث نظراً لمجموعة كبيرة من الأسباب، والثقافة عنده ليس ما نحيا به وحسب، فهي أيضاً و إلى حد بعيد ما نحيا لأجله.
وفلسفة الثقافة كاتجاه فكري ليس معروفاً على نطاق واسع في الأدبيات العربية، لكننا بحاجة إلى الانفتاح عليه والتواصل معه لأننا من خلاله قد نستطيع أن نكوّن لنا فهمنا المستقل عن الثقافة1.

    1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الثلاثاء 5 أغسطس 2003 م، العدد 13492.