مستقبل العالم من وجهة نظر الاسلام

تبيين وجهة نظر الاسلام تجاه مستقبل العالم يتطلب منا الوقوف عند بعض القواعد الكلية الخاصة بمعرفة العالم في مكتب الاسلام ؛ لكي تتضح لنا شفافية رؤية الدين من الحكم العالمي السائد، ورد الافكار غير الناضجة التي تخلل اوعية الاستكبار العالمي تجاه فكرة نهاية العالم .
اما الاصول والقواعد التي اكد عليها المكتب الاسلامي والتي لها دور كبير في معرفة مستقبل العالم يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
الاولى: ان هناك اهداف شريفة وغاية ربانية نبيلة من وراء خلق العالم، ولا وجود للعبث والبطلان في عمل الخالق كما ورد في قوله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ... ﴾ 1.
ولاشك ان الهدف المرجو من كل شي هو الوصول الى كمال ذلك الشي، والكمال الوجودي لعالم الخلقة، هو النيل من الدرجات العالية في هذا الكون والابتعاد من النقص والعيب للوصول الى الكمال النهائي وشاطئ السلامة.
الثانية: عدم الانسجام  بين الظلم وعالم الخلقة لوجود التضاد والتنافر بين الاثنين.
ان الظلم كالسَم القاتل لا يتناسب بتاتاً مع الجهاز الهضمي لنظام الخلقة، فأن بثه في المجتمع يؤدي الى ضياع النظام الحاكم، وبما انه لا يتناسب مع النظام الداخلي السائد في عالم الخلقة، فلا شك انه يتعارض مع الاهداف السامية المرجوة لهذا العالم، ولذا يشكل بنفسه مانع كبير في تحقق اهدافه كما ورد في قوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ... ﴾ 2، ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ... ﴾ 3.

ًالثالثة: الانسان كائنُ مفكر وحرُ، ولم يخلق عبثا، او لاشباع غرائزه وشهوته، وانما هناك اهداف واغراض شريفة من وراء ظهوره الى الوجود؛ لان لا وجود للعبث او الجزاف في ساحة حريم الباري تعالى كما ورد في قوله تعالى ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ 4، ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ 5.

الرابعة: الظلم والتعدّي على حقوق الآخرين ، بمثابة النار المشتعلة التي لا تتناسب والكمال الانساني السامي، وهذين المفردتين – الظلم والتعدي على حقوق الاخرين- هما اللذان يعملان بشكل جدّي على جهل الانسان بمعرفة الهدف النبيل لعالم الخلقة، هذا الهدف الذي لا يتيسر للانسان دون الابتعاد عن الظلم الفردي والاجتماعي، المتمثل بالاستبداد، والاستثمار، والاستعمار؛ وهذا الثلاثي المشؤوم يجتمع في مفردة الاستبعاد الذي يرغم الناس على العبودية الفردية.
الخامسة: حياة الانسان عبارة عن حياة اجتماعية، سواء كان المجتمع يرى بأن الوجود الفردي يختلف عن الوجود الاجتماعي كما يذهب اليه البعض، او ان المجتمع هو بمثابة تعدد الحيثيات الفردية كما يذهب اليه البعض الآخر؛ وعليه يجب البحث عن صلاح الفرد في الحياة الاجتماعية للمجتمع، لا ننكر وجود اشخاص يعيشون بمنتهى الصفاء والاخلاص في مجتمعات ملوثة، كما اننا لا ننكر وجود افراد يعملون أبشع الرذائل والجرائم بحق أنفسهم والاخرين في المجتمعات التي يسودها النظام الديني؛ لأن القانون الكلي لا يعتمد على هذه النوادر وإنمّا النظرة الكلية للعالم هي المهمة في طرح القانون الجامع والكلي.
السادسة: إن تأمين الحياة الاجتماعية السليمة رهن بوجود نظام حاكم.
لا شك ان سيادة الحياة الاجتماعية في مجتمع ما بحاجة الى وجود نظام حكومي عادل؛ لان في حال عدم وجود قانون ودستور واحد، وقائد واحد، وعدم خضوع افراد هذا المجتمع للقانون والقائد، يؤدي اما الى استحالة استمرار الحياة الاجتماعية، او استمرار الحياة لكن دون تحقق الهدف والغاية المطلوبة .
وكما ان تعدد القانون والدستور في المجتمع، يؤدي في النهاية الى عدم استقرار النظام الحكومي ، كذلك تعدد وكثرة القيادات في المجتمع الواحد- وان كانت الاوامر تصدر من شورى مركزية لهذه القيادات- سوف تمنع من تحقيق نظام اجتماعي مقتدر ومطلوب.
السابعة: حاجة المجتمع الى قانون وقائد نزيه.
ان تدوين القانون من قبل شخص معين او مجموعة معينة، سوف لا يضمن حقوق ومصالح جميع اطياف المجتمع؛ وذلك لان كل فرد او مجموعة، اما يعملان لجر النفع لانفسهم، او التخبط في معرفة ما ينفع الاخرين وما هو مضر لهم ، كما ان القائد الذي يحظى بشعبية كبيرة في مجتمعه، دون التأييد او التسديد الالهي، او لم يكن بطريقة صحيحة وارث للمكتب الالهي، سوف لن يضمن مصالح جميع فئات مجتمعه؛ بل نجده يتأثر بالتجاذبات الحزبية والفئوية السياسية منها او الاجتماعية، وينحاز الى طبقة دون اخرى او يقدم مصلحة حزبه على مصالح الآخرين، لذلك سوف لن تحلّ هذه المعضلة في المجتمع دون تأمين الركنين الاصليين في المجتمع وهما الركن السياسي والاجتماعي، والاول يتمثل في القانون والحرية، والثاني في وجود قائد نزيه وحر.
الدستور الذي يكتب بأيادي حرة سوف تجده خاليا من الخطأ والتمييز الذي لا محل له، وكانّه الدستور الالهي، وفي المقابل القائد الحر هو الانسان النزيه المتحرر من قيود التحزب والفئوية، وقد تعدى حدود ايصال او الالحاق الضرر بالاخرين.
الثامنة: ان عالم الخلقة لم يشهد الى الان نظام حكومي مثالي؛ والمجتمعات البشرية لم تحظى بمجتمع مثالي ونزيه؛ يعني لم تتحقق الاهداف السامية لعالم الخلقة الى الان، صحيح ان هناك ايادي خيرة وطيبة عملت على تحقيق الاهداف المرجوة لنظام التكوين والخلقة، وفي هذا المجال نجدها قدمت قرابين في تحقيق هذه الاهداف السامية، لكن لم يحصل الهدف النهائي وهو سيادة العدل والقسط في انحاء العالم، طبعاً العمل الذي بادرت به تلك الايادي الخيرة يعتبر أرضية مناسبة لتحقق الاهداف النهائية، وسوف يشكر سعيهم ومجهودهم على أمتثال الأوامر الملقاة عليهم.
التاسعة: وبحسب الاصول التي ذكرت اعلاه ان الاسلام يبشر بحكومة عادلة تمتد حدودها الى اقصى العالم لتشمل جميع العالم، يقودها اُناس عظماء متحررين من رذائل الدنيا ومغرياتها، لانهاء ظلم المستكبرين، وتطهير الطغاة من على وجه العالم؛ واحقاق الحق ونجاة الفقراء من الواقع المرير الذي هم عليه كما ذكر تعالى في قوله: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ 6، وقوله تعالى:﴿ ... أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 7.

العاشرة: ان برنامج حكومة الثلة الصالحة، انّما هو تطهير الارض من دنس الظلم، ونجاتها من اي نوع تعدّي وطغيان، واصلاحها لاستقبال القسط والعدل على احضانها؛ وبما ان اهم عامل في النجاة من سلطة الشيطان وهوى النفس هو بث روح العبودية لله تعالى في الفرد والمجتمع ، فقد رسم الدين الاسلامي واجب المصلحين وورثة الارض في هذه المفردات التي اشارت اليها الاية المباركة في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ 8.
وعليه يمكن تلخيص ما مر علينا من اصول التي اناطت اللثام عن وجه الرؤية الالهية لمستقبل العالم في :
التفاؤل بالمستقبل، ومواجهة الظلم ، وتهيئة الارضية المناسبة للسلام العالمي، والاعتقاد بالاهداف التي تسمو اليها البشرية، والتحرر من اليأس والقنوط، والوقوف ضد انتشار الاسلحة النووية غير السلمية وحرب التكنلوجية الهدامة لمبادئ البشرية، وانتظار ظهور المصلح العالمي الحر، وعدم البخل بما نملك من الغالي والنفيس في عصر الغيبة لتوفير ارضية الظهور، والجهاد في سبيل استقرار وترسيخ دعائم حكومة هذا الانسان الكامل وخلفية الله على ارضه، وتبديل الآلام وآهات الفقراء والمساكين الى حلاوة وسعادة بعد الاقتصاص من الاغنياء الذين يكنزون الاموال، ورضا خالق العالم والكائنات في سيادة العدل والقسط بين البشرية.
في امل ذلك اليوم السعيد، اليوم الذي يظفر به الحق والعدل على الظلم والطغيان، عندما ترفرف راية القسط فوق القصور والاكواخ على جميع انحاء البسيطة!
والحمد للّه رب العالمين .

______________

    1. القران الكريم: سورة ص (38)، الآية: 27، الصفحة: 455.
    2. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 41، الصفحة: 408.
    3. القران الكريم: سورة المؤمنون (23)، الآية: 71، الصفحة: 346.
    4. القران الكريم: سورة القيامة (75)، الآية: 36، الصفحة: 578.
    5. القران الكريم: سورة المؤمنون (23)، الآية: 115، الصفحة: 349.
    6. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 5، الصفحة: 385.
    7. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 105، الصفحة: 331.
    8. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 41، الصفحة: 337.