صراط الحق الجزء ١

صراط الحق20%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132003 / تحميل: 7356
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

علم الكلام

صراط الحق

في المعارف الإسلامية والأُصول الاعتقادية

بقلم: محمّد آصف المحسني

الجزء الأوّل

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

هذه طبعة ثالثة لهذا الكتاب، قام بها الخيّر الموفّق السيد يعقوب - أيّده الله تعالى لخدمة الدين وأهله - صاحب مكتبة ذوي القربى.

بإجازتي، وأرائي الجزء الأوّل بعد طبعة ووجدته جيداً مرغوباً فيه، وأصلحت بعض أخطائه المطبعية الباقية وغيّرت بعض مطالبه زيادةً ونقصاً، بمقدار قليل.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبّل منه ومني أَوّلاً، ثمّ أسأله أن يجعله نافعاً لأهل العلم طلاّب الحقيقة.

المؤلّف المحتاج إلى رحمة ربّه وغفرانه  

أفغانستان - كابل        

شعبان المعظّم سنة ١٤٢٧ هـ. ق  

الشهر السادس سنة ٨٥ / ١٣ هـ. ش

٥

الإهداء

أهدي كتابي هذا إلى ساحة خاتم الأوصياء، وقائم الأولياء، ولي العصر، وناموس الدهر، الحجّة ابن الحسن - عجّل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا من أعوانه - قائلاً لحضرته الكريمة متضرّعاً ومتواضعاً:

( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) بمحض فضلك ( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ) بقبولها واجعلها ذريعةً إلى انتفاع روّاد العلم وهواة الحق ( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) .

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الملهم عباده الحمد، وفاطرهم على معرفة ربوبيته، الدال على وجوده بخلقه، وبحدوث خلقه على أزليته، وباشتباههم أن لا شبه له، المستشهد بآياته على قدرته وعلمه وحكمته، الممتنع من الصفات ذاته، ومن الأبصار رؤيته، ومن الأوهام الإحاطة به، لا أمد لكونه، ولا غاية لبقائه.

والصلاة والسلام على سيدنا وسيد العالمين محمد خاتم المرسلين، وعلى آله الأئمة المعصومين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

المطالب الحاضرة في هذا الكتاب، هي غاية ما وصل إليها فكري من طريق البرهان العقلي والاستدلال النقلي، على ضوء الإنصاف، ونمط الاعتدال، من غير حماية فئة، أو التعصّب على طائفة، بل ركنت إلى ما قادني إليه الدليل حينما رفضت التقليد، فإنّ (الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله).

فإن أصبت الواقع فالله أشكر ولا أفتخر، وإن أخطأته فإيّاه استغفر وإليه اعتذر.

لكن الرجاء من دائم فضله أن يتقبّل هذا العمل مني، وينفع به المسترشدين، ويهدي به الضالين، إنّه قريب مجيب، وإنّه أرحم الراحمين.

٧

٨

مدخل

الفائدة الأُولى: في تعريف علم الكلام، وموضوعه، وغرضه وغيرها

الفائدة الثانية: في وضع الكلام

الفائدة الثالثة: في بيان الأدلّة

الفائدة الرابعة: في وجوب النظر

الفائدة الخامسة: في جواز التقليد بشرط

الفائدة السادسة: حول الجاهل القاصر في المعارف الاعتقادية

الفائدة السابعة: في الأمر المولوي والإرشادي

الفائدة الثامنة: في تقسيم المفهوم

الفائدة التاسعة: في خواص واجب الوجود

الفائدة العاشرة: في خواص الممكن

الفائدة الحادية عشرة: في امتناع الدور والتسلسل

٩

مدخل

لا بدّ لنا من تقديم فوائد جليلة هامّة أمام المقاصد؛ لِما بينهما من تمام الارتباط وكمال الاتّصال.

١٠

الفائدة الأُولى

في تعريف علم الكلام، وموضوعه، وغرضه وغيرها

قال الفيّاض اللاهيجي في گوهر مراد ما هذا محصّله: إنّ علم الكلام اعتبر على وجهين:

الأَوّل: كلام القدماء، وهو صناعة يقتدر معها على محافظة أوضاع الشريعة، بدلائل مؤلّفة من المقدّمات المسلّمة المشهورة بين المتشرعة، سواء انتهت إلى البديهيات أم لا.

الثاني: كلام المتأخرين، وهو علم بأحوال الموجودات على نهج قوانين الشرع، واحترزوا بالقيد الأخير عن علم الحكمة؛ لعدم اعتبار موافقة الشرع في مفهومها. انتهى.

وقال في المواقف: الكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه.

وعرّفه في الشوارق: بأنّه صناعة نظرية يقتدر بها على إثبات العقائد الدينية.

أقول: التعريف الأَوّل باطل؛ إذ كل علم لا تنتهي مسائله إلى البديهيات، أو إلى ما في حكمها لا يعتنى به.

وأمّا الثاني فسيأتي أنّ القيد المذكور فاسد، فهو تعريف للحكمة دون الكلام.

وأمّا الأخيران فيرد عليهما أنّ مسائل العلم هو نفس العقائد الدينية، وأمّا الصناعة المذكورة فهي من المبادئ التصديقية كما بُيّن في المنطق، ومفاد التعريفين المذكورين هو عكس ذلك.

ثمّ إنّ المراد من الإثبات فيهما، هو الإثبات على الغير دون التحصيل كما صرّح به الجرجاني واللاهيجي، قال الأَوّل في شرح المواقف: العقائد تجب أخذها من الشرع وإن استقل بها العقل، وهو كما ترى؛ ضرورة أنّ جملةً من العقائد ممّا يتوقّف عليه الشرع فيدور هذا، مع أنّ الإثبات على الغير لا يمكن إلاّ بعد التحصيل، ولا موطن له إلاّ علم الكلام.

فالصحيح أن يقال في تعريفه: إنّه مسائل مشتملة على العقائد الدينية الحاصلة من أدلتها اليقينية، وأمّا ما قيل من أنّه علم يبحث فيه عن أحوال المبدأ والمعاد فهو غير متين، فإنّ العلم غير دخيل في مفهوم الكلام، فإنّه مسائل متشتتة جمعها موضوع واحد، أو غرض واحد علم بها عالم أو لا، وتخصيص المعاد بلا مخصّص ظاهر.

وأمّا موضوع هذا العلم ففيه أقوال ثلاثة:

١١

أحدها: ما نُسب إلى المتقدّمين من علماء الكلام، من أنّه الموجود بما هو موجود، لكن من حيث كونه متعلّقاً للمباحث الجارية على قانون الإسلام؛ ليمتاز الكلام عن الفلسفة الإلهية (١) .

ثانيها: ما نُقل عن أكثر المتأخرين من أنّه المعلوم من حيث يتعلّق به إثبات العقائد الدينية (٢) . قال في المواقف (٣) تعلّقاً قريباً أو بعيداً، والأَوّل مثل مباحث التوحيد وصفات الله وأفعاله، والثاني ما يتوقف عليه هذه الأُمور كمباحث الأُمور العامة والطبيعيات.

وإنّما عدلوا عن لفظ الموجود إلى المعلوم؛ ليدخل في العلم مباحث العدم بناءً على رأي مَن ينكر الوجود الذهني، ومباحث أُمور لا يتوقف أحوالها على وجودها خارجاً كما يقال: النظر الصحيح يفيد العلم أم لا؟ ونحو ذلك. ثالثها: ما نُقل عن بعضهم (٤) من أنّه ذات الله سبحانه.

أقول: لا بأس بالقول الأَوّل بناءً على دخول مباحث الأُمور العامة وغيرها في العلم، والتزام الاستطراد فيما لا يرجع إلى أحوال الموجود، غير أنّ ما جعلوه مميّزاً للكلام عن الفلسفة واهٍ جداً، بل لا فرق حينئذٍ بينهما من جهة الموضوع أصلاً.

بيان ذلك: أنّ مسائل الكلام إمّا ما يتوقّف عليه إثبات الشريعة، مثل مباحث إثبات الصانع، وعلمه وقدرته، وامتناع القبح عليه، وإثبات النبوّة ونحوها، وإمّا ما لا تتوقّف عليه فإنّه يستلزم الدور، وأمّا القسم الثاني فإن كان ممّا يدركه العقل ويستقل ويستنكف عنه، بل هو مجبول على اتّباعه فطرةً، فإن وُجد هنا ظاهر نقلي منافٍ لهذا الحكم العقلي، فلا ريب في لزوم تأويله، كما هو المتداول في الكلام والتفسير وغيرهما؛ وسرّ ذلك أنّ الشريعة أُسست من قبل المحيط بجميع الواقعيات، فلا تضاد العقل في أحكامه الصادقة، فنعلم أنّ الإرادة الجدّية من هذا الظاهر غير موافقة للإرادة الاستعمالية البتة.

وإن شئت فقل: إنّ حجّية النقل بالعقل وطرح الأصل لأجل الفرع غير معقول؛ فإنّه ينجر إلى سقوط الفرع وهذا خلف. وأمّا معارضة النقل القطعي مع حكم العقل الجزمي، فهذا غير ممكن ثبوتاً كي نبحث عنه إثباتاً، ولا يُظن بعاقل أن يدعي ذلك في مورد.

وإن لم يكن ممّا يدركه العقل، فإن ثبت بدليل قطعي من الشرع فنعتقد به؛ ضرورة حكم العقل بلزوم تصديق المعصوم عن الكذب والسهو، فهو مثل المستقلاّت العقلية في القبول إلاّ أنّه

____________________

(١) الشوارق ١ / ٧.

(٢) المصدر نفسه / ١٠.

(٣) المواقف ١ / ٢٦.

(٤) لاحظ نفس المصدرين.

١٢

إدراك إجمالي للعقل، بمعنى أنّ العقل يصدّقه وإن لم يحط بوجهه تفصيلاً.

ثمّ إنّ الصحيح هو صحّة حصول القطع من الأدلة النقلية، كما هو واقع وجداناً، فإنكاره - كما عن المعتزلة وجمهور الأشاعرة (١) - لا يستحقّ الجواب، بل لا يُظن بهم أيضاً الالتزام به، كما لا يخفى على الناظر في مسائل العلوم الشرعية، وإن لم يثبت بدليل قطعي بل بدليل ظني، فإن كان الظن المذكور حاصلاً من غير الطرق المنصوبة شرعاً، فهو لا يغني من الحق شيئاً فلا عِبرة به، وإن كان من الطرق الشرعية، فإن كان المورد ممّا اعتبر الشارع العلم في صحة الاعتقاد به، فلا يعتنى بالظن المذكور، وإلاّ فالأظهر - خلافاً لِما نُسب إلى المشهور - هو حجية الظن المذكور، وجواز الاعتقاد بمتعلّقه، كما يأتي في آخر الفائدة الثالثة. وهذا الذي ذكرناه ممّا لا يمكن الشك فيه لمسلم، متكلماً كان أو حكيماً، فأين فائدة هذا القيد؟ وما هو الفارق بين العلمين؟ على أنّ القيد المذكور ممّا لا دخل له في عروض العوارض على الموجود فلا يصح أخذه في الموضوع، وإلاّ فتصبح العوارض المذكورة أعراضاً غريبة له، وإذا لم يصح ذلك فلا يكون وجهاً للامتياز، فإنّه عندهم بتمايز الموضوعات، والحيثية المذكورة راجعة إلى البحث دون الموضوع كما عرفت. والصحيح أنّ الفرق بين العِلمينِ من ناحية الغرض؛ حيث إنّ المتكلم يبحث لأجل معرفة العقائد الدينية، والفلسفي لأجل معرفة حقائق الأشياء عقلاً؛ ولذا عُنونت في الكلام مسائل اعتقادية غير مذكورة في الفلسفة؛ لعدم إدراك العقل لها تفصيلاً، ولعلّه واضح.

وعلى الجملة: لابدّ من انتهاء جميع المباحث الكلامية إلى البديهيات والقطعيات وإلاّ لا اعتبار بها، ومن هنا ينقدح أنّ طعن صاحب الشوارق (٢) على هذا العلم بقوله: إنّ الاعتماد على الدلائل الكلامية من حيث هي كلامية غير مجدٍ في تحصيل العقائد الدينية، بل جدواها إنّما هو حفظ العقائد إجمالاً على العقول القاصرة - الغير القادرة على البلوغ إلى درجة اليقين التفصيلي، والتحقيق التحصيلي - غير وارد، بل هذا منه ومن غيره إفراط في القول، وزلة جمع من الكلاميين في عدة من المسائل لا تضرّ بالعلم نفسه، كما أنّ أغلاط قوم من الفلاسفة لا تُحسب على الفلسفة كما لا يخفى.

وأمّا القول الثاني فهو يساوق إنكار الموضوع من أصله؛ ضرورة أنّ المعلوم عنوان انتزاعي لا تأصّل له خارجاً، كيف ولا يعقل الجامع التأصلي بين الوجود والعدم، إلاّ أن يلتزم بتعدّد العلم المذكور حسب تعدّد الموضوعات كالوجود والعدم والحال؟ وهو كما ترى، مع أنّه يدخل في

____________________

(١) شرح المواقف ١ / ٢٠٩.

(٢) الشوارق ١ / ٨.

١٣

هذا العلم بعض العلوم الأُخر أيضاً حسب هذا التعريف؛ لتعلّق العقائد بها ولو بعيداً، هذا مع أنّ الحيثية المذكورة - وهي المعلومية - لا ترتبط بعروض العوارض على موضوعاتها، فلا تكون راجعةً إلى الموضوع أصلاً. فالصحيح هو القول الثالث وإن كان القوم أبطلوه - كما في الشوارق - لوجهين:

الأَوّل: أنّه قد يُبحث فيه عن غير الأعراض الذاتية لذاته تعالى، كمباحث الجواهر والأعراض وغيرها، ولا يصح دخولها في المبادئ فإنّها غير مبيّنة في نفسها، فلابدّ من كونها مبيّنةً في علم آخر يكون هو أعلى من الكلام، وهو باطل اتّفاقاً. أقول: وفيه ما لا يخفى فلا مانع من إدراجها في المبادئ.

الثاني - وهو العمدة -: أنّ البحث عن وجود الموضوع خارج عن مسائل العلم، فإنّها مشتملة على إثبات العوارض الذاتية للموضوع، وإثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، فلابدّ وأن يكون وجود الموضوع بنحو (كان التامة) مفروغاً منه في كل علم؛ ليتمركز البحث عن أحواله وأطواره، وبناءً عليه لا يجوز جعل ذاته تعالى موضوعاً لعلم الكلام؛ لأنّ إثباته غير بيّن في نفسه، فلابدّ من تبيينه في علم آخر، أو في مبادئ هذا العلم، مع أنّه من أهم مقاصد الكلام.

أقول: قد ذكرنا في تعليقتنا على كفاية الأُصول أنّ ما قالوه - من أنّ موضوع كلّ علم ما يُبحث فيه عن عوارضه الذاتية - ممّا لا دليل عليه، وعليه فنقول: إنّ موضوع كلّ علم ما يُبحث عنه وعن أحواله، وهذا التحديد لا يخرج عن الاستحسان العقلائي، الذي هو السرّ في تشعّب العلوم وتعنون المسائل بعنوان ما، وحينئذٍ يصحّ جعل واجب الوجود موضوعاً لعلم الكلام، فإنّ البحث فيه حوله وحول صفاته وأفعاله، فيكون البحث عن إثبات وجوده أيضاً من مسائل العلم، وإن كان بالنسبة إلى بقية المسائل من المبادئ، ولا غرو في أن تكون القضية الواحدة من المسائل باعتبار نفسها ومن المبادئ باعتبار غيرها، بل هو واقع في العلوم. هذا مع إمكان دعوى بداهة هذه القضية وكونها بيّنةً في نفسها، فإنّ اختلاف الماديين في الصفات دون أصل المبدأ كما يأتي.

وأمّا غرضه فهو عرفان الحقائق الدينية والأُصول الاعتقادية كما يظهر من الكلمات المتقدّمة. وأمّا إرشاد المسترشدين، وإلزام المعاندين، وحفظ قواعد الدين من شُبه المبطلين، فهي من الفوائد والآثار، وليست من الأغراض كما لا يخفى.

وأمّا شرف هذا العلم فهو غني عن البيان، فإنّه في غاية السمو ونهاية العلو،

١٤

أَوَ ليس من ثمراته سعادة الإنسان الأبدية وخلوصه عن العذاب الدائمي؟! ولعمري إنّ إطالة الكلام هنا لغو فإنّ العيان بنفسه يغني عن البيان، فكيف إذا وافقه البرهان والقرآن؟!

وأمّا وجه تسميته بالكلام فهو؛ إمّا لأنّه بإزاء المنطق للفلاسفة، أو لأنّ أبوابه عنونت أَوّلاً في كتب القدماء بـ (الكلام في كذا) فسُمّي العلم به، أو لأنّه يورث القدرة على الكلام في الأُصول الشرعية، أو لأنّ مسألة الكلام - أعني قِدم القرآن وحدوثه - أشهر أجزاء هذا العلم، حتى آلَ الأمر فيه إلى التضارب والتقاتل (١) ، أو لتكلّم أربابه في صفات الله وأفعاله. والأخيران أقرب من غيرهما.

____________________

(١) ففي التمدّن الإسلامي ٢ / ١٠٧: ضرب المعتصم العباسي أحمد بن حنبل على عدم إقراره بخلق القرآن ضرباً عظيماً، حتى غاب عقله وقطع جلده وحبس مقيّداً.

١٥

الفائدة الثانية

في وضع الكلام

لما توفّي النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقع الخلاف بين أصحابه في الخلافة والإمامة، وما تمكّنوا من حفظ توحيد الكلمة كما كانوا عليه في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّ حزب أبي بكر - الخليفة الأَوّل - وإن غلبوا في ذلك الوقت على أخذ السلطة التنفيذية، وعزل مخالفيهم عن تدبّر الأُمور، إلاّ أنّ النزاع لم يرتفع به، بل أصبح من أهم العوامل المؤثّرة في شؤون المجتمع الإسلامي، فهو الأساس لتشعّب المسلمين إلى فرقتين: الشيعة وغيرها، وهو البذر لحروب الجمل والصفين والنهروان وكربلاء وغيرها، وهو المحور للاختلاف في القوة التشريعية، فتشتّت المذاهب والآراء في الأُصول والفروع.

وممّا وسّع هذا الاختلاف خروج طاغية الشام على أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد قتل عثمان، فإنّه بغى واستكبر فصار من المفسدين، ومن سوء الاتّفاق أنّه علا أمره، واستولى على ما أراد، فأتاح الأمر لمَن بعده من آل أمية، الذين هم شر قبائل العرب (١) ، وأنّهم أبغض الأحياء أو الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، فآلَ الأمر إلى انعزال عترة النبي من السلطة التعليمية والإرشادية أيضاً، بعدما افتقدوا السلطة التنفيذية والإجرائية. والناس على دين ملوكهم. فقام أُناس - لا صلاحية لهم - في المجامع الدينية العلمية، وتصدّوا لتدريس الأُصول وتطبيق الفروع، وكلّما دخلت أُمّة لعنت أُختها، وكأنّ القرآن ينظر إليهم حيث يقول: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (٣) . وبما أنّه لم يكن لهم ميزان علمي، ولا أصل موضوعي، ولا قانون كلي، تكثّرث آراؤهم وتباينت أنظارهم، فاتّسعت الخوارج، وتولّدت المرجئة، وتكوّنت المعتزلة، وقامت الجبرية (٤) ، وظهرت الأشعرية وهكذا.

____________________

(١) قال ابن حجر في تطهير الجنان واللسان / ٣٠: إنّه حديث حسن.

(٢) وفي نفس المصدر: قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.

(٣) القصص ٢٨ / ٤١.

(٤) قُتل رئيسهم جهم بن صفوان في آخر مُلك بني أُميّة كما في الملل والنحل.

١٦

كل ذلك؛ لعدم مرجع لائق ديني يلم شَعث المسلمين، ويدير الحوزة العلمية.

وقد حكي (١) أنّه لمّا قيل لابن أبي العوجاء تلميذ الحسن البصري (٢١ - ١١٠هـ): لِمَ تركت مذهب صاحبك - الحسن - ودخلت فيما لا أصل له (أي الزندقة)؟ أجاب: إنّ صاحبي كان مخلِطاً، كان يقول طوراً بالعدل وطوراً بالجبر، وما أعلمه أعتقد مذهباً دام عليه... فإذا كان هذا حال الحسن - وهو من دعائم هذه الطريقة وأساطين هذه المدرسة - فما حال غيره؟!

وقد قيل في حقّه أيضاً (٢) : إنّه كان يلقى الناس بما يهوون، ويتصنّع للرئاسة، وكان رئيس القدرية، وكان يبغض علياً، ويُنقل حبّه له أيضاً، فإذا كان المصدر للمعارف الدينية أمثاله فما ظنّك بالمتعلّمين والمقلّدين؟

ولذا اخترع واصل بن عطاء (٨٠ - ١٣١ هـ) مذهب الاعتزال؛ حينما ألقى مسألةً بسيطة على أُستاذه - الحسن هذا - فعجز عن إقناعه، وقد علا أمر المعتزلة في المسائل الكلامية، فإنّ مطالبهم أقرب إلى الأحكام العقلية في الجملة، وربّما استفادوا من الفلسفة اليونانية لتصحيح مبانيهم، وللفلسفة المذكورة تأثير كبير في علم الكلام وتشتّت آراء المتكلمين.

وأمّا مخالفو المعتزلة فلم يكن لهم القوة في الكلام، حتى خالف علي بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري (٢٦٠ أو ٢٧٠ - ٣٣٠ على قول) في مسألة - نذكرها مع جوابها في موطنها المناسب من هذا الكتاب - أُستاذه المعتزلي محمد بن عبد الوهاب المعروف بأبي علي الجبائي (٢٣٥ - ٣٠٣ هـ)، فرجع عن مذهبه حينما لم يفهما حلّ المسألة، فتاب الأشعري من القول بخلق القرآن، والعدل، وعدم رؤية الله بالأبصار، ونحوها ممّا عليه أُستاذه (٣) ! وسعى في تدوين تلفيقات سلفه حتى سُمّي المذهب باسمه، وله أقوال عجيبة ربّما تصادم الضرورة كما تقف عليها في هذا الكتاب.

قال معين الدين الأيجي الشافعي (٤) ، واعلم أنّه - أي الأشعري - قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له، مع أنّه منافٍ لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث... إلخ.

وهكذا خلفَ من بعدهم خلف أضاعوا الحق، واتّبعوا الميول والأهواء، وابتعدوا عن السفينة المنجية المحمدية، إلاّ القليل ممّن استقاموا على الطريقة الوسطى، فالتزموا العترة الهادية عن بكرة أبيهم، فانقادوا في كلّ عصر لإمامه من أئمة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذوا عنهم الأُصول والفروع.

____________________

(١) بحار الأنوار ٣ / ٣٣.

(٢) رجال المامقاني ١ / ٢٧٠.

(٣) لاحظ فهرست ابن النديم / ٢٧١.

(٤) إحقاق الحق ١ / ١٠٠.

١٧

ونبغ منهم في كلّ عصر رجال أفذاذ وأعلام هداة، وأَوّل مدرسة تخرّج فيها هؤلاء الجهابذة الإسلاميون، هي مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) ، وهذا كتاب نهج البلاغة بين يديك وهو يدلّك على حقيقة الحال، ففيه أسرار التوحيد، وخفايا التنزيه، ومزايا المعارف الاعتقادية، وكليات القوانين الاجتماعية، والسنن الأخلاقية، والرسوم السياسية وغيرها.

ثمّ اتّسعت هذه المدرسة واشتهرت في عصر الإمامين العظيمين: الباقر والصادق عليهما‌السلام حتى عدّوا المتدرّسين فيها إلى أربعة آلاف، وقد تخرّج فيها الأكابر المتبحّرون والعلماء الكاملون، أمثال هشام بن الحكم، ومؤمن الطاق، ويونس وزرارة، وكثير من أقرانهم، فتحمّلوا من علوم آل نبيهم، وروّجوا ما تنوّر به المجامع العلمية الإسلامية والعالمية.

والمذاهب المتقدّمة (٢) حيث لم تتمكن من مقاومة هذه المدرسة في ميدان العلم والفضيلة، قابلتها بالظلم والتعدّي والافتراء؛ فلذا نُسب إلى بعض هؤلاء الكاملين القول بالتشبيه، وإلى آخر منهم القول بالتجسّم، وإلى ثالث الاعتقاد بحدوث صفات الله، وهكذا، بل جعل لكل من هؤلاء المنقادين لإمامهم الصادق عليه‌السلام مذهب على حدة! ولم يزل هذا الوضع المشؤوم إلى يومنا هذا، يوم النور والتفكير، فما من كتاب من هؤلاء الجماعة المتقدمة، إلاّ وفيه أباطيل منسوبة إلى الشيعة وهم براء منها، وكم وقع عليهم الظلم والعدوان:

وكان ما كان ممّا لست أذكرُه فظنْ خيراً ولا تسألْ عن الخبرِ

والله الهادي... وقد تحصّل ممّا سطّر - إن لم تغلب العصبية على العاقلة - أنّ الأقدمين في علم الكلام وغيره من العلوم الشرعية هم الإمامية؛ لأنّهم أَوّل مَن شرعوا في التأليف والتدوين، فما في جملة من الكلمات من نسبة المسائل إلى المعتزلة أو الأشاعرة، ثمّ نسبة المتابعة والموافقة إلى الإمامية؛ إمّا جهل أو عناد، بل كثيراً ما يُهمل نقل أقوالهم لجهات غير خفية على الخبير. ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين.

____________________

(١) قال ابن النديم في الفهرست / ٢٦٣: أَوّل مَن تكلم في مذهب الإمامة علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار، وميثم من أجلّة أصحاب علي (رضي الله تعالى عنه) ولعلي من الكتب كتاب الإمامة، كتاب الاستحقاق.

أقول: قد سبق علياً غيره، فلاحظ مقدمة وسائل الشيعة المطبوعة حديثاً؛ حتى تعلم أنّ الشيعة ابتدؤوا بتدوين الكتب من بدو ظهورهم.

(٢) قال الشهرستاني في أوائل مِلله ونحله: أمّا رونق علم الكلام فابتداؤه من الخلفاء العباسية هارون وغيره، وانتهاؤه من الصاحب بن عبّاد وجماعة من الديالمة. وقيل: أَوّل مَن تكلّم في علم الكلام أبو هاشم ابن محمد بن الحنفية.

١٨

الفائدة الثالثة

في بيان الأدلّة

المسائل اليقينية إمّا ضروريات أو نظريات منتهية إليها قطعاً. والضروريات المذكورة ست:

منها: الأوّليات: وهي ما لا يتوقف إدراكه على شيء زائد من تصوّر طرفيه، وإن كان هذا التصوّر كسبياً، كقولنا: الممكن محتاج، وتُسمّى بالبديهيات أيضاً.

ومنها: الحسّيات: وهي ما يحكم العقل به بواسطة إحدى الحواس، فإن كانت ظاهرةً تسمّى المشاهدات، وإن كانت باطنةً - وهي الحس المشترك (بنطاسيا) والخيال، والواهمة، والحافظة - تسمّى الوجدانيات (١) ، وفيها يدخل ما تدركه النفس لا بتوسّط الآلات، مثل شعورنا بذاتنا وبصفاتنا النفسية، كالخوف، والسرور، والحزن، والجزع، والشبع ونظائرها.

قال المحقّق اللاهيجي في بحث أعراض الشوارق: ويدخل في المشاهدات الباطنية: الوهميات التي جعلها بعضهم قسماً سابعاً، وذلك ما يحكم به الوهم في المحسوسات فيصدّقه العقل في ذلك، نحو كلّ جسم فهو في جهة، ولا يكون جسم واحد في مكانين، فإنّ العقل يصدّق الوهم في أحكامه على المحسوسات لا على المجرّدات والمعقولات، كحكمه بأنّ كلّ موجود في جهة أو مكان... إلخ.

ومنها: المتواترات: وهي ما يحكم العقل به لكثرة أخبار المخبرين، بحيث يزول معها الشك والاحتمال بتواطؤ المخبرين على الكذب، ثمّ إنّ إفادة التواتر اليقين موقوف على أمور:

١ - كون المخبر عنه أمراً محسوساً؛ إذ لو كان أمراً حدسياً لَما حصل اليقين منه؛ لاحتمال خطأ الجميع في حدسهم كخطأ الفرد، وهذا بخلاف الحسّيات حيث إنّ وضوحها ينفي هذا الاحتمال، وخالف فيه الفارابي (٢) فذكر أنّه لا حجّة أقوى من اجتماع الآراء على شيء واحد، بل هو ظاهر جماعة من المتكلّمين، حيث استدلّوا على إثبات الصانع بإجماع الأنبياء والعقلاء،

____________________

(١) قيل: الفرق بين الوجدان - بكسر الواو - والوجدان - بضمّها -: إنّ الأَوّل يُطلق على القوةّ المدركة، والثاني على إدراكها. وقيل: المتداول إطلاق كلّ منهما على كلّ من المعنيين.

(٢) رهبر خرد / ٢٣٦.

١٩

وعلّلوه بأنّ اتّفاق جمّ غفير من الأذكياء على شيء يوجب اليقين بصحّته؛ إذ من المحال عادةً أن يتّفقوا على أمر غير واقع، بل ذكر العلاّمة المجلسي رحمه‌الله (١)، أنّ ما يُجمع عليه العقلاء لا يكون إلاّ ضرورياً أو قريباً من الضروري، وبه استدلّ على استحالة النقص على الله تعالى.

أقول: حصول العلم يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، لكن الدليل حينئذٍ لا يكون إلزامياً، ولعلّ الغالب هو عدم حصول العلم منه في الحدسيات.

٢ - عدم العلم بالمخبر عنه قبل حصول التواتر لاستحالة تحصيل الحاصل.

٣ - عدم انتهاء الناقلين في تمام الطبقات والأدوار إلى عدد قليل يجوز تبانيهم على الكذب.

٤ - صفاء الذهن بالنسبة إلى المخبر عنه، وعدم الاعتقاد على خلافه، وإلاّ لم يفد العلم. ذكره السيد المرتضى قدّس سره وقَبِله عنه الآخرون، ووجهه واضح.

وأمّا اشتراط الإسلام، والعدالة، واختلاف النسب، وعدم جمعهم في بلد، وتعيين عدد خاصّ من الناقلين، كالخمسة أو العشرين أو الأربعين أو السبعين أو ثلاثمِئة، فغير لازم قطعاً، بل بعضها جزاف.

ثمّ إنّ التواتر على أقسام ثلاثة:

الأَوّل: التواتر اللفظي: وهو اتّفاق الناقلين على ألفاظ الخبر وعباراته، كتواتر ألفاظ القرآن، وحديث المنزلة، وحديث الغدير ونحوها.

الثاني: التواتر المعنوي: وهو تواطؤهم على معنىً واحد وإن اختلفت ألفاظهم، سواء كانت دلالة الألفاظ على المعنى المخبر عنه بالمطابقة، أو بالتضمّن، أو بالالتزام، وهذا مثل ما ورد من الأخبار الحاكية عن شجاعة علي عليه‌السلام .

الثالث: التواتر الإجمالي: وهو نقل الوقائع الكثيرة، فإنّه يحصل العلم بوقوع بعضها عادةً، وإن كان كل واقعة بخصوصه مشكوكاً فيها، وأورد عليه الأُصولي الشهير المحقّق النائيني قدّس سره (٢) ، بأنّ الأخبار إذا بلغت من الكثرة ما بلغت، فإن كان بينها جامع يكون الكلّ متّفقاً على نقله فهو راجع إلى التواتر المعنوي، وإلاّ فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز الكذب على كلّ منها في حدّ نفسه.

ويدفع أَوّلاً: بجريانه في القسمين الأَوّلين أيضاً وهو لا يلتزم به.

وثانياً: أنّه شبهة في مقابل البداهة، أَليس مَن لاحظ كتاب التهذيب مثلاً، يضطر إلى القطع بصدور بعض ما فيه عن الأئمة عليهم‌السلام ؟

____________________

(١) البحار ٣ / ٢٣١.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ١١٣.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (1) .

وقد صرّحت آيات أخرى بأن الأمر الملكوتي يتنزّل على عباد اللَّه من دون أن تخصّص من لهم الأمر بالأنبياء والرسل، قال عزّ وجل: ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) (2) .

وحاصل ما ذكرناه من الآيات: أن الأمر من عالم الملكوت والغيب، وأنه مرتبط بتدبير السماوات والأرض وغير مختصّ بالشؤون الدنيوية المادّية، وأن الشرائع وهداية الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولياء اللَّه الأصفياء المجتبين وليس خاصّاً بمقام النبوّة والرسالة، وذلك لارتباطه المباشر بمقام الهداية والإيصال إلى المطلوب، وهو مقام الخلافة والإمامة كما تقدم؛ ولذا قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (3) ، والصبر واليقين للأئمة من أولي الأمر في هذه الآية المباركة إشارة إلى العصمة في مقام العلم والعمل.

ولا يوجد أولو أمر في هذه الأمة بعد رسول اللَّه تجب طاعتهم غير أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ولا يمكن اقتصار الأمر الإلهي على السياسة والأمور الاجتماعية، بل هو أمر ملكوتي من عالم الغيب لهداية الأمة وتدبير السماوات والأرض يتنزّل في ليلة القدر على أولياء اللَّه وأصفيائه، وهؤلاء هم أوصياء رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من بعده الدالّون على أوامره والذين أوكل لهم البيان الشرعي والقانوني للأوامر

____________________

(1) الجاثية: 18.

(2) النحل: 2.

(3) السجدة: 24.

١٦١

الإلهية والنبويّة، فكما أن الدالّ على أوامر اللَّه ونواهيه هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمره ونهيه، كذلك الدالّ على أوامر الرسول الأكرم ونواهيه أولو الأمر من بعده بأمرهم ونهيهم، فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر ونهى في ضمن إطار الفرائض الإلهية، وأولو الأمر أيضاً يأمرون وينهون في ضمن دائرة السنن النبويّة المباركة، بما يشبه الحالة التراتبية في التنزّل القانوني الوضعي في الأدوار والصلاحيات، فهم الدالّون على طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان هو دالّا على طاعة ربّه.

وبعبارة أخرى: إن أصول تشريع اللَّه تعالى وفرائضه يتبعها تشريعات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفصيلاً وبياناً، ويتبعها تشريع أولي الأمر على نحو التنزّل القانوني، الذي هو الفتق بعد الرتق، والتفصيل بعد الإجمال، والبسط بعد القبض للتشريعات، وهذه لغة قانونية جعلها اللَّه تعالى جسراً لإيصال أحكامه على ما جرى عليه البشر، كالتشريع للفقه الدستوري ثم النيابي ثم الوزاري، على نحو التبعية بلا منافاة، وهذا برهان قانوني على التشريعات التي لابدّ من طاعتها، فالرتق يُفسَّر ويفتق فتقاً قانونياً تابعاً له.

ويتجلى ذلك المعنى أكثر إذا علمنا أن معظم بيان تشريع الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء هي من تشريعات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فلا تستعلم تلك الأمور مع تركهم والإعراض عنهم وعدم الطاعة لأوامرهم.

إذن؛ الطاعة في الدين بطاعة اللَّه، وطاعة اللَّه بطاعة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر، فالوليّ بعد اللَّه تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد الرسول أولي الأمر، الذين لهم حقّ استنباط الدين وبيانه وتفصيله، قال تعالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ

١٦٢

أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (1) .

والذي يتّضح ممَّا ذكرناه أن طاعة أولي الأمر على حدّ طاعة رسول اللَّه مقترنة بها وشاملة للدين كلّه، كما أن ولاية اللَّه تعالى وطاعته كذلك غير مختصّة ببعض الشؤون السياسية أو الاجتماعية.

فالإتيان بجميع العبادات والطقوس الدينية طاعة لأمر اللَّه وأمر رسوله وأولي الأمر من بعده وهم أهل بيته عليهم‌السلام ، فالعبد ينقاد ويفد على اللَّه تعالى ويتقرّب ويتوجّه إليه بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة مأخوذتان واسطتين في حاقّ عبادة اللَّه تعالى بما فيها عبادة المعرفة، التي هي أعظم العبادات.

ومن ثمّ كان الدين عبارة عن ولاية اللَّه وولاية الرسول وولاية أولي الأمر والطاعة لهم، قال اللَّه تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (2) .

والولاية والطاعة أصالة للَّه وبالتبع للنبيّ وأولي الأمر بإذن وأمر من اللَّه تعالى، كما أخضع اللَّه عزَّ وجلَّ ملائكته ومن خلق من الجنّ وغيرهم لوليّ اللَّه وخليفته آدم بما هو النموذج والمصداق لخليفة اللَّه في الأرض، فكلّ مَن يتسنَّم مقام الخلافة الإلهية لابدّ من الانقياد والخضوع والطاعة له.

____________________

(1) النساء: 83.

(2) المائدة: 55 - 56.

١٦٣

وحيث إن التوجّه والقربة والزلفى لا تحصل إلّا بالطاعة للَّه وللرسول، كذلك لا تحصل إلّا بطاعة أولي الأمر مقترنة مع طاعة اللَّه ورسوله، فلا يمكن قصد القربة في العبادة ولا يحصل القرب إلى اللَّه تعالى في العبادات إلّا بالخضوع والطاعة لوليّ الأمر والإتيان بالعبادة امتثالاً لأمره، تبعاً لأمر اللَّه والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث يستعلم أمرهما بأمره.

واتّضح من ذلك البيان أيضاً أن جميع العبادات فرائض من اللَّه تعالى وسنّة من نبيّه ومنهاج وهدي من أهل بيته عليهم‌السلام وعلى جميع المستويات الاعتقادية والعبادية.

كذلك تبيّن أن مَن يعبد اللَّه من دون التوجّه بحجّة اللَّه ووليّه بطاعته وامتثال أمره، عمله هباء؛ إذ لا تتحقّق منه القربة لعدم الطاعة في مقاماتها الثلاثة وعدم ضمّ الشهادات الثلاث إلى بعضها البعض، فلا يُصار إلى التوجّه إلى اللَّه تعالى إلّا عن طريق آياته وبيّناته، وهم الوسيلة إليه في المقامات الثلاثة التي ذكرناها في صدر البحث، بل في الدين كلّه.

ولو كان إقحام اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره والتوجّه القلبي إليه وإلى أولي الأمر موجباً للشرك، لَمَا قرن اللَّه تعالى طاعته بطاعتهم، فليس إنكار التوسّل والواسطة إلّا دعوة إلى التفريق بين اللَّه ورسوله وأولي الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، وهذه هي عبادة الشرك التي آمن بها إبليس؛ الذي أراد أن يفرّق بين طاعة اللَّه وطاعة خليفته، بخلاف الملائكة أهل عبادة التوحيد الذين خضعوا للَّه ولوليّه آدم عليه‌السلام .

ثم إن مورد هذه الآية وهي آية ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

١٦٤

مِنْكُمْ ) (1) التي حكمت بوجوب الطاعة، هو الدين كلّه، فكما أن طاعة اللَّه عزّ وجل في الدين كلّه، كذلك ما اقترن بها من طاعة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر من أهل بيته عليهم‌السلام .

وما ورد من قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) لبيان أن محلّ بدن الخليفة هو الأرض، ولكن خلافته ليست خاصّة بالأرض، ومن ثمّ أُطوع له جميع الملائكة في جميع النشآت؛ والشاهد على ذلك أيضاً تقديم الجار والمجرور (في الأرض) على الخليفة، فالدين الذي هو معرفة اللَّه تعالى عامّ لا يستثنى منه أحد في جميع النشآت، ومن ثمّ تكون جميع المخلوفات مكلّفة بالطاعة لأولي الأمر؛ ولذا أمر اللَّه تعالى الملائكة بالسجود بما فيهم إبليس، وهو من الجنّ، فخلافة وطاعة أولي الأمر وولايتهم لا تحدّ بالجنّ والإنس ولا بأمر سياسي أو اجتماعي، والكلّ يبتغي إلى اللَّه الوسيلة ويخضع لولي اللَّه في توجّهه إلى خالقه، والتوجّه إلى اللَّه من دون التوجّه إليه بطاعة نبيّه ووليّه نجس وشرك ووثنيّة قرشية.

ونيّة القربة إذا لم تكن على هذا المنوال في العبادة لا تقبل؛ لعدم تفتّح الأبواب بالآيات.

وبذلك كلّه يتمّ ما ذكرناه من شرطية التوسّل والتوجّه في المقامات الثلاثة المتقدّمة، استناداً إلى وجوب الطاعة في مراتبها الثلاث.

____________________

(1) النساء: 59.

١٦٥

الدليل الرابع: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته بأعظم العبادات

لقد رفع اللَّه عزّ وجل ذكر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرنه باسمه في مجمل العبادات التي تقع في مصافّ أسس الدين وأركان الإيمان؛ من حيث محوريَّتها في المنظومة الدينية، ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الشواهد في هذا المجال:

الشاهد الأول: الإتيان باسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تشهّد الصلاة، حيث إن الصلاة على النبي وأهل بيته راجحة بإجماع المسلمين (1) ، وهي شرط واجب في الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامية، كمذهب أهل البيت عليهم‌السلام (2) وبعض فقهاء المذاهب الأخرى (3) ؛ تمسّكاً بما روته عائشة من الوجوب، حيث روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (لا يقبل اللَّه صلاة إلّا بطهور والصلاة عليّ) (4) . وقد بيّن النبي الأكرم الصلاة عليه عندما سُئل عن كيفيّتها، فقال: (قولوا: اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد) (5) ، كذلك يستحبّ الصلاة على النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله بعد القنوت في الصلاة، جزم بذلك النووي تبعاً للغزالي في المُهذّب ونسبه إلى الجمهور (6) . ولا شك أن ذكر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام نوع دعاء لهم وتحيّة وسلام، ونوع توجّه لهم بالمحيى والدعاء.

____________________

(1) لاحظ: النووي، المجموع، ج3، ص460 وما بعد.

(2) الشيخ الطوسي، النهاية، ص89.

(3) الرافعي، فتح العزيز، ج3، ص504، والنووي، المجموع، ج3، ص467 وغيرهم.

(4) سنن الدارقطني، ج1، ص348.

(5) صحيح البخاري، ج4، ص118، والوسائل، أبواب الدعاء، ب 36.

(6) المجموع، ج3، ص499.

١٦٦

وهذا يعني أن المصلّي في صلاته - التي هي الركن الركين في العبادات، والموجبة للعروج والقربان من اللَّه تعالى، إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها - على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام يتوجّه بالدعاء وإلقاء التحيّة والسلام لكي تقبل صلاته وتوجب مزيداً من القرب إلى اللَّه تعالى، فالصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهية، لكي تكون صحيحة مقبولة عند اللَّه تعالى، أو موجبة لمزيد القرب منه، وإذا كانت الصلاة كذلك، فكيف بباقي العبادات الأخرى؟!

ولو كان إقحام اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام في الصلاة والتوجّه إليهم بالقلب موجباً للشرك، لَمَا كان الأمر فيها على هذه الحال، فالفرق بين صلاة المشركين وصلاة الموحّدين في أن صلاة المشركين تفتقد لذكر النبيِّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، بخلاف صلاة المسلمين؛ حيث يقرن فيها اسم النبيِّ الأكرم إلى جانب ذكر اللَّه تعالى.

وقد قُرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخرى، غير الصلاة، باستحباب الصلاة على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كاستحباب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا فرغ الحاج من التلبية في الحجّ (1) ، واستحباب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذبح الهدي أو الأضحية (2) ، وقد جعلت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد أركان الخطبة في صلاة الجمعة (3) .

____________________

(1) الأم، الشافعي، ج2، ص171.

(2) المجموع، النووي، ج8، ص412.

(3) روضة الطالبين، النووي، ج1، ص530.

١٦٧

كذلك من أركان صلاة الميّت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله عليهم‌السلام (1) ، ويستحبّ أيضاً الصلاة على النبي وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، كما نصّ على ذلك عبد العزيز الهندي - نقلاً عن النووي في شرح الوسيط - في كتابه الفقهي فتح المعين (2) ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تحصى في الفقه، والتي قرنت فيها جملة وافرة من العبادات باسم النبي المبارك صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين، وليس ذلك إلّا توجّه وتوسّل بهم عليهم‌السلام لقبول العبادة وحصول القرب من اللَّه تعالى، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل. وهذا ما ورد النصّ عليه في روايات عديدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السُّنَّة، حيث نصّت على أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم يصلَّ على النبي وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام قال: (الدعاء محجوب عن السماء حتى يُتبع بالصلاة على محمّد وآله) (3) .

ومنها: ما ورد عن أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (لا يزال الدعاء محجوباً حتَّى يصلَّى عليَّ وعلى أهل بيتي) (4) .

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال: (قال رسول

____________________

(1) نفس المصدر، ص640.

(2) فتح المعين، ج1، ص280.

(3) لسان‏ الميزان، ابن حجر، ج4، ص53، وابن ‏إسحاق الحاكم، شعار أصحاب ‏الحديث، ص64.

(4) الخزاز القمي، كفاية الأثر، ص38.

١٦٨

اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم) (1) .

ومنها: ما ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، حيث قال: (إن رجلاً أتى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يارسول اللَّه، إني جعلت ثلث صلاتي لك، فقال له خيراً. فقال له: يارسول اللَّه، إني جعلت نصف صلاتي لك، فقال له: ذاك أفضل. فقال: إني جعلت كلّ صلاتي لك، فقال: إذن يكفيك اللَّه عزَّ وجل ما أهمّك من أمر دنياك وآخرتك، فقال له رجل: أصلحك اللَّه، كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبداللَّه عليه‌السلام : لا يسأل اللَّه عزّ وجل إلّا بدأ بالصلاة على محمّد وآله) (2) .

ومنها: ما رواه فضالة بن عبيد، حيث قال: (سمع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلاً يدعو في صلاته لم يمجّد اللَّه تعالى ولم يصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عجّل هذا)، ثم دعاه فقال له أو لغيره: (إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربّه عزّ وجل والثناء عليه، ثم يصلّي على النبي، ثم يدعو بعد بما شاء) (3) .

وعن ابن مسعود قال: (إذا أراد أحدكم أن يسأل فليبدأ بالمدحة والثناء على اللَّه بما هو أهله، ثم ليصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم ليسأل؛ فإنه أجدر أن ينجح) (4) . قال الهيثمي في زوائده: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (5) .

ومنها: ما عن جابر بن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا تجعلوني كقدح الراكب، فإن الراكب إذا أراد أن ينطلق، علّق معالقه، وملأ قدح ماء. فإن كانت له

____________________

(1) الأمالي، الطوسي، ص215.

(2) الكافي، ج2، ص493.

(3) سنن أبي داود، ج1، ص333، ح1481.

(4) الطبراني، المعجم الكبير، ج9، ص156.

(5) مجمع الزوائد، ج10، ص155.

١٦٩

حاجة في أن يتوضّأ توضّأ، وأن يشرب شرب، وإلاّ أهراق، فاجعلوني في وسط الدعاء وفي أوّله وفي آخره) (1) .

ومنها: ما أخرجه القاضي عياض عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (كلّ دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة عليّ صعد الدعاء) (2) .

ومن الروايات التي من طرقنا أيضاً ما في موثقة السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (مَن دعا ولم يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع الدعاء) (3) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال: (إذا كانت لك إلى اللَّه حاجة، فابدأ بمسألة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم سل حاجتك، فإن اللَّه أكرم من أن يُسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى) (4) .

كذلك عن أبي عبداللَّه عليه‌السلام قال: (إذا دعا أحدكم فليبدأ بالصلاة على النبي، فإن الصلاة على النبي مقبولة، ولم يكن اللَّه ليقبل بعض الدعاء ويردّ بعض) (5) .

وعن الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (إن اللَّه سبحانه يقول: عبادي، مَن كانت له إليكم حاجة، فسألكم بمَن تحبّون أجبتم

____________________

(1) الصنعاني، المصنف، ج2، ص216.

(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج2، ص66.

وقال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب... وأسبابه الصلاة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(3) وسائل الشيعة، ج7، ص94 - 93، ح8829.

(4) المصدر، ص97، ح8840.

(5) المصدر، ص96، ح8836.

١٧٠

دعاءه، ألا فاعلموا أن أحبّ عبادي إليّ وأكرمهم لديّ محمّد وعليّ حبيبيَّ وولييَّ، فمَن كانت له حاجة إليّ فليتوسل إليّ بهما، فإني لا أردّ سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمَن سألني بهم فإني لا أردّ دعاءه؛ وكيف أردّ دعاء مَن سألني بحبيبي وصفوتي وولييّ وحجّتي وروحي ونوري وآيتي وبابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظَمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمَن سألني بهم عارفاً بحقّهم ومقامهم أوجبت له منّي الإجابة، وكان ذلك حقّاً عليّ) (1) .

وهذه الروايات بمجموعها والأحكام التي سبقت للصلاة على النبي وآله في الصلاة وغيرها من العبادة كاشفة عن اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين بأعظم العبادات، بل معظمها، وهذا يعني أن اللَّه عزَّ وجل جعل تلك الأسماء المباركة واسطة لفيضه وشرطاً حقيقياً للتوسل إليه في التوبة وسائر العبادات القربية والمقامات الإلهية، وأن أبواب السماء مغلقة إلّا عن سبيلهم عليهم‌السلام وطريقهم، الذي نصبه اللَّه تعالى مناراً لعباده ومحجّة واضحة لخلقه.

هذا كلّه في الشاهد الأوّل؛ وهو اقتران الصلاة على النبي وأهل بيته بالصلاة وغيرها من العبادات.

الشاهد الثاني ، وهو كذلك اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المبارك بالصلاة، وذلك بالإتيان به في جزء التسليم من الصلاة، وهو قول المصلّي: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة اللَّه وبركاته. فإن التسليم الذي هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتمّ الصلاة إلّا بإتمامه والفراغ منه، جُعل شطر منه التسليم على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(1) وسائل الشيعة، ص102، ح8850.

١٧١

فقبل إتمام الصلاة وفي حاقّها يستحبّ للمصلّي أن يسلّم على نبيّ الإسلام باتفاق فرق المسلمين.

ولا شك أن هذا التسليم بالكيفية المذكورة نوع زيارة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطاب ونداء عن قرب بـ (أيُّها) وتوسّل واستغاثة وتوجّه إليه وبه إلى اللَّه عزّ وجل؛ وذلك لأن اللَّه تعالى عندما شرّع التسليم والتحيّة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة، التي شُرّعت لذكره عزّ وجل والتقرّب منه والعروج إليه، فإن ذلك يعني أن ذكر النبي ذكر للَّه تعالى، ونداءه نداء للباري عزّ وجل؛ وليس ذلك إلّا لكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية العظمى والوسيلة المحمودة بين اللَّه وبين خلقه في الصلاة، التي هي من عظيم العبادات والقربات عند اللَّه تعالى.

إذن؛ طبيعة الزيارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجّه بالنبي لنيل مقامات القرب في الصلاة، التي هي قربان كلّ تقي، موجودة في نفس الصلاة التي هي أكبر العبادات التوحيدية ويمارسها الفرد المسلم في يومه عدّة مرّات.

والحاصل: إذا كانت الصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لنيل مقامات القرب عند اللَّه تعالى، فكيف هو الحال بباقي العبادات والقربات الأخرى في الدين؟!

وعلى هذا كيف يقال: إن ذكر غير اللَّه تعالى في التوجّه إليه عزّ وجل شرك؟!

وهل هذا إلّا طمس لمعالم الشهادة الثانية؟

الشاهد الثالث: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باسم اللَّه عزّ وجل في الأذان، الذي هو عبادة من العبادات، ويُعدّ بوابة للصلاة التي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، كذلك في الإقامة؛ حيث إن الفرد المسلم كما يشهد أن لا إله إلّا اللَّه

١٧٢

كذلك يشهد أن محمّداً رسول اللَّه، وليس ذلك إلّا لكون اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باب اللَّه الأعظم، وأن الصلاة التي هي الركن الركين في العبادات ومعراج المؤمن إلى ربّه مفتاحُها وباب الولوج إليها اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مقروناً باسم اللَّه تعالى.

ولو كان اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره والتوجّه القلبي إليه أثناء العبادة موجباً للشرك، لََمَا أمكن تشريع الأمر على هذا الحال، ولَمَا أمر اللَّه عزّ وجل بالتوجّه إليه بنبيّه.

الشاهد الرابع: الهجرة التي هي من العبادات العظيمة عند اللَّه تعالى، وأكّدت عليها الآيات القرآنية في مواطن عديدة، لا يمكن أن تحصل إلّا بالهجرة إلى اللَّه ورسوله، فلكي تصحَّ عبادة الهجرة لابدّ أن يتوجّه فيها إلى اللَّه وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال اللَّه عزّ وجل: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) (1) .

والذي يتحصَّل من هذه الشواهد وغيرها أن اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذا أهل بيته عليهم‌السلام اقترن باسم اللَّه تعالى في أعظم العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، هذا فضلاً عمّا دونها من العبادات، وهو اقتران واجب في بعض موارده كما تقدّم في الصلاة، ومعنى ذلك شرطية التوسّل والواسطة في العبادات كما ادّعيناه في بداية البحث.

وقد أحصى بعضهم في هذا المجال جملة من المواطن العبادية التي تقرن باسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلاة عليه وعلى آله.

منها: في التشهّد الأول والثاني في الصلاة، وآخر قنوت الصلاة، وفي صلاة

____________________

(1) النساء: 100.

١٧٣

الجنائز، وخطبة العيدين والجمعة والاستسقاء، وبعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة، وعند الدعاء، وعند دخول المسجد وعند الخروج منه، وعلى الصفا والمروة، وعند الفراغ من التلبية، وعند استلام الحجر، وعند الوقوف على قبره الشريف، وعقيب ختم القرآن الكريم، وعند الهمّ والشدائد وطلب المغفرة، وعند تبليغ العلم، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفّر عنه، وبعد الفراغ من الوضوء، وفي كلّ موطن يُجتمع فيه لذكر اللَّه، وعند طلب قضاء الحاجة، وعقيب الصلوات في سائر أجزاء الصلاة غير التشهّد، إلى غير ذلك من المواطن.

وقد ذُكر أيضاً للصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوائد كثيرة جدّاً، منها:

1 - أنها سبب لغفران الذنوب.

2 - أنها تُصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين.

3 - أنها سبب لشفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

4 - أنها سبب كفاية العبد ما أهمّه.

5 - أنها سبب لقرب العبد منه يوم القيامة.

6 - أنها سبب لقضاء الحوائج.

7 - أنها سبب لتبشير العبد قبل موته بالجنّة.

8 - أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.

9 - أنها سبب لتذكّر العبد ما نسيه.

10 - أنها سبب لطيب المجلس.

11 - أنها سبب لنفي الفقر.

12 - أنها سبب لنفي البخل.

١٧٤

13 - أنها ترمي صاحبها على طريق الجنّة وتخطي بتاركها عن طريقها.

14 - أنها تُنجي من نتن المجلس.

15 - أنها سبب لوفور نور العبد على الصراط.

16 - أنه يخرج بها العبد من الجفاء.

17 - أنها سبب لإبقاء اللَّه سبحانه الثناء الحسن للمصلّي عليه بين أهل السماء والأرض.

18 - أنها سبب للبركة في ذات المصلّي وعمله وعمره وأسباب مصالحه.

19 - أنها سبب لنيل رحمة اللَّه له.

20 - أنها سبب لدوام محبته للرسول وزيادتها وتضاعفها.

21 - أنها سبب لمحبّته صلى‌الله‌عليه‌وآله للعبد.

22 - أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه.

23 - أنها سبب لعرض اسم المصلّي وذكره عنده.

إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة ضرورة قرآنية

إن حقيقة هذا الدليل الخامس عبارة عن مزيد إيضاح وتعميق ونظرة أدقّ لِمَا تقدَّم من قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1) .

وفي المقدّمة لابدّ من التنبيه على أن التدبر في الآية الكريمة يفيد أن الابتغاء

____________________

(1) المائدة: 35.

١٧٥

المأمور به جعل متعلّقاً لكلّ من الوسيلة وذي الوسيلة وهو اللَّه عزّ وجل.

فجعل الابتغاء والقصد والتوجّه إلى كلّ من الوسيلة والذات الإلهية المقدّسة، فكلّ منهما أُمرنا بقصده والتوجّه إليه، إلّا أن القصد والتوجّه إلى الوسيلة ابتداءً هو الذي يؤدّي وينتهي بنا إلى قصد اللَّه تعالى، فالغاية القصوى هو اللَّه عزّ وجل، إلّا أن الذي يُقصد ابتداءً هو الوسيلة بداعي القصد إلى منتهى الغاية والأمل، وهو اللَّه تبارك وتعالى.

بل لعلّ التدبّر الأعمق والنظر الأدقّ في الآية المباركة يكشف عن أن لفظ (وابتغو) أُسند إلى الوسيلة فقط، وأن لفظ (إليه) مرتبط بالوسيلة، لا بـ (ابتغو)، أي أن الوسيلة هي إليه، فالابتغاء متوجّه إلى الوسيلة فقط، وصفة الوسيلة أنها إليه.

وبعبارة أخرى:

إن فعل (وابتغو) عمل في لفظ (الوسيلة) كمفعول به، وأمَّا لفظ (إليه)، فليس متعلّقاً بـ (ابتغو)، وإنما الذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ (الوسيلة)؛ إذ فيها معنى المصدر والحدث، وأنَّ التوسّل والوسيلة هو إلى اللَّه تعالى، فالابتغاء من جهة التركيب الإعرابي يعمل في الوسيلة فقط ويتعلّق بها، والوسيلة تتعلّق بلفظ إليه وتعمل فيه؛ وعليه فيكون الابتغاء والتوجّه والقصد بحسب ظاهر الدلالة متعلّقاً بالوسيلة، فهي التي يتوجّه إليها النداء والرجاء والخطاب، وحيث إن صفتها الذاتية أنها تؤدّي إلى اللَّه تعالى فيكون التوجّه إليها توجّهاً إلى اللَّه عزّ وجل ونداؤها نداءً بها إليه تعالى، وقصدها قصد بها إليه جل ثناؤه، كما في التوجّه إلى الكعبة واستقبالها، فإنه توجّه بها إلى اللَّه تعالى.

١٧٦

ومن ذلك يظهر أن مقتضى مفاد الآية هو أن الإلتجاء وتوجيه الخطاب إنما يكون إلى الوسيلة، كقول الداعي والمتوسل: يامحمّد يانبيّ الرحمة، إني أتوجّه بك إلى اللَّه ربي وربك لقضاء حاجتي. فيوجّه الخطاب والنداء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكون ذلك منه ابتغاءً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كوسيلة إلى اللَّه عزّ وجل، وإلّا فإن جعل الخطاب للَّه تعالى فقط من دون التوجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخطاب كوسيلة، لا يكون ابتغاءً وطلباً وتوجهاً إلى الوسيلة، بل ابتغاء مباشري للَّه تعالى من دون ابتغاء الوسيلة.

وعلى كلا البيانين لدلالة الآية الشريفة تكون الآية نصّ في الدلالة على الأمر بالتوجّه والنداء ودعاء الوسيلة وأنه دعاء للَّه تعالى.

ثم إن صيغة الأمر في الآية الكريمة يفيد ضرورة التوسّل بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث إن هذه الآية المباركة ليست في مقام بيان مشروعية التوسّل فحسب، بل الآية المباركة ترمي إلى بيان حتمية ولا بدِّية التوسّل، وأنه أمر تعيينيّ عينيّ، وذلك لأن المقصود من ابتغوا الوسيلة أي اقصدوها وتوجّهوا إليها في مقام توجّهكم إلى اللَّه عزّ وجل، ومعنى (ابتغوا) أيضاً في الآية المباركة أن هناك بُعداً بين العبد والباري تعالى وأن هناك مسافة لابدّ أن تطوى بابتغاء الوسيلة والحضور عندها، ولو كان هناك قُرباً تلقائياً من طرف العبد إلى ربّه فلا حاجة إلى الوسيلة حينئذٍ للاقتراب من اللَّه تعالى؛ لكونه تحصيلاً للحاصل ولا يكون معنى للوسيلة وابتغائها ولو بنحو التخيير أيضاً.

١٧٧

قرب اللَّه وقرب العبد:

فالأمر بابتغاء الوسيلة وقصدها معناه أن هناك بُعداً بين العبد وبين اللَّه تعالى، وهو بُعد من جهة العبد فقط لا من طرف الباري عزّ وجل؛ لأن اللَّه تعالى قريب أقرب إلى العباد من حبل الوريد، كما قال تعالى ذكره: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (1) ، لكن العبد من طرفه يحتاج إلى الوسيلة لبُعده؛ لأن قرب اللَّه تعالى إلى العبد ليس قرباً جسمانياً جغرافياً، لكي يكون هناك تلازم تضايفي بين العبد وربه في القرب والبُعد، وكذا ليس من نوع القرب العقلي أو الروحيّ ليحصل التجانس أو التماثل في القرب؛ وذلك لِمَا تقدّم من كون اللَّه تعالى منزّه عن التضايف والتقابل الجسماني أو العقلي أو الروحي، لأنه تشبيه باطل مناف لعظمة ذات الباري تعالى.

إذن؛ القرب الإلهي تجاه العبد قرب القدرة والسلطنة والهيمنة والإحاطة، فالمقتدر والمهيمن والمحيط كلّما كانت قدرته وهيمنته وإحاطته أشدّ كلّما كان أقرب من المحاط به، وعلى العكس يكون الطرف المقابل الضعيف؛ فهو يزداد ضعفاً كلّما كان طرفه المقابل أشدّ قوة واقتداراً، كذلك كلّما ازداد المهيمن إحاطة ازداد الطرف الآخر مُحاطيّة وبُعداً عن أن يحيط بالمحيط، فالقويّ قريب محيط والضعيف بعيد محاط، ويبعد كلّما ازداد القويّ قوّة وهيمنة؛ لأن الضعيف حينئذٍ بعيد من حيث افتقاده للصفات والكمالات اللّامتناهية شدّة وعدّة، التي للقويّ المحيط.

والحاصل: إن هناك نمطاً من التعاكس في القرب والبُعد، فطرف يكون قريباً

____________________

(1) ق: 16.

١٧٨

والآخر بعيداً، كلّما ازداد الباري قرباً وإحاطة من حيث الصفات كلّما ازداد المخلوق بعداً من طرفه بالنسبة إلى اللَّه تعالى، وذلك من حيث التعاكس في الصفات.

ومن ثمّ لابدّ من ابتغاء الوسيلة التي هي أشدّ كمالاً وأقرب إلى الباري تعالى، لكي يطوي المخلوق شيئاً من ذلك البُعد وينال درجة من درجات القرب برقيّه في مدارج الكمال عن طريق الواسطة والوسيلة.

والوسيلة هي الأقرب إلى اللَّه تعالى من حيث الكمالات؛ إذ كلّما تكامل المخلوق في الصفات ازداد قربه من الحضرة الربوبية، وكلّما عظم المخلوق صفة وكمالاً كلّما كان أقرب من الخالق لازدياد علمه ومعرفته بصفاته تعالى، والعلم درجة من درجات القرب والوصول، إذ طالما تجلت في المخلوق صفات الخالق أكثر عرف ذلك المخلوق بتلك الكمالات والصفات، صفات الخالق عزّ وجل، ولذا يكون أكمل المخلوقات أعرفهم بربّه وأقربهم منه وأكثر دلالة عليه وأشدّهم آية وعلامة ترشد إليه وتقرّب منه؛ لأن ما يتجلى فيه من بديع الكمالات آيات لكمال الباري عزّ وجل، على العكس من ذلك ما لو قلّت في المخلوق الكمالات، فإنه تقلّ فيه الآيات الدالّة على عظمة اللَّه تعالى وتقلُّ بالطبع معرفته.

ومن هنا كان المخلوق الذي يتّسم بالضعف والفقر والحاجة والبعد عن اللَّه تعالى بحاجة إلى الوسيلة، التي هي أقرب صفة وكمالاً من اللَّه عزّ وجل، كي تكون سبباً يقرّبه إلى ربّه.

فالوسيلة والوسائط هي أعاظم المخلوقات، وهي آيات اللَّه وأسمائه

١٧٩

وعلاماته الدالّة عليه، والتي يستدلّ الخلق بعظمتها على عظمة الباري، فتزداد المعرفة ويحصل القرب بنيل الكمالات.

ولا شك أن الخطاب الوارد في الآية المباركة - الكاشف عن ضرورة الوسيلة بالبيان المتقدم - عامّ وشامل للتوبة ومطلق العبادات وللمعرفة والإيمان أو التوجّه إلى الحضرة الإلهية لنيل مقام أو حظوة عند اللَّه تعالى.

الوسيلة معنى الشفاعة:

فللعلاقة بين العبد وربّه ولقطع مسافة البُعد لابدّ من الوسيلة، سواء في المعرفة والإيمان أو في قبول التوبة أو العبادات أو نيل المقامات، وقد أُطلق عن مثل هذا المقام في لسان الشارع بالشفاعة؛ لأن الشفع في الأصل بمعنى الزوج والاقتران، وهو في المقام اقتران الذات الربوبية بالآيات والأسماء الإلهية.

ثم إنه سبق أن الآيات العظمى والكلمات التامّات هم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، وقد وصف اللَّه تعالى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعظمة، وذلك في قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (1) ، فهم عليهم‌السلام الأسماء الحسنى التي أمر اللَّه أن يُدعى بها وتاب بها على آدم وامتحن بها إبراهيم عليه‌السلام لنيل مقام الخلافة والإمامة، وهذا البيان الذي ذكرناه؛ من ضرورة الواسطة والوسيلة لعظمة اللَّه تعالى، هدى إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام عند بيانه لقوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ

____________________

(1) القلم: 4.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296