الأخلاق عند الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

الأخلاق عند الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

 العلامة محمد أمين زين الدين

(إن الله ارتضى لكم الإسلام ديناً، فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق) الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

الخلق

كلمة الخُلُق تستعمل في اللغة بمعنى السجية، وبمعنى الطبع، والعادة، والدين، والمروءة. وقد ذكر اللغويون لكل واحد من هذه المعاني شواهد من أقوال العرب وأمثالها.

وبين هذه المعاني صلة قريبة تكاد تجمعها في إطار واحد. ولعل معنى الكلمة في اللغة واحد وهذه المعاني إفياؤه وظلاله، ولعل هذا المعنى الواحد في اللغة هو الذي يعرفه الخُلُقيون من هذه الكلمة أيضاً، وان كانت النصوص اللغوية قاصرة عن إثبات ذلك.

والخلقيون يعرفون من معنى هذه الكلمة إنها ملكة من ملكات النفس، ويقولون إن أظهر خاصة تتميز بها هذه الملكة هي صدور الأفعال عن الإنسان من دون إِمعان فكر أو أعمال روية.

ويقول بعض الخلقيين (الخلق صورة الإرادة) ولعل هذه القائل يحاول أن يبدل البيان ببيان آخر أكثر منه وضوحاً، وأوفى شرحاً، إلا إنه لم يفلح في هذه المحاولة فاضطره الغموض إلى شرح طويل، أبعد فيه المعرف عن التعريف، وإذا كان يريد من لفظ الصورة: الملكة الكامنة في النفس، والمسخرة للإرادة حين العمل لم يكن بين التعريفين مخالفة.

لكل إنسان في نفسه صفات كثيرة العدد، متباعدة الآثار، كالوفاء، والصدق، والسخاء، والشجاعة. وهذه الصفات مصدر لأكثر أعماله، والخلق من هذه الصفات النفسية هو ما تركز في النفس، وانطبعت به انطباعاً كاملاً.

والعلماء الخلقيون يبحثون في الدرجة الأولى عن هذه الملكات النفسانية من حيث إنها تتصف بالاعتدال والانحراف وتقبل التحوير والتهذيب، أما الأعمال التي يصدرها الإنسان باختياره، والتي يحكم عليها العقلاء بالخير أو بالشر فيسميها الخلقيون سلوكا، ويبحثون فيها بحثاً ثانوياً، من حيث إنها مظهر خارجي للخلق الكامن، ولأن العمل من ناحية أخرى هو المفتاح لتهذيب، الصفة النفسية إذا كانت منحرفة، ولانحرافها إذا كانت مستقيمة.

ولذلك فلا يمكننا أن نعتبر العمل الاختياري موضوعاً لعلم الأخلاق، وان أصر على هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين وأطال في شرحه وإيضاحه، لا يمكننا ذلك لأن هذا الرأي لا يتفق مع أصول العلم.

موضوع هذا العلم هو (الخلق ) والخلق صفة نفسية وليست عملاً من الأعمال، وان كان العمل الاختياري مظهرها الخارجي، والأستاذ يقيم على هذا التأسيس أشياء أخرى قد نعرض لبعضها فيما يأتي.

والخلق لا يمكن أن يكون وليد مصادفة، ونتيجة اتفاق، لأن الأخلاق ملكات، ولابد للملكات من أسس كما لابد للبناء من قاعدة، وأسس الخلق: الغريزة، والوراثة، والبيئة، والتربية، والعادة. والفلاسفة القدماء حين يقولون: (يولد الإنسان صحيفة بيضاء يرسم فيها المربي ما يشاء) يريدون بذلك أن نفس الطفل مرنة الغرائز، سريعة التأثر والانطباع بإشارات المربي وإِرشاداته، لأن غرائز الطفل لا تزال بعد في جدتها، لم تسيره إلى وجهة خاصة، ولم تكسبه خلقاً معيناً، فهي قابلة للتوجيه، ومستعدة للتهذيب، وإذن فهم يريدون من بياض صحيفة الطفل خلو نفسه من الملكات الخلقية، لا عريها عن الغرائز والطبائع الموروثة، والمربي يكسبها أخلاقاً لا ينشىء فيها غرائز، وهم يقولون هذا في الرد على من يقول: الإنسان خيِّر بالطبع، ومن يقول: هو شرِّير بالجبلَّة.

ولنترك الأستاذ أحمد أمين يفسر قولهم هذا بما يشاء ليخطئهم في الرأي، وليدل على خطأهم بأعمال الغريزة في الإنسان حين يولد، لقد فسر على ما اشتهى، ثم أشكل على ما فسر.

أما قانون الوراثة الذي أشار إليه الأستاذ هنا، والذي بني عليه هدم هذه النظرية فلا يدل على أن الطفل يرث من أسلافه أخلاقاً، وكل ما يدل عليه أن الطفل يرث منهم مبادئ أخلاق، واستعداداً في غرائز، والفلسفة القديمة لا تنكر ذلك، والشرع والأدب العربي القديم يعترفان بذلك أيضاً. وتأثير هذه الأسس في تكوين الخلق الإنساني ليس على نهج واحد، فإن الغرائز تظهر أشكال ميول ورغبات، والوراثة تحوير في استعداد الغريزة، وأثر التربية أو البيئة توجيه النفس عند إرادة العمل، وأثر العادة تثبيت الصفة الحادثة إحالتها خلقا، وإذن فمبادئ الخلق

تنحصر في صنفين:

1- اختياري يفتقر وجوده إلى إرادة الإنسان واختياره، ومن هذا القسم: العادة، وبعض مفردات التربية، والبيئة، كالمدرسة والأصدقاء.

2- اضطراري لا حكومة لإرادة الإنسان على وجوده وان كانت لها حكومة على تأثيره، ومن هذا القسم: الغريزة. والوراثة، والبعض الآخر من مفردات البيئة والتربية.

والإمام الصادق (عليه السلام) يصرح بهذا التقسيم فيقول: (إن الخلق منحة يمنحها الله خلقه فمنه سجية، ومنه نية) ويفسر لفظ السجية بالجبلة في بقية الحديث فيقول: (صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره؛ وصاحب النية يصبر على الطاعة تصبراً فهو أفضلهما) ويقابل السجية بالنية وهي الإرادة.

ومعنى الحديث أن الخلق الحسن منه ما تسوق إليه الجبلة، وتبعث إليه الفطرة، وهذا القسم لا يجد الإنسان صعوبة في تكوينه، ولا في الاستمرار عليه، ومنه ما يكون على خلاف ميول الإنسان ورغباته؛ وهذا القسم هو الذي يحتاج إلى مجاهدة النفس في تكوينه، وإلى مصابرتها في الاستمرار عليه، فهو أفضل القسمين؛ وإرجحهما في الميزان.

وإذا وجهنا نظرة فاحصة نحو هذه الأسس رأينا للعادة خاصة لا تتمتع أخواتها الأخرى بنظيرها، للعادة أن تستقل في تكوين أي خلق من أخلاق الإنسان، وليس للغريزة ولا للأسس الأخرى مثل النفوذ والاستقلال، لأن الخلق ملكة، والملكة لا تتكون للنفس إِلا بتكرار العمل.

ونتيجة هذا إن جميع الأسس الأخرى محتاجة إلى انضمام العادة إليها في تكوين الخلق النفسي، وان للعادة سلطاناً على تغيير كل خلق يتصف به الإنسان، وان للعقل سيطرة على تهذيب الغرائز، لأن له سلطاناً على تحوير العادات.

والإمام الصادق (عليه السلام) يقرر هذه النتيجة فيقول: (ما ضعف بدن عما قويت عليه النية).

تهذيب الغرائز النفسية جهاد، وفي الخروج على مؤثرات البيئة والوراثة عناء وصعوبة، ولكن جميع ذلك سهل على الإرادة القوية، ولا خير في الرجل إذا لم يكن قوي الإرادة.

ويقول أيضاً: (إن الله ارتضى لكم الإسلام ديناً فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق) الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده إكراماً لهم وامتناناً عليهم، به ينجحون في الدنيا، وبأتباعه يفلحون في الآخرة، فيجب عليهم أن يجاهدوا الخلق السيئ من أنفسهم، لأن الإقامة على الأخلاق السيئة إساءة لا تلتئم مع قدسيَّة الإسلام، هكذا يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه هذا، وإذن فهو يرى أن تهذيب الأخلاق ممكن وان كان جهاداً، وعلى هذا النهج وبمثل هذه النغمة يقول: (من أساء خلقه عذب نفسه).

سوء الخلق عذاب يختاره الإنسان لنفسه إذا أساء خلقه، وهو جحيم يجب على العاقل أن يتخلص منه، هو عذاب لأنه ضعة في النفس وخمود في العقل، وهو عذاب لأنه نقص في الإنسانية، وشذوذ عن التوازن، وهو عذاب يختاره الإنسان لنفسه، لأنه هو الذي يسعى في تكوينه، والإمام بقوله هذا يحاول أن يجعل من إرادة الإنسان سلاحاً ماضياً لكفاح الرذائل ومحاربة النقائص.

ومن الخلقيين من يرى أن الأخلاق انطباعات نفسية يستحيل عليها التحوير والتهذيب، فليس للعقل عليها آية حكومة, وليس للإرادة على تغييرها آية قدرة، وهذه نظرية مجحفة تهدم بناء السياسات وتلغى فائدة التشريع، وتبطل نظم الأخلاق وهذه النتائج وحدها كافية في إبطال هذا القول.

أما قول الإمام الصادق في حديثه المتقدم: (صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره) فلا يعني به أن من الأخلاق ما يستحيل عليه التهذيب؛ وإنما يعني أن تكوين الخلق بسبب العادة فقط أكثر صعوبة على الإنسان مما إذا تساعدت على إنشائه الغريزة والعادة، فإن الإرادة إذا صادفت ميلاً غريزياً أسرعت إلى العمل، وبتكرار العمل تحصل العادة، ويتركز الخلق، وهما عند المكافحة والتهذيب على العكس من ذلك، لأن تغيير مجرى العادة أسهل بكثير من تعديل مجرى الغريزة.

وطالما سماه الصادقون من أهل البيت (عليهم السلام) جهاداً وما أحقه بهذه التسمية، لأن الثبات فيه يستدعي حزم المجاهد وللمناضل فيه أجر المجاهد، وقد قال أبوهم النبي (صلى الله عليه وآله) لبعض سراياه عند رجوعها من الحرب، (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر).

ثم فسر لهم الجهاد الأكبر الذي بقي عليهم بجهاد النفس على أخلاقها، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (واجعل نفسك عدواً تجاهده). وهو يريد بالنفس هنا ملكاتها الوضيعة. ومن أحق بالمجاهدة من هذا العدو المخادع، والخصم الألد، الذي يحمل سلاح العذر تحت ستار النصيحة، ويمزج السم القاتل بحلاوة الأمل هي عدو داخلي يحب إخضاعه بقوة العدل لحكومة العقل.