كيد أعداء الإمام علي (ع) لإطفاء نوره 2

إخبار الإمام عن سبّه والبراءة منه

16 – الإمام عليّ ( عليه السلام ) – في وصف معاوية – : أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رَحْبُ ( 23 ) البلعوم ، مُندَحِق ( 24 ) البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه ! ألا وإنّه سيأمركم بسبّي ، والبراءة منّي ! فأمّا السبّ فسبّوني ؛ فإنّه لي زكاة ، ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تتبرّؤوا منّي ؛ فإنّي وُلدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة ( 25 ) .

17 – عنه ( عليه السلام ) : إنّكم ستُعرضون من بعدي على سبّي ، فسبّوني ، فإن عُرض عليكم البراءة منّي فلا تبرّؤوا منّي ؛ فإنّي على الإسلام ، فمن عُرض عليه البراءة منّي فليمدد عنقه ، فإن تبرّأ منّي فلا دنيا له ولا آخرة ( 26 ) .

18 – عنه ( عليه السلام ) : إنّكم ستُعرضون على سبّي ، فسبّوني ، فإن عُرضت عليكم البراءة منّي فلا تبرّؤوا منّي ، فإنّي على الإسلام ، فليمدد أحدكم عنقه – ثكلته أُمّه – ؛ فإنّه لا دنيا له ولا آخرة بعد الإسلام ، ثمّ تلا : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالإِيمَانِ ) ( 27 ) ( 28 ) .

19 – خصائص الأئمة ( عليهم السلام ) عن ميثم التمّار : دعاني أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوماً ، فقال لي :

يا ميثم ، كيف أنت إذا دعاك دَعيّ ( 29 ) بني أُميّة عبيد الله بن زياد إلى البراءة منّي ؟ قلت : إذاً والله أصبر ، وذاك في الله قليل . قال : يا ميثم ، إذاً تكون معي في درجتي ( 30 ) .

20 – الإمام الباقر ( عليه السلام ) : خطب عليّ ( عليه السلام ) على منبر الكوفة ، فقال : سيعرض عليكم سبّي ، وستذبحون عليه ؛ فإن عُرض عليكم سبّي فسبّوني ، وإن عُرض عليكم البراءة منّي فإنّي على دين محمّد ( صلى الله عليه وآله ) . ولم يقُل : فلا تبرّؤوا منّي ( 31 ) .

21 – الإمام الصادق ( عليه السلام ) : قال عليّ ( عليه السلام ) : والله لتُذبحنّ على سبّي – وأشار بيده إلى حلقه – ثمّ قال : فإن أمروكم بسبّي ، فسبّوني ، وإن أمروكم أن تبرؤوا منّي فإنّي على دين محمّد ( صلى الله عليه وآله ) . ولم ينَههم عن إظهار البراءة ( 32 ) .

22 – الكافي عن مسعدة بن صدقة : قيل لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : إنّ الناس يروون أنّ عليّاً ( عليه السلام ) قال على منبر الكوفة : أيّها الناس ، إنّكم ستُدعون إلى سبّي ، فسبّوني ، ثمّ تُدعون إلى البراءة منّي ، فلا تبرؤوا منّي .

فقال : ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ ( عليه السلام ) ! ثمّ قال : إنّما قال : إنّكم ستُدعون إلى سبّي ، فسبّوني ، ثمّ ستُدعون إلى البراءة منّي وإنّي لعلى دين محمّد . ولم يقُل : لا تبرؤوا منّي .

فقال له السائل : أرأيت إن اختار القتل دون البراءة ؟ فقال : والله ما ذلك عليه ، وما له إلاّ ما مضى عليه عمّار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكّة وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمئِنُّ بِالإيمَانِ ) ، فقال له النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) عندها : يا عمّار ، إن عادوا فعُد ؛ فقد أنزل الله عزّ وجلّ عذرك ، وأمرك أن تعود إن عادوا ( 33 ) .

23 – الإمام عليّ ( عليه السلام ) : ألا إنّكم معرضون على لعني ودعاي كذّاباً ، فمن لعنني كارهاً مُكرَهاً – يعلم الله أنّه كان مُكرَهاً – وردتُ أنا وهو على محمّد ( صلى الله عليه وآله ) معاً . ومن أمسك لسانه فلم يلعنّي سبقني ؛ كرَميةِ سهم ، أو لَمحة بالبصر . ومن لعنني منشرحاً صدره بلَعني فلا حجاب بينه وبين الله ، ولا حجّة له عند محمّد ( صلى الله عليه وآله ) .

ألا إنّ محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) أخذ بيدي يوماً فقال : من بايع هؤلاء الخمس ثمّ مات وهو يحبّك فقد قضى نحبه ، ومن مات وهو يبغضك مات ميتة جاهليّة ، يحاسب بما عمل في الإسلام ( 34 ) .

 

الأمر بسبّه والبراءة منه

24 – المناقب لابن شهر آشوب : والأصل في سبّه [ عليّ ( عليه السلام ) ] ما صحّ عند أهل العلم أنّ معاوية أمر بلعنه على المنابر ، فتكلّم فيه ابن عبّاس ، فقال : هيهات ، هذا أمر دِين ، ليس إلى تركه سبيل ، أليس الغاشّ لرسول الله ، الشتّام لأبي بكر ، المعيّر عمر ، الخاذل عثمان !

قال : أتسبّه على المنابر ، وهو بَناها بسيفه !

قال : لا أدَع ذلك حتى يموت فيه الكبير ، ويشبّ عليه الصغير ( 35 ) .

25 – الكامل في التاريخ : إنّ معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين ، فلمّا أمّره عليها دعاه وقال له : أمّا بعد ، فإنّ لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرَع العصا ( 36 ) ، وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم . وقد أردتُ إيصاءك بأشياء كثيرة ، أنا تاركها اعتماداً على بصرك ، ولستُ تاركاً إيصاءك بخصلة : لا تترك شتم عليّ وذمّه ، والترحّم على عثمان والاستغفار له ، والعيب لأصحاب عليّ والإقصاء لهم ، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم ( 37 ) .

26 – المستدرك على الصحيحين عن عبد الله بن ظالم : كان المغيرة بن شعبة ينال في خطبته من عليّ ، وأقام خطباء ينالون منه ( 38 ) .

27 – أنساب الأشراف : ولّى معاوية المغيرةَ بن شعبة الكوفة ، فأقام بها تسع سنين ، وهو أحسن رجل سيرةً ! ! وأشدّه حبّاً للعافية ، غير أنّه لا يَدع ذمّ عليّ والوقيعة فيه ! ! والعيب لقَتَلة عثمان واللعن لهم ( 39 ) .

28 – أنساب الأشراف : كان للوليد بن عثمان بن عفّان ابن يُظهر التألُّه يقال له : عبد الله بن الوليد ، وكان يلعن عليّاً ويقول : قتل جدّيّ عثمانَ والزبيرَ – وكانت أُمّه ابنة الزبير بن العوّام – .

وقام إلى هشام بن عبد الملك وهو على المنبر عشيّةَ عرفة فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ هذا يوم كانت الخلفاء تستحبّ فيه لعن أبي تراب ! فقال له : يا عبد الله ، إنّا لم نأتِ هاهنا لسبّ الناس ولعنهِم ! ( 40 )

 

سبّه على المنابر

29 – المناقب لابن المغازلي عن أبي معاوية هشيم بن بشير الواسطي : أدركت خطباء أهل الشام بواسط ( 41 ) في زمن بني أُمية ، كان إذا مات لهم ميّت قام خطيبهم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر عليّ بن أبي طالب فسبّه . فحضرتُهم يوماً وقد مات لهم ميّت ، فقام خطيبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر عليّاً ( عليه السلام ) فسبّه ، فجاء ثور فوضع قرنيه في ثدييه وألزقه بالحائط ، فعصره حتى قتله ، ثمّ رجع يشقّ الناس يميناً وشمالا لا يهيج أحداً ولا يؤذيه ( 42 ) .

30 – مروج الذهب : ذكر بعض الأخباريّين أنّه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم : مَن أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر ؟ قال : أراه لصّاً من لصوص الفتن ( 43 ) .

31 – الغارات عن الواقدي : إنّ عمر بن ثابت . . . كان يركب ويدور في القرى بالشام ، فإذا دخل قريةً جمع أهلها ، ثمّ يقول : أيّها الناس ! إنّ عليّ بن أبي طالب كان رجلا منافقاً ، أراد أن ينخس برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلة العقبة ، فالعنوه .

قال : فيلعنه أهل تلك القرية ، ثمّ يسير إلى القرية الأُخرى ، فيأمرهم بمثل ذلك ( 44 ) .

قال العلاّمة الأميني ( رحمه الله ) : لم يزَل معاوية وعمّاله دائبين على ذلك [ لعن الإمام ( عليه السلام ) ] حتى تمرَّن عليه الصغير ، وهرم الشيخ الكبير ، ولعلّ في أوليات الأمر كان يوجد هناك من يمتنع عن القيام بتلك السبّة المخزية ، وكان يسَع لبعض النفوس الشريفة أن يتخلّف عنها ، غير أنّ شدّة معاوية – الحليم في إجراء أُحدوثته – وسطوة عمّاله – الخصماء الألدّاء على أهل بيت الوحي ، وتهالكهم دون تدعيم تلك الإمرة الغاشمة ، وتنفيذ تلك البدعة الملعونة – حكمت في البلاء ، حتى عمّت البلوى ، وخضعت إليها الرقاب ، وغلّلتها أيدي الجور تحت نِير ( 45 ) الذلّ والهوان . فكانت العادة مستمرّة منذ شهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى نهي عمر بن عبد العزيز ، طيلة أربعين سنة ( 46 ) ، على صهوات المنابر ، وفي الحواضر الإسلاميّة

كلّها ؛ من الشام إلى الري إلى الكوفة إلى البصرة إلى عاصمة الإسلام المدينة المشرّفة إلى حرم أمن الله مكّة المعظّمة إلى شرق العالم الإسلامي وغربه ، وعند مجتمعات المسلمين جمعاء . . . .

واتّخذوا ذلك كعقيدة راسخة ، أو فريضة ثابتة ، أو سنّة متّبعة ، يرغب فيها بكلّ شوق وتوق ( 47 ) حتى أنّ عمر بن عبد العزيز لمّا منع عنها – لحكمة عمليّة – أو لسياسة وقتيّة – حسبوه كأنّه جاء بطامّة كبرى ، أو اقترف إثماً عظيماً ( 48 ) .

 

خطبة الإمام لمّا بلغه خبر سبّه

32 – الإمام الباقر ( عليه السلام ) : خطب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة بعد منصرفه من النهروان وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويلعنه ويقتل أصحابه ، فقام خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وصلّى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذكر ما أنعم الله على نبيّه وعليه ، ثمّ قال : لولا آية في كتاب الله ما ذكرتُ ما أنا ذاكره في مقامي هذا ، يقول الله عزّوجلّ : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( 49 ) .

اللهمّ لك الحمد على نِعمك التي لا تُحصى ، وفضلك الذي لا يُنسى . يا أيّها الناس ! إنّه بلغني ما بلغني ، وإنّي أراني قد اقترب أجلي ، وكأنّي بكم وقد جهلتم أمري ، وإنّي تارك فيكم ما تركه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؛ كتابَ الله وعترتي ؛ وهي عترة الهادي إلى النجاة ، خاتم الأنبياء ، وسيّد النجباء ، والنبيّ المصطفى . . . .

ببُغضي يُعرف المنافقون ، وبمحبّتي امتحن الله المؤمنين ، هذا عهد النبيّ الأُمّي إليَّ أنّه لا يحبّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق . وأنا صاحب لواء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الدنيا والآخرة ، ورسول الله فَرَطي ( 50 ) ، وأنا فَرَط شيعتي . والله لا عطش محبّي ، ولا خاف وليّي ، وأنا وليّ المؤمنين ، واللهُ وليّي ، حَسبُ محبّيَّ أن يحبّوا ما أحبّ الله ، وحَسبُ مبغضيَّ أن يبغضوا ما أحبّ الله .

ألا وإنّه بلغني أنّ معاوية سبّني ولعنني ، اللهمّ اشدُد وطأتك عليه ، وأنزل اللعنة على المستحقّ ، آمين يا ربّ العالمين ، ربّ إسماعيل ، وباعث إبراهيم ، إنّك حميد مجيد . ثمّ نزل ( عليه السلام ) عن أعواده ، فما عاد إليها حتى قتله ابن ملجم – لعنه الله – ( 51 ) .

 

تعذيب محبّيه وتشريدهم وقتلهم

33 – شرح نهج البلاغة : روي أنّ أبا جعفر محمّد بن عليّ الباقر ( عليه السلام ) قال لبعض أصحابه : يا فلان ، ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس ! إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قُبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس ، فتمالأَتْ علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا ، ثمّ تداولتها قريش واحد بعد واحد ، حتى رجعت الينا ، فنكثَت بيعتَنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزَل صاحب الأمر في صعود كؤود ( 52 ) حتى قتل .

فبُويع الحسن ابنه ، وعوهد ، ثمّ غُدر به ، وأُسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طُعن بخنجر في جنبه ، ونُهبت عسكره ، وعولجت ( 53 ) خلاليل أُمّهات أولاده ، فوادع معاوية ، وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حقّ قليل .

ثمّ بايع الحسينَ ( عليه السلام ) من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثمّ غدروا به ، وخرجوا عليه وبيعتُه في أعناقهم ، وقتلوه ، ثمّ لم نزَل – أهلَ البيت – نُستذلّ ونُستضام ونُقصى ونُمتهن ونُحرم ونُقتل ونُخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا . ووجد الكاذبون الجاحدون ؛ – لكذبهم وجحودهم – موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة ، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنّا ما لم نقُله وما لم نفعله ؛ ليُبغّضونا إلى الناس . وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن ( عليه السلام ) ؛ فقُتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظِّنّة ، وكان من يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن ، أو نُهب ماله ، أو هُدمت داره ، ثمّ لم يزَل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ( عليه السلام ) .

ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة ، وأخذهم بكلّ ظِنّة وتهمة ، حتى أنّ الرجل ليُقال له : ” زنديق ” أو ” كافر ” أحبّ إليه من أن يُقال : ” شيعة عليّ ” ، وحتى صار الرجل الذي يُذكر بالخير – ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً – يُحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ، ولا وقعت ، وهو يحسب أنّها حقّ ؛ لكثرة من قد رواها ممّن لم يُعرف بكذب ولا بقلّة ورع .

وروى أبو الحسن عليّ بن محمّد بن أبي سيف المدايني في كتاب الأحداث قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته . فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كل منبر يلعنون عليّاً ، ويبرؤون منه ، ويقَعون فيه وفي أهل بيته . وكان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ؛ لكثرة من بها من شيعة عليّ ( عليه السلام ) ، فاستعمل عليهم زياد بن سميّة ، وضمّ إليه البصرة ، فكان يتتبّع الشيعة – وهو بهم عارف ؛ لأنّه كان منهم أيّام عليّ ( عليه السلام ) – فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسَملَ ( 54 ) العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم ، وشرّدهم عن العراق ، فلم يبقَ بها معروف منهم .

وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم : أن انظروا مَن قِبَلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم ، وقرّبوهم ، وأكرموهم ، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم ، واسمه ، واسم أبيه وعشيرته . ففعلوا ذلك ، حتى أكثروا في فضائل عثمان ، ومناقبه ؛ لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه ، وقرّبه ، وشفّعه ، فلبثوا بذلك حيناً .

ثمّ كتب إلى عمّاله : إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر ، وفي كل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ؛ فإنّ هذا أحبّ إليّ ، وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله .

فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة – في مناقب الصحابة – مفتعلة لا حقيقة لها . وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى ، حتى أشادوا بذِكر ذلك على المنابر ، وأُلقى إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله .

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا مَن قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه .

وشفع ذلك بنسخة أُخرى : من اتّهمتُموه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به ، واهدموا داره . فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتى أنّ الرجل من شيعة عليّ ( عليه السلام ) ليَأتيه من يثِق به فيدخل بيته فيُلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يُحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة لَيكتمنّ عليه .

فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة .

وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون ، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ؛ ليَحظُوا بذلك عند وُلاتِهم ، ويقربوا مجالسهم ، ويُصيبوا به الأموال والضياع والمنازل . حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ، ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تديّنوا بها .

فلم يزَل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن عليّ ( عليه السلام ) ، فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبقَ أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض .

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) ، وولي عبد الملك بن مروان فاشتدّ على الشيعة ، وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف ، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض عليّ وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدّعي من الناس أنهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من الغضّ ( 55 )

من عليّ ( عليه السلام ) ، وعيبه ، والطعن فيه ، والشنآن له ، حتى أنّ إنساناً وقف للحجّاج – ويقال : إنّه جدّ الأصمعيّ عبد الملك بن قريب – فصاح به : أيّها الأمير إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً ، وإنّي فقير بائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج . فتضاحك له الحجاج ، وقال : للُطف ما توسّلت به قد ولّيتك موضع كذا .

وقد روى ابن عرفة – المعروف بنفطويه ، وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم – في تاريخه ما يناسب هذا الخبر ، وقال : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيّام بني أُميّة ؛ تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يُرغمون به أُنوف بني هاشم ( 56 ) .

 

الدافع السياسي في كيد أعدائه

34 – الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : قال مروان بن الحكم : ما كان في القوم أحد أدفع عن صاحبنا من صاحبكم – يعني عليّاً عن عثمان – قال : قلت : فما لكم تسبّونه على المنبر ؟ ! قال : لا يستقيم الأمر إلاّ بذلك ( 57 ) .

35 – أنساب الاشراف عن عمر بن عليّ : قال مروان لعليّ بن الحسين : ما كان أحد أكفّ عن صاحبنا من صاحبكم . قال : فلِمَ تشتمونه على المنابر ؟ ! قال : لا يستقيم لنا هذا إلاّ بهذا ( 58 ) .
ــــــــــــــــــــــــــ
( 23 ) الرَّحْب : الشيء الواسع ( لسان العرب : 1 / 414 ) .
( 24 ) مُنْدَحِقُ البطن : أي واسعها ، كأنّ جوانبها قد بَعُدَ بعضها من بعض فاتّسعت ( النهاية : 2 / 105 ) .
( 25 ) نهج البلاغة : الخطبة 57 ، المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 272 وراجع تاريخ دمشق : 42 / 588 وعيون أخبار الرضا : 2 / 64 / 274 وعوالي اللآلي : 2 / 105 / 289 والمناقب للكوفي : 2 / 64 / 547 وشرح الأخبار : 1 / 168 / 129 .
( 26 ) الإرشاد : 1 / 322 ، الخرائج والجرائح : 1 / 202 / 43 وفيه إلى ” فلا تبرّؤوا منّي ” وراجع الأمالي للطوسي : 210 / 362 والمناقب للكوفي : 2 / 565 / 1077 .
( 27 ) النحل : 106 .
( 28 ) المستدرك على الصحيحين : 2 / 390 / 3365 عن أبي صادق وراجع الأمالي للطوسي : 364 / 765 ، والغارات : 2 / 637 والمناقب للكوفي : 2 / 417 / 900 وص 419 / 902 وغرر الحكم : 3858 وبحار الأنوار : 39 / 316 / 13 .
( 29 ) الدَّعِيّ : المنسوب إلى غير أبيه ( لسان العرب : 14 / 261 ) .
( 30 ) خصائص الأئمّة ( عليهم السلام ) : 54 .
( 31 ) شرح نهج البلاغة : 4 / 106 عن أبي مريم الأنصاري .
( 32 ) شرح نهج البلاغة : 4 / 106 عن الحسن بن صالح ؛ بحار الأنوار : 39 / 326 .
( 33 ) الكافي : 2 / 219 / 10 ، قرب الإسناد : 12 / 38 ، تفسير العيّاشي : 2 / 271 / 73 عن معمّر بن يحيى بن سالم عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) وليس فيه من ” فقال له النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) . . . ” وكلاهما نحوه .
( 34 ) الأمالي للمفيد : 120 / 4 ، شرح الأخبار : 1 / 164 / 119 نحوه وليس فيه من ” ومن أمسك ” إلى ” عند محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ” وكلاهما عن مالك بن ضمرة .
( 35 ) المناقب لابن شهر آشوب : 3 / 222 ، بحار الأنوار : 39 / 323 / 22 .
( 36 ) هذا شطر بيت للمتلمّس ، وقد ذكره الطبري في تاريخه بتمامه ، وهو :
لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرَع العصا * وما عُلِّم الإنسان إلاّ ليعلَما
 ( 37 ) الكامل في التاريخ : 2 / 488 ، تاريخ الطبري : 5 / 253 ، أنساب الأشراف : 5 / 252 نحوه .
( 38 ) المستدرك على الصحيحين : 3 / 509 / 5898 ، سير أعلام النبلاء : 3 / 31 / 7 .
( 39 ) أنساب الأشراف : 5 / 252 ، تاريخ الطبري : 5 / 254 ، الكامل في التاريخ : 2 / 488 نحوه .
( 40 ) أنساب الأشراف : 6 / 245 ، شرح نهج البلاغة : 13 / 221 وج 4 / 57 وج 15 / 256 كلّها نحوه من ” قام . . . ” .
( 41 ) واسِط : مدينة بناها الحجّاج ، وهي متوسّطة بين البصرة والكوفة عن كلٍّ منهما خمسون فرسخاً ( معجم البلدان : 5 / 347 ) .
( 42 ) المناقب لابن المغازلي : 391 / 445 .
( 43 ) مروج الذهب : 3 / 42 .
( 44 ) الغارات : 2 / 581 ؛ شرح نهج البلاغة : 4 / 103 وفيه ” عمرو بن ثابت ” بدل ” عمر بن ثابت ” .
( 45 ) النِّير : الخشبة التي تكون على عنق الثور بأداتها ( لسان العرب : 5 / 247 ) .
( 46 ) كذا في المصدر والصحيح : ” ستّين سنة ” ؛ لأنّ خلافة عمر بن عبد العزيز كانت سنة 99 ه‍ .
( 47 ) التوق : وهو الشوق إلى الشيء والنزوع إليه ( لسان العرب : 10 / 33 ) .
( 48 ) الغدير : 10 / 265 .
( 49 ) الضحى : 11 .
( 50 ) فَرَطَ فهو فَرَطٌ : إذا تقدّم وسبق القوم ( النهاية : 3 / 434 ) .
( 51 ) معاني الأخبار : 58 / 9 ، بشارة المصطفى : 12 كلاهما عن جابر الجعفي .
( 52 ) عَقَبة كَؤود : شاقّة المصعد ، صعبة المرتقى ( لسان العرب : 3 / 374 ) .
( 53 ) المعالَجة : المزاولة والممارسة ، وعالجتُ بني إسرائيل : أي مارستُهم فلقيتُ منهم شدّة ( مجمع البحرين : 2 / 1254 ) .
( 54 ) سملُ العين : فقؤها ؛ يقال : سُملت عينُه ؛ إذا فُقئت بحديدة محماة ( لسان العرب : 11 / 347 ) .
( 55 ) غَضَّ : وَضَع ونقصَ ( لسان العرب : 7 / 197 ) .
( 56 ) شرح نهج البلاغة : 11 / 43 ؛ بحار الأنوار : 44 / 68 وفيه إلى ” بقلّة ورع ” .
( 57 ) تاريخ دمشق : 42 / 438 ، تاريخ الإسلام للذهبي : 3 / 460 ، شرح نهج البلاغة : 13 / 220 كلّها عن عمر بن عليّ بن الحسين .
( 58 ) أنساب الأشراف : 2 / 407 .