صراط الحق الجزء ١

صراط الحق20%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132127 / تحميل: 7362
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

والضابط ما ذكرناه من اعتبار الاسم كالمقيس عليه ، وعلف الاُمّهات لا يسري إلى الأولاد.

ويبعد ما قيل في غنم مكّة ، لأنّها لو كانت متولّدة من جنسين لم يكن لها نسل كالسِّمع المتولّد من الذئب والضبع(١) ، وكالبغال.

وقال الشافعي : لا تجب سواء كانت الاُمّهات من الظباء أو الغنم ، لأنّه متولّد من وحشي أشبه المتولّد من وحشيّين.

ولأنّ الوجوب إنّما يثبت بنصّ أو إجماع أو قياس ، والكلّ منفي هنا ، لاختصاص النصّ والإِجماع بالإِيجاب في بهيمة الأنعام من الأزواج الثمانية وليست هذه داخلة في اسمها ولا حكمها ولا حقيقتها ولا معناها ، فإنّ المتولّد بين شيئين ينفرد باسمه وجنسه وحكمه عنهما كالبغل فلا يتناوله النصّ ، ولا يمكن القياس ، لتباعد ما بينهما واختلاف حكمهما ، فإنه لا يجزئ في هدي ولا اُضحية ولا دية(٢) ، ولا نزاع معنا إذا لم يبق الاسم.

وقال أبو حنيفة ومالك : إن كانت الاُمّهات أهليةً وجبت الزكاة وإلّا فلا ، لأنّ ولد البهيمة يتبع اُمّه في الاسم والملك فيتبعها في الزكاة ، كما لو كانت الفحول معلوفةً(٣) . ونمنع التبعيّة في الاسم.

____________________

(١) اُنظر : الصحاح ٣ : ١٢٣٢.

(٢) المجموع ٥ : ٣٣٩ ، فتح العزيز ٥ : ٣١٥ ، المغني ٢ : ٤٦٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٣٥.

(٣) المبسوط للسرخسي ٢ : ١٨٣ ، بدائع الصنائع ٢ : ٣٠ ، المغني ٢ : ٤٦٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٣٥ ، المجموع ٥ : ٣٣٩ ، فتح العزيز ٥ : ٣١٥.

٨١

الفصل الثالث

في زكاة الغنم‌

الزكاة واجبة في الغنم بإجماع علماء الإِسلام.

قالعليه‌السلام : ( كلّ صاحب غنم لا يؤدّي زكاتها بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر تمشي عليه فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها كلّما انقضى آخرها عاد أولها حتى يقضي الله بين الخلق في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )(١) .

إذا ثبت هذا فإنّ شرائط الزكاة هنا كما هي في الإِبل والبقر بالإِجماع ، نعم تختلف في مقادير النصب ، والضأن والمعز جنس واحد بإجماع العلماء ، والظباء مخالف للغنم إجماعاً.

مسألة ٥٢ : أول نصاب الغنم : أربعون ، فلا زكاة فيما دونها‌ ، فإذا بلغت أربعين ففيها شاة.

الثاني : مائة وإحدى وعشرون فلا شي‌ء في الزائد على الأربعين حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين ففيه شاتان.

الثالث : مائتان وواحدة ، فلا زكاة في الزائد حتى تبلغ مائتين وواحدة ففيه ثلاث شياه ، والكلّ بالإِجماع.

____________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٦٨٢ / ٢٦ ، سنن أبي داود ٢ : ١٢٤ / ١٦٥٨ ، سنن البيهقي ٤ : ٨١.

٨٢

وحكي عن معاذ أنّ الفرض لا يتغيّر بعد المائة وإحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين واثنتين وأربعين ليكون مثلَي مائة وإحدى وعشرين فيكون فيها ثلاث شياه(١) .

والإِجماع على خلافه ، على أنّ الراوي لها الشعبي وهو لم يلق معاذاً(٢) .

الرابع : ثلاثمائة وواحدة وفيه روايتان : إحداهما : أنّه كالثالث ثلاث شياه ، فلا يتغيّر الفرض بعد مائتين وواحدة حتى تبلغ أربعمائة فتجب في كلّ مائة شاة ، وبه قال المفيد والسيد المرتضى(٣) ، وهو قول أكثر الفقهاء ، والشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين(٤) .

لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه للسُّعاة : ( إنّ في الغنم السائمة إذا بلغت أربعين شاةٌ إلى مائة وعشرين ، فإذا زادت ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين ، فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة ، فإذا زادت ففي كلّ مائةٍ شاة )(٥) .

____________________

(١) المغني ٢ : ٤٦٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٥١٥.

(٢) معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن من أعيان الصحابة ، شهد بدراً وما بعدها ، مات بالشام سنة ١٨.

والشعبي هو : عامر بن شراحيل أبو عمرو ، مات بعد المائة وله نحو من ثمانين.

اُنظر : اُسد الغابة ٤ : ٣٧٨ ، الاستيعاب بهامش الإِصابة ٣ : ٣٥٥ - ٣٦٠ ، وتهذيب التهذيب ٥ : ٥٩ / ١١٠ و ١٠ : ١٧٠ / ٣٤٩.

(٣) المقنعة : ٣٩ ، جمل العلم والعمل ( ضمن رسائل الشريف المرتضى ) ٣ : ١٢٣.

(٤) المجموع ٥ : ٤١٧ - ٤١٨ ، فتح العزيز ٥ : ٣٣٨ ، حلية العلماء ٣ : ٥٢ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٠٦ ، بداية المجتهد ١ : ٢٦٢ ، الشرح الصغير ١ : ٢٠٩ ، المبسوط للسرخسي ٢ : ١٨٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ٢٨ ، اللباب ١ : ١٤٢ ، المغني ٢ : ٤٦٣ ، الشرح الكبير ٢ : ٥١٥.

(٥) سنن أبي داود ٢ : ٩٧ / ١٥٦٧ ، سنن النسائي ٥ : ٢٩ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٧ / ١٨٠٥.

٨٣

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « ليس فيما دون الأربعين شي‌ء ، فإذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة ، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى المائتين ، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث من الغنم إلى ثلاثمائة ، فإذا كثرت الغنم ففي كلّ مائة شاة »(١) .

الثانية(٢) : أنّها إذا زادت على ثلاثمائة وواحدة ففيها أربع شياه ، ثم لا يتغيّر الفرض حتى تبلغ خمسمائة ، وهو اختيار الشيخ -(٣) رحمه‌الله - وأحمد في الرواية الاُخرى ، وبه قال النخعي والحسن بن صالح بن حي(٤) .

لقول الباقرعليه‌السلام في الشاة : « في كلّ أربعين شاةً شاةٌ ، وليس فيما دون الأربعين شاةً شي‌ء حتى تبلغ عشرين ومائة ، فإذا بلغت عشرين ومائة ففيها مثل ذلك شاة واحدة ، فإذا زاد على عشرين ومائة ففيها شاتان ، وليس فيها أكثر من شاتين حتى تبلغ مائتين ، فإذا بلغت المائتين ففيها مثل ذلك ، فإذا زادت على المائتين شاة واحدة ففيها ثلاث شياه ، ثم ليس فيها أكثر من ذلك حتى تبلغ ثلاثمائة ، فإذا بلغت ثلاثمائة ففيها مثل ذلك ثلاث شياه ، فإذا زادت واحدة ففيها أربع شياه حتى تبلغ أربعمائة ، فإن تمّت أربعمائة كان على كلّ مائة شاة شاة »(٥) .

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل ثلاثمائة حدّاً للوقص وغايةً له(٦) ؛

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٥ / ٥٩ ، الاستبصار ٢ : ٢٣ / ٦٢.

(٢) أي : الرواية الثانية.

(٣) المبسوط للطوسي ١ : ١٩٩ ، الخلاف ٢ : ٢١ ، المسألة ١٧.

(٤) المغني ٢ : ٤٦٣ ، الشرح الكبير ٢ : ٥١٥ - ٥١٦.

(٥) الكافي ٣ : ٥٣٤ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٥ / ٥٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٢ / ٦١ ، وفيها عن الإِمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام .

(٦) اُنظر : سنن أبي داود ٢ : ٩٧ / ١٥٦٧ ، سنن النسائي ٥ : ٢٩ ، سنن الترمذي ٣ : ١٧ / ٦٢١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٧ / ١٨٠٥ ، وسنن البيهقي ٤ : ٨٦.

٨٤

فتجب أن يتعقّبه النصاب كالمائتين.

إذا ثبت هذا ، فلا خلاف في أنّ في أربعمائة أربع شياه ، وفي خمسمائة خمس ، وهكذا بالغاً ما بلغت.

* * *

٨٥

الفصل الرابع

في الأشناق‌

الشّنق بفتح النون : ما بين الفرضين(١) ، والوقص قال الفقهاء : بسكون القاف(٢) .

وقال بعض أهل اللغة : بفتحه(٣) ، لأنّه يجمع على ( أوقاص ) و ( أفعال ) جمع ( فَعَلْ ) لا جمع ( فَعْلْ ) فإنّ ( فَعْلاً ) يجمع على ( أفْعُل ).

وقد جاء - كما قال الفقهاء - هول وأهوال ، وحوْل وأحوال ، وكبْر وأكبار ، وبالجملة فهو ما بين النصابين(٤) أيضاً.

قال الأصمعي : الشنق يختص بأوقاص الإِبل ، والوقص بالبقر والغنم(٥) .

وبعض الفقهاء يخصّ الوقص بالبقر أيضاً ، ويجعل ناقص الغنم والنقدين والغلّات عفواً ، وكلّ ذلك لفظي.

وقيل : الوقص ما بين الفرضين كما بين الثلاثين إلى الأربعين في البقر ،

____________________

(١) الصحاح ٤ : ١٥٠٣.

(٢) المجموع ٥ : ٣٩٢ ، وتهذيب الأسماء واللغات ٤ : ١٩٣.

(٣ و ٤ ) الصحاح ٣ : ١٠٦١.

(٥) المجموع ٥ : ٣٩٢ ، وتهذيب الأسماء واللغات ٤ : ١٩٣.

٨٦

والشنق ما دون الفريضة كالأربع من الإِبل(١) .

مسألة ٥٣ : ما نقص عن النصاب الأول لا شي‌ء فيه‌ إجماعاً ، وكذا ما بين النصابين عند علمائنا ، وإنّما تتعلّق الزكاة بالنصاب خاصّة - وبه قال الشافعي في كتبه القديمة والجديدة ، وأبو حنيفة ، والمزني(٢) - لأنّه عدد ناقص عن نصاب إذا بلغه وجبت فيه الزكاة ، فلا تتعلّق به كالأربع.

ولقول الباقر والصادقعليهما‌السلام : « وليس فيما بين الثلاثين إلى الأربعين شي‌ء حتى يبلغ أربعين - إلى أن قالاعليهما‌السلام - وليس على النيّف شي‌ء ، ولا على الكسور شي‌ء »(٣) .

وقال الشافعي في الإِملاء : تتعلّق الزكاة بالنصاب وبما زاد عليه من الوقص ، وبه قال محمد بن الحسن.

لقولهعليه‌السلام : ( فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض )(٤) .

ولأنّه حقّ يتعلّق بنصاب فوجب أن يتعلّق به وبما زاد عليه إذا وجد معه ولم ينفرد بحكم كالقطع في السرقة(٥) .

والنصّ أقوى من المفهوم والقياس.

فعلى قولنا ، لو ملك خمسين من الغنم وتلفت العشرة الزائدة قبل‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٤٥٤.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٢ ، المجموع ٥ : ٣٩١ و ٣٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٣٧ - ٣٨ ، المبسوط للسرخسي ٢ : ١٨٧ ، الهداية للمرغيناني ١ : ٩٩ ، اللباب ١ : ١٤١.

(٣) الكافي ٣ : ٥٣٤ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٤ / ٥٧.

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٤٦ ، سنن أبي داود ٢ : ٩٦ / ١٥٦٧ ، سنن الترمذي ٣ : ١٧ - ٦٢١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٤ / ١٧٩٩ ، سنن النسائي ٥ : ١٩ و ٢٨ ، مسند أحمد ١ : ١١ و ٢ : ١٥ ، وسنن البيهقي ٤ : ٨٥.

(٥) فتح العزيز ٥ : ٥٤٨ و ٥٥٠ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٥٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٨.

٨٧

التمكّن من الأداء بعد الحول لم يسقط هنا شي‌ء ، لأنّ التالف لم تتعلّق الزكاة به ، ولو تلف عشرون سقط ربع الشاة ، لأنّ الاعتبار بتلف جزء من النصاب ، وإنّما تلف من النصاب ربعه.

فروع :

أ - لو تلف بعض النصاب قبل الحول فلا زكاة ، وبعده وبعد إمكان الأداء يجب جميع الفرض ، لأنّه تلف بعد تفريطه في التأخير فضمن ، وإن تلف بعد الحول وقبل إمكان الأداء سقط عندنا من الزكاة بقدر التالف.

وللشافعي قولان بناءً على أنّ إمكان الأداء شرط في الوجوب أو الضمان ، فعلى الأول لا شي‌ء ، لنقصه قبل الوجوب(١) .

ب - لو كان معه تسع من الإِبل فتلف أربع قبل الحول أو بعده وبعد الإِمكان وجبت الشاة(٢) ، وبه قال الشافعي(٣) .

وإن كان بعد الحول وقبل الإِمكان فكذلك عندنا.

وعند الشافعي كذلك على تقدير أن يكون الإِمكان شرطاً في الوجوب ، لأنّ التالف قبل الوجوب إذا لم ينقص به النصاب لا حكم له ، وعلى تقدير أن يكون من شرائط الضمان فكذلك إن لم تتعلّق بمجموع النصاب والوقص ، وإن تعلّقت بهما سقط قدر الحصّة أربعة أتساع الشاة(٤) .

وقال بعضهم - على هذا التقدير - : لا يسقط شي‌ء ، لأنّ الزيادة لمـّا لم تكن شرطاً في وجوب الشاة لم يسقط شي‌ء بتلفها وإن تعلّقت بها ، كما لو شهد ثمانية بالزنا ورجع أربعة بعد قتله لم يجب عليهم شي‌ء ، ولو رجع خمسة وجب‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٥١ ، المجموع ٥ : ٣٧٥ ، الوجيز ١ : ٨٩ ، فتح العزيز ٥ : ٥٤٧ - ٥٤٨ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢.

(٢) في نسخة « ط » : الزكاة.

(٣ و ٤ ) المجموع ٥ : ٣٧٥ ، فتح العزيز ٥ : ٥٤٩.

٨٨

عليهم الضمان ، لنقص ما بقي من العدد المشترط(١) .

ج - لو ذهب خمس من التسع قبل الحول فلا زكاة ، وإن كان بعده وقبل إمكان الأداء سقط خمس الشاة ، وبه قال الشافعي على تقدير أنّ الإِمكان من شرائط الضمان وتعلّق الزكاة بالنصاب.

وعلى تقدير كونه شرطاً في الوجوب فكقبل الحول لنقص النصاب قبل الوجوب.

وعلى تقدير كونه شرطاً في الضمان وتعلّق الزكاة بالمجموع تسقط خمسة أتساع الشاة(٢) .

د - لو كان معه خمس وعشرون وأوجبنا بنت المخاض فيه فتلف منها خمسة قبل إمكان الأداء وجب أربعة أخماس بنت مخاض - وبه قال الشافعي على تقدير كونه شرطاً في الضمان(٣) ، وأبو يوسف ومحمد(٤) - لأنّ الواجب بحؤول الحول بنت مخاض ، فإذا تلف البعض لم يتغيّر الفرض ، بل كان التالف منه ومن المساكين.

وقال أبو حنيفة : تجب أربع شياه(٥) . فجعل التالف كأنّه لم يكن.

قال الشيخ : لو كان معه ستّ وعشرون فهلك خمس قبل الإِمكان فقد هلك خُمس المال إلّا خُمس الخُمس فيكون عليه أربعة أخماس بنت مخاض إلّا أربعة أخماس خُمسها ، وعلى المساكين خُمس بنت مخاض إلّا أربعة أخماس خُمسها(٦) .

ه- حكم غير الإِبل حكمها في جميع ذلك ، فلو تلف من نصاب الغنم‌

____________________

(١) المجموع ٥ : ٣٧٥ و ٣٩٢ ، فتح العزيز ٥ : ٥٤٩.

(٢) المجموع ٥ : ٣٧٦ ، فتح العزيز ٥ : ٥٤٩.

(٣) المجموع ٥ : ٣٧٦ ، حلية العلماء ٣ : ٣٨ - ٣٩.

(٤ و ٥ ) حلية العلماء ٣ : ٣٩.

(٦) المبسوط للطوسي ١ : ١٩٤‌

٨٩

شي‌ء سقط من الفريضة بنسبته.

وهل الشاتان في مجموع النصاب الثاني أو في كلّ واحد شاة؟

احتمالان(١) ، فعلى الأول لو تلف شي‌ء بعد الحول بغير تفريط نقص من الواجب في النصب بقدر التالف ، وعلى الثاني يوزّع على ما بقي من النصاب الذي وجب فيه التالف.

مسألة ٥٤ : لا تأثير للخلطة عندنا في الزكاة‌ سواء كانت خلطة أعيان أو أوصاف ، بل يزكّى كلٌّ منهما زكاة الانفراد ، فإن كان نصيب كلّ منهما نصاباً وجب عليه زكاة بانفراده.

وإن كان المال مشتركاً كما لو كانا مشتركين في ثمانين من الغنم بإرث أو شراء أو هبة فإنّه يجب على كلّ واحد منهما شاة بانفراده.

ولو كانا مشتركين في أربعين فلا زكاة هنا ، وبه قال أبو حنيفة والثوري(٢) ، لقولهعليه‌السلام : ( إذا لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فلا شي‌ء فيها )(٣) .

وقال : ( ليس على المرء في ما دون خمس ذود من الإِبل صدقة )(٤) ولم يفصّل.

وقالعليه‌السلام : « في أربعين شاةً شاةٌ »(٥) .

____________________

(١) ورد في النُسخ الخطية : احتمال. وما أثبتناه من الطبعة الحجرية هو الصحيح.

(٢) المبسوط للسرخسي ٢ : ١٨٤ ، المجموع ٥ : ٤٣٣ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩١ ، حلية العلماء ٣ : ٦٢ ، المغني ٢ : ٤٧٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢٧ ، بداية المجتهد ١ : ٢٦٣.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ١٤٦ ، مسند أحمد ١ : ١٢ ، وسنن البيهقي ٤ : ٨٥ ، و ١٠٠ بتفاوت يسير.

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٤٨ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٧٥ / ٩٨٠ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٢ / ٦٢٦ ، وسنن البيهقي ٤ : ٨٤ و ١٠٧ و ١٢٠.

(٥) سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٧ / ١٨٠٥ و ٥٧٨ / ١٨٠٧ ، سنن أبي داود ٢ : ٩٨ / ١٥٦٨ ، سنن الترمذي ٣ : ١٧ / ٦٢١ ، وسنن البيهقي ٤ : ١١٦.

٩٠

فإذا ملكا ثمانين وجب شاتان.

ولأنّ ملك كلّ واحد منهما ناقص عن النصاب فلا تجب عليه الزكاة ، كما لو كان منفرداً.

وقال الشافعي : الخلطة في السائمة تجعل مال الرجلين كمال الرجل الواحد في الزكاة سواء كانت خلطة أعيان أو أوصاف بأن يكون ملك كلّ منهما متميّزاً عن الآخر ، وإنّما اجتمعت ماشيتهما في المرعى والمسرح - على ما يأتي(١) - سواء تساويا في الشركة أو اختلفا بأن يكون لرجل شاة ولآخر تسعة وثلاثون ، أو يكون لأربعين رجلاً أربعون شاةً لكلّ منهم شاة ، وبه قال عطاء والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق(٢) .

لقولهعليه‌السلام : ( لا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع )(٣) أراد إذا كان لجماعة لا يجمع بين متفرّق فإنّه إذا كان للواحد يجمع للزكاة وإن تفرّقت أماكنه ، وقوله : ( ولا يفرّق بين مجتمع ) يقتضي إذا كان لجماعة لا يفرّق ، ونحن نحمله على أنّه لا يجمع بين متفرّق في الملك ليؤخذ منه الزكاة زكاة رجل واحد فلا يفرّق بين مجتمع في الملك فإنّ الزكاة تجب على الواحد وإن تفرّقت أمواله.

وقال مالك : تصحّ الخلطة إذا كان مال كلّ واحد منهما نصاباً(٤) .

____________________

(١) يأتي في المسألة اللاحقة (٥٥).

(٢) المجموع ٥ : ٤٣٢ - ٤٣٣ ، فتح العزيز ٥ : ٣٨٩ - ٣٩٠ ، حلية العلماء ٣ : ٦٠ - ٦١ ، الاُم ٢ : ١٤ ، مختصر المزني : ٤٣ ، المغني ٢ : ٤٧٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢٧.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ١٤٤ ، سنن النسائي ٥ : ٢٩ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٦ / ١٨٠١ و ٥٧٧ / ١٨٠٥ ، سنن أبي داود ٢ : ٩٧ / ١٥٦٧ ، سنن الدارمي ١ : ٣٨٣ ، مسند أحمد ١ : ١٢ ، وسنن البيهقي ٤ : ١٠٥.

(٤) المدوّنة الكبرى ١ : ٣٣١ و ٣٣٤ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٠٧ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ١٣٨ ، حلية العلماء ٣ : ٦٢ ، المجموع ٥ : ٤٣٣ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩١ ، المغني ٢ : ٤٧٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢٧.

٩١

وحكى بعض الشافعيّة عن الشافعي وجها آخر : أنّ العبرة إنّما هي بخلطة الأعيان دون خلطة الأوصاف(١) .

مسألة ٥٥ : قد بيّنا أنّه لا اعتبار بالخلطة بنوعيها‌ - خلافاً للشافعي ومن تقدّم(٢) - فلا شرط عندنا وعند أبي حنيفة ، لعدم الحكم.

أمّا الشافعي فقد شرط فيها أموراً :

الأول : أن يكون مجموع المالين نصاباً.

الثاني : أن يكون الخليطان معاً من أهل فرض الزكاة ، فلو كان أحدهما ذمّيّاً أو مكاتباً لم تؤثّر الخلطة ، وزكّى المسلم والحرّ كما في حالة الانفراد ، وهذان شرطان عامّان ، وفي اشتراط دوام الخلطة السنة؟ ما يأتي.

وتختصّ خلطة الجوار باُمور :

الأول : اتّحاد المسرح ، والمراد به المرعى.

الثاني : اتّحاد المراح ، وهو مأواها ليلاً.

الثالث : اتّحاد المشرع وهو أن يرد غنمهما ماءً واحداً من نهر أو عين أو بئر أو حوض.

وإنّما شرط(٣) اجتماع المالين في هذه الاُمور ليكون سبيلها سبيل مال المالك [ الواحد ](٤) وليس المقصود أن لا يكون لها إلّا مسرح أو مرعى أو مراح واحد بالذات ، بل يجوز تعدّدها لكن ينبغي أن لا تختص ماشية هذا بمسرح ومراح ، وماشية الآخر بمسرح ومراح.

الرابع : اشتراك المالين في الراعي أو الرعاة - على أظهر الوجهين عنده - كالمراح.

____________________

(١) فتح العزيز ٥ : ٣٩٠ - ٣٩١ ، المجموع ٥ : ٤٣٣.

(٢) تقدّم ذكرهم في المسألة السابقة (٥٤).

(٣) في نسختي « ن وف » : شرطوا.

(٤) زيادة يقتضيها السياق.

٩٢

الخامس : اشتراكهما في الفحل ، فلو تميّزت ماشية أحدهما بفحولة ، وماشية الآخر باُخرى فلا خلطة - على أظهر الوجهين - عنده.

السادس : اشتراكهما في موضع الحلب ، فلو حلب هذا ماشيته في أهله ، والآخر في أهله فلا خلطة(١) .

وهل يشترط الاشتراك في الحالب والمحلب؟ أظهر الوجهين عنده عدمه ، كما لا يشترط الاشتراك في الجازّ وآلات الجزّ(٢) .

وإن شرط الاشتراك في المحلب فهل يشترط خلط اللبن؟ وجهان ، أصحهما عنده : المنع ، لأدائه إلى الربا عند القسمة إذ قد يكثر لبن أحدهما(٣) .

وقيل : لا ربا كالمسافرين يستحب خلط أزوادهم وإن اختلف أكلهم(٤) .

وربما يفرّق بأنّ كلّ واحد يدعو غيره إلى طعامه فكان إباحةً ، بخلافه هنا.

وهل يشترط نيّة الخلطة؟ وجهان عندهم : الاشتراط ، لأنّه معنى يتغيّر به حكم الزكاة تخفيفاً كالشاة في الثمانين ، ولو لا الخلطة لوجب شاتان ، وتغليظاً كالشاة في الأربعين ، ولولاها لم يجب شي‌ء فافتقر إلى النيّة ، ولا ينبغي أن يغلظ عليه من غير رضاه ، ولا أن ينقص حقّ الفقراء إذا لم يقصده.

والمنع ، لأنّ تأثير الخلطة لخفّة المؤونة باتّحاد المرافق وذلك لا يختلف‌

____________________

(١) المجموع ٥ : ٤٣٤ - ٤٣٥ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩٢ - ٣٩٤ ، الاُم ٢ : ١٣ ، مختصر المزني : ٤٣ ، المغني ٢ : ٤٧٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢٨ - ٥٣٠.

(٢) المجموع ٥ : ٤٣٥ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩٧ - ٣٩٨.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٨ ، المجموع ٥ : ٤٣٥ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩٨ - ٣٩٩.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٨ ، المجموع ٥ : ٤٣٥ - ٤٣٦ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩٩.

٩٣

بالقصد وعدمه(١) .

وهل يشترط وجود الاختلاط في أول السنة واتّفاق أوائل الأحوال؟

قولان(٢) .

وفي تأثير الخلطة في الثمار والزرع ثلاثة أقوال له : القديم : عدم التأثير ، وبه قال مالك وأحمد في رواية.

لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والرعي )(٣) وإنّما تتحقّق في المواشي.

والجديد : عدمه(٤) ، وتأثير خلطة الشيوع دون الجوار(٥) ، فعلى الجديد تؤثّر ، لحصول الاتّفاق باتّحاد العامل والناطور(٦) والنهر الذي تسقى منه.

وقال بعض أصحاب مالك : لا يشترط من هذه الشروط شي‌ء سوى الخلطة في المرعى ، وأضاف بعض أصحابه إليه الاشتراك في الراعي أيضاً(٧) ، والكلّ عندنا باطل.

فروع على القول بشركة الخلطاء :

أ - إذا اختلطا خلطة جوار ولم يمكن أخذ مال كلّ منهما من ماله كأربعين لكُلٍّ عشرون ، أخذ الساعي شاةً من أيّهما كان ، فإن لم يجد الواجب إلّا في‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٨ ، المجموع ٥ : ٤٣٦ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩٩ - ٤٠٠ ، حلية العلماء ٣ : ٦١.

(٢) فتح العزيز ٥ : ٤٠٢ - ٤٠٣.

(٣) سنن الدارقطني ٢ : ١٠٤ / ١ ، سنن البيهقي ٤ : ١٠٦ وفيهما : ( الراعي ) بدل ( الرعي ).

(٤) أي عدم عدم التأثير الملازم للثبوت.

(٥) المجموع ٥ : ٤٥٠ ، فتح العزيز ٥ : ٤٠٤ ، حلية العلماء ٣ : ٧١ ، المدوّنة الكبرى ١ : ٣٤٣ ، بلغة السالك ١ : ٢١٠ - ٢١١ ، المغني ٢ : ٤٨٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٤٤.

(٦) الناطور : حافظ الزرع والثمر والكرم. لسان العرب ٥ : ٢١٥ « نطر ».

(٧) المنتقى - للباجي - ٢ : ١٣٧ و ١٣٨ ، المغني ٢ : ٤٧٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٣١ ، فتح العزيز ٥ : ٤٠٤ ، حلية العلماء ٣ : ٦٢.

٩٤

مال أحدهما أخذ منه.

وإن أمكن أخذ ما يخصّ كلّ [ واحد ](١) منهما لو انفرد فوجهان : أن يأخذ من كلّ منهما حصّة ماله ليغنيهما عن التراجع ، وأن يأخذ من عرض المال ما يتّفق ، لأنّهما مع الخلطة كمال واحد ، والمأخوذ زكاة جميع المال(٢) .

فعلى هذا لو أخذ من كلّ منهما حصّة ماله بقي التراجع بينهما ، فإذا أخذ من هذا شاةً ، ومن هذا اُخرى رجع كلٌّ منهما على صاحبه بنصف قيمة ما اُخذ منه.

ولو كان بينهما سبعون من البقر أربعون لأحدهما ، وثلاثون للآخر ، فالتبيع والمسنّة واجبان على الشيوع ، على صاحب الأربعين أربعة أسباعهما ، وعلى صاحب الثلاثين ثلاثة أسباعهما.

فإن أخذهما من صاحب الأربعين رجع على صاحب الثلاثين بثلاثة أسباعهما وبالعكس.

ولو أخذ التبيع من صاحب الأربعين والمسنّة من الآخر رجع صاحب الأربعين بقيمة ثلاثة أسباع التبيع على الآخر ، والآخر بقيمة أربعة أسباع المسنّة على الأول.

وإن أخذ المسنّة من صاحب الأربعين والتبيع من الآخر رجع صاحب الأربعين بقيمة ثلاثة أسباع المسنّة على الآخر ، والآخر عليه بقيمة أربعة أسباع التبيع ، هذا كلّه في خلطه الجوار.

أمّا خلطة الأعيان فالأخذ منه يقع على حسب ملكهما ، فلو كان لهما ثلاثمائة من الإِبل فعليهما ستّ حقاق ولا تراجع.

ولو كان لأحدهما ثلاثمائة وللآخر مائتان فله عشر حقاق بالنسبة ، وهذا‌

____________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) الوجهان للشافعية ، راجع فتح العزيز ٥ : ٤٠٨.

٩٥

يأتي على مذهبنا.

ب - لو ورثا أو ابتاعا شائعاً وأداما الخلطة زكّيا - عندهم - زكاة الخلطة ، وكذا لو ملك كلٌّ منهما دون النصاب ثم خلطا وبلغ النصاب(١) .

ولو انعقد الحول على مال كلّ منهما منفرداً ثم طرأت الخلطة ، فإن اتّفق الحولان بأن ملكا غرّة المحرّم وخلطا غرّة صفر ، ففي الجديد : لا يثبت حكم الخلطة في السنة الاُولى - وبه قال أحمد - لأنّ الأصل الانفراد ، والخلط عارض فيغلب حكم الحول المنعقد على الانفراد ، وتجب على كلّ منهما شاة إذا جاء المحرّم(٢) .

وفي القديم - وبه قال مالك - ثبوت حكم الخلطة نظراً إلى آخر الحول ، فإنّ الاعتبار في قدر الزكاة بآخر الحول ، فيجب على كلّ منهما نصف شاة إذا جاء المحرّم(٣) .

ولو اختلف الحولان ، فملك أحدهما غرّة المحرّم والآخر غرّة صفر وخلطا غرّة ربيع ، فعلى الجديد ، إذا جاء المحرّم فعلى الأول شاة ، وإذا جاء صفر فعلى الثاني شاة.

وعلى القديم ، إذا جاء المحرّم فعلى الأول نصف شاة ، وإذا جاء صفر فعلى الثاني نصف شاة.

ثم في سائر الأحوال يثبت حكم الخلطة على القولين ، فعلى الأول عند غرّة كلّ محرّم نصف شاة ، وعلى الثاني عند غرّة كلّ صفر كذلك ، وبه قال مالك وأحمد(٤) .

وقال ابن سريج : إنّ حكم الخلطة لا يثبت في سائر الأحوال ، بل‌

____________________

(١) فتح العزيز ٥ : ٤٤١.

(٢ و ٣ ) المجموع ٥ : ٤٤٠ ، الوجيز ١ : ٨٣ ، فتح العزيز ٥ : ٤٤٣ - ٤٤٦ ، المغني ٢ : ٤٧٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢٩.

(٤) فتح العزيز ٥ : ٤٤٧ - ٤٤٩ ، المجموع ٥ : ٤٤٠ - ٤٤١.

٩٦

يزكّيان زكاة الانفراد أبداً(١) .

ولو انعقد الحول على الانفراد في حق أحد الخليطين دون الآخر كما لو ملك أحدهما غرّة المحرّم والآخر غرّة صفر ، وكما ملك خلطا ، فإذا جاء المحرّم فعلى الأول شاة في الجديد ، ونصف شاة في القديم(٢) .

وأمّا الثاني فإذا جاء صفر فعليه نصف شاة - في القديم - وفي الجديد ، وجهان : شاة ، لأنّ الأول لم يرتفق بخلطته فلا يرتفق هو بخلطة الأول ، وأظهرهما : نصف شاة ، لأنّه كان خليطاً في جميع الحول ، وفي سائر الأحوال يثبت حكم الخلطة على القولين إلّا عند ابن سريج(٣) .

ولو طرأت خلطة الشيوع على الانفراد كما لو ملك أربعين شاة ، ثم باع بعد ستّة أشهر نصفها مشاعاً ، فالظاهر أنّ الحول لا ينقطع ، لاستمرار النصاب بصفة الاشتراك ، فإذا مضت ستّة أشهر من وقت البيع فعلى البائع نصف شاة ولا شي‌ء على المشتري إن أخرج البائع واجبة من المشترك ، لنقصان النصاب.

وإن أخرجها من غيره ، وقلنا : الزكاة في الذمة ، فعليه أيضاً نصف شاة عند تمام حوله ، وإن قلنا : تتعلّق بالعين ففي انقطاع حول المشتري قولان : أرجحهما : الانقطاع ، لأنّ إخراج الواجب من غير النصاب يفيد عود الملك بعد الزوال لا أنّه يمنع الزوال(٤) .

ج - إذا اجتمع في ملك الواحد ماشية مختلطة ، واُخرى من جنسها منفردة كما لو خلط عشرين شاة بمثلها لغيره وله أربعون ينفرد [ بها ](٥) ففيما يخرجان الزكاة؟ قولان مبنيّان على أنّ الخلطة خلطة ملك أي يثبت حكم الخلطة في‌

____________________

(١) الوجيز ١ : ٨٣ ، المجموع ٥ : ٤٤١ ، فتح العزيز ٥ : ٤٤٩.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٨ - ١٥٩ ، المجموع ٥ : ٤٤١ ، فتح العزيز ٥ : ٤٥٣.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٨ - ١٥٩ ، المجموع ٥ : ٤٤١ ، فتح العزيز ٥ : ٤٥٤.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٩ ، المجموع ٥ : ٤٤٢ ، فتح العزيز ٥ : ٤٥٩ - ٤٦٢.

(٥) زيادة يقتضيها السياق.

٩٧

كلّ ما في ملكه ؛ لأنّ الخلطة تجعل مال الاثنين كمال الواحد ، ومال الواحد يضمّ بعضه إلى بعض وإن تفرّقت أماكنه ، فعلى هذا كان صاحب الستّين خلط جميع ماله بعشرين ، فعليه ثلاثة أرباع شاة ، وعلى الآخر ربعها.

أو أنّها خلطة عين أي يقتصر حكمها على عين المخلوط ، لأنّ خفّة المؤونة إنّما تحصل في القدر المخلوط وهو السبب في تأثير الخلطة ، فعلى صاحب العشرين نصف شاة ، لأنّ جميع ماله خليط عشرين ، وفي أربعين شاة ، فحصّة العشرين نصفها(١) .

وفي صاحب الستّين وجوه : أصحّها عنده : أنه يلزمه شاة ، لأنّه اجتمع في ماله الاختلاط والانفراد فغلّب حكم الانفراد ، كما لو انفرد بالمال في بعض الحول فكأنّه منفرد بجميع الستّين ، وفيها شاة.

والثاني : يلزمه ثلاثة أرباع شاة ، لأنّ جميع ماله ستّون ، وبعضه مختلط حقيقةً ، وملك الواحد لا يتبعّض حكمه فيلزم إثبات حكم الخلطة للباقي ، فكأنّه خلط جميع الستّين بالعشرين ، وواجبها شاة حصّة الستّين ثلاثة أرباعها.

الثالث : يلزمه خمسة أسداس شاة ونصف سدس جمعاً بين اعتبار الخلطة والانفراد ، ففي الأربعين حصّتها من الواجب لو انفرد بالكلّ وهو شاة حصّة الأربعين ثُلثا شاة ، وفي العشرين حصّتها من الواجب لو خلط الكلّ وهي ربع شاة لأنّ الكلّ ثمانون ، وواجبها شاة.

الرابع : أنّ عليه شاة وسدس شاة من ذلك نصف شاة في العشرين المختلطة ، كما أنّه واجب خليطه في ماله ، وثُلثا شاة في الأربعين المنفردة وذلك حصة الأربعين لو انفرد بجميع ماله.

الخامس : أنّ عليه شاة في الأربعين ونصف شاة في العشرين ، كما لو‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٩ ، المجموع ٥ : ٤٤٤ ، فتح العزيز ٥ : ٤٦٩ - ٤٧٠.

٩٨

كانا لمالكين(١) .

ولو خلط عشرين بعشرين لغيره ولكلّ منهما أربعون منفردة ، إن قلنا بخلطة الملك فعليهما شاة ، لأنّ الكلّ مائة وعشرون

وإن قلنا بخلطة العين فوجوه : أصحها : أنّ على كلّ منهما شاة.

الثاني : ثلاثة أرباع ، لأنّ كلّاً منهما يملك ستّين بعضها خليط عشرين فيغلب حكم الخلطة في الكلّ ، والكلّ ثمانون ، حصّة ستّين ما قلنا.

الثالث : على كلّ منهما خمسة أسداس شاة ونصف سدس جمعاً بين الاعتبارين ، فيقدّر كلّ واحد منهما كأنّه منفرد بالستّين ، وفيها شاة ، فحصّة الأربعين منها ثُلثا شاة ، ثم يقدّر أنّه خلط جميع الستّين بالعشرين والمبلغ ثمانون ، وفيها شاة ، فحصّة العشرين منها ربع شاة.

وقيل : على كلّ واحد خمسة أسداس شاة بلا زيادة تجب في العشرين بحساب ما لو كان جميع المالين مختلطاً وهو مائة وعشرون وواجبها شاة ، فحصة العشرين سدس شاة وفي الأربعين ثُلثا شاة(٢) .

الرابع : على كلّ منهما شاة وسدس شاة ، نصف شاة في العشرين المختلطة قصراً لِحكم الخلطة على الأربعين ، وثُلثا شاة في الأربعين المنفردة.

الخامس : على كلّ واحد شاة ونصف شاة ، شاة للأربعين المنفردة ، ونصف للعشرين المختلطة(٣) .

د - لو خالط الشخص ببعض ماله واحداً وببعضه آخر ولم يتشارك الآخران بأن يكون له أربعون فخلط منها عشرين بعشرين لرجل لا يملك غيرها ،

____________________

(١) المجموع ٥ : ٤٤٤ ، الوجيز ١ : ٨٤ ، فتح العزيز ٥ : ٤٧١ - ٤٧٣.

(٢) فتح العزيز ٥ : ٤٧٤.

(٣) المجموع ٥ : ٤٤٤ ، فتح العزيز ٥ : ٤٧٣ - ٤٧٥.

٩٩

وعشرين بعشرين لآخر كذلك ، فإن قلنا بخلطة الملك فعلى صاحب الأربعين نصف شاة ، لأنّه خليطهما ومبلغ الأموال ثمانون ، وحصّة الأربعين منها النصف ، وكلّ واحد من خليطيه يضمّ ماله إلى جميع مال صاحب الأربعين.

وهل يضمّه إلى مال الآخر؟ وجهان : الضمّ ، لينضمّ الكلّ في حقّهما كما انضمّ في حق صاحب الأربعين ، فعلى كلّ واحد منهما ربع شاة.

والعدم ، لأنّ كلّاً منهما لم يخالط الآخر بماله بخلاف صاحب الأربعين فإنه خالط لكلِّ واحد منهما ، فعلى كلّ واحد ثُلث شاة.

وإن قلنا بخلطة العين فعلى كلّ من الآخَرَين نصف شاة ، لأنّ مبلغ ماله وما خالط ماله أربعون(١) .

وفي صاحب الأربعين وجوه :

أحدها : تلزمه شاة تغليباً للانفراد وإن لم يكن منفرداً حقيقةً لكن ما لم يخالط به أحدهما فهو منفرد عنه فيعطى حكم الانفراد ، ويغلب حتى يصير كالمنفرد بالباقي أيضاً ، وكذا بالإِضافة إلى الخليط الثاني فكأنّه لم يخالط أحداً.

الثاني : يلزمه نصف شاة ، تغليباً للخلطة ، فإنّه لا بدّ من إثبات حكم الخلطة حيث وجدت حقيقةً ، واتّحاد المال يقتضي ضمّ أحد ماليه إلى الآخر ، فكلّ المال ثمانون ، فكأنّه خلط أربعين بأربعين.

الثالث : يلزمه ثُلثا شاة جمعاً بين اعتبار الخلطة والانفراد ، بأن يقال : لو كان جميع ماله مع [ مال ](٢) زيد لكان المبلغ ستّين وواجبها شاة ، حصّة العشرين الثُلث ، وكذا يفرض في حقّ الثاني فيجتمع عليه ثُلثان(٣) .

مسألة ٥٦ : قد بيّنا أنّه إذا ملك أربعين وجب عليه الشاة وإن تعدّدت‌

____________________

(١) المجموع ٥ : ٤٤٥ ، فتح العزيز ٥ : ٤٧٦ - ٤٧٧.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) المجموع ٥ : ٤٤٥ ، فتح العزيز ٥ : ٤٧٧ - ٤٧٨.

١٠٠

٢ - إذا جعلنا الذرّة بين الجسمين كالصحيفتين، فقهراً تلاقي السطحين من الجسمين المذكورين، وعليه فيكون لها سطحان؛ إذ لا يعقل تلاقي السطحين بسطح واحد بالضرورة.

وهنا وجوه أُخرى تدلّ على تركّبها بصورة قاطعة، لكنّ هذين الوجهين من أبسطها وأقربها إلى الأفهام الساذجة. فإذن، نثبت أنّ هذه الذرّات والأجزاء الصغار - سواء في ذلك ذرات ذيمقراط، وأمواج روتر فورد، الذي كسر الذرّة واستكشف أمواجها كما تقدّم - مركّبة، فلابدّ لها من مركِّب فاعل التركيب، وهو الله الواحد القهّار.

وأمّا كون الحركة ليست من نفس المادة، بل هو من غيرها - وهو الله تعالى - فلِما تقرّر في كتب الكلام والفلسفة، من لزوم تعدّد المحرّك والمتحرّك فلاحظ.

هذا وعلى قولهم من الحركة الذاتية، يلزم تركّب الأجزاء، وإن سلّمنا إمكان بساطتها في نفسها، فإنّ الأجزاء لها جهة مشتركة في الجوهرية، وجهة مميّزة؛ لاختصاص كلّ منها بحركة في جهة تتوجه إليها حركة الذرّة الأُخرى؛ إذ لو كان حركاتها إلى جهة واحدة بلا انحراف، لَما تشكّل الأجسام منها بالضرورة، وهكذا الكلام، في قول بخنز: فإنّ محلّ الدفع غير الجذب، فيتركّب الجزء، وإن جُعل الدفع في جزء والجذب في جزء، فهذا أيضاً يلزم التركّب من جزء مشترك بين الجزءين في الجوهرية، ومن جزء مميّز بالدفع والجذب. وهذا يكفي لهدم جميع ما أسّسوه، وإبطال ما ذكروه بصورة قاطعة، ولا يبقى للعاقل احتمال في بطلان مبدئية الذرّات للعالم، فإذن، لابدّ من الالتزام والإذعان، بوجود الواجب القديم المجرّد عن المادة ولواحقها.

أضف إلى ذلك أنّ المادة - كما نادوا بأعلى أصواتهم - حقيقة واحدة، والحقيقة الواحدة لا يصدر عنها آثار مختلفة، فكيف يسوغ لهم، استناد هذه الموجودات المتفاوتة المتباينة إلى المادة المزبورة؟ فإن صحّ ذلك، وأمكن بروز الآثار المتفاوتة عن حقيقة فاردة، أصبحت العلوم الطبيعية عقيمةً ولا تُنتج شيئاً؛ بداهة أنّ التجربة لا تقع إلاّ على موارد محدودة، يُعلم منها أنّ هذه الحقيقة ذات أثر كذا، فيوضع ذلك قانوناً كلّياً وقاعدةً شاملة، فيقال مثلاً: إنّ الدواء الفلاني يزيل المرض الفلاني مطلقاً؛ اعتماداً في الكلية المذكورة، على أنّ الحقيقة الواحدة لا يختلف أثرها، وأمّا إذا فرضنا جواز اختلافه فلا يتمّ قاعدةً تجربية قطعاً، فالعلوم التجربية كالفلسفة تقتضي عدم استناد العالم إلى الذرّات المذكورة، وقد نُقل أنّ بعض متفكّري الغرب تنبّه لذلك فآمن بالله العظيم، فلو صحّ بساطة المادة لَما صلحت للعلّية المطلقة من هذه الناحية (١) .

____________________

(١) الزمر ٣٩ / ٦٢.

١٠١

النظام الكامل

يقتضي على علّية المادة

ولئن أغمضنا النظر عن جميع ما تقدّم، من تزييف مبدئية المادة للعالم، لكان نظام الخِلقة، وإتقان الطبيعة، أحسن شاهد وأقوى كاشف، عن وجود المبدأ العليم المريد الحكيم، وقد ظلت العلوم الطبيعية تكشف لنا أسرار الكون، وعجائب الخِلقة، ودقائق الصنع، بما يندهش منه العقول، أَفليس هذا العالم البديع المنظّم - بكراته السامية، وشموسه المضيئة، وميكروباته الصغيرة، وموجوداته الحية، ونباتاته النامية، وجماداته المتنوّعة، وما أُودع في كلّ منها من الحكمة والدقّة - دليلاً على وجود المعبود الواجب القديم المجرّد؟ أَليست قبة واحدة تحكي عن بنّاء عالم بقانون العمارة والبناء؟ أيمكن أن يقال: إنّ طائرة واحدة طارت إلى السماء بلا سائق أو مدبّر؟ وهكذا، فإذا دلّت ماكنة صغيرة على فاعلها الشاعر، فكيف لا يدلّ هذا النظام البهي الجميل على علم فاعله؟!

وهذه الدلالة ضرورية بديهية لا يمكن لذي شعور إنكارها، فكما لا يمكن أن يصير الجاهل البدوي، مدرّساً في العلوم المختلفة بلا تعلّم، فكذا المادة لا تكون خلاّقة لهذا النظام الكامل التام، بل هو يكشف عن وجود مدبّر عالم حكيم وهو الله تعالى. وهذا - لمكان بداهته، وشدّة جلائه، وارتكازه في النفوس الإنسانية - لا يحتاج إلى زيادة بيان، وكثرة إيضاح، فضلاً عن توسيط برهان حسب الاحتمالات، الذي ابتكره بلز پاسكال عام ١٦٥٤م وقَبله عنه غيره، هذا مع أنّه غير تام عندي في نفسه.

وعلى الجملة: مَن شك في هذا الدليل، فقد خرج عن الفطرة السليمة الإنسانية، والقرآن الحكيم في جملة من آياته المباركة قد نبّه الإنسان من هذا الطريق على معرفة ربّه فقال: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً * تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ) (١) وقال: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً

____________________

(١) الفرقان ٢٥ / ٥٩ - ٦٢.

١٠٢

وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاّ كُفُوراً ) (١) وقال: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، وأمّا السنة فهي مشحونة بأمثالها.

____________________

(١) الفرقان ٢٥ / ٤٧ - ٥٠.

(٢) المؤمنون ٢٣ / ١٢ - ١٤.

١٠٣

ما يقول المادّيون

عن هذا النظام الأجمل؟

حينما تستنطق الماديين في انبثاق هذا النظام الأكمل عن الطبيعة الجامدة العمياء يجيبونك بوجهين:

الأَوّل: إنّه اتّفاق وتصادف، فهذه الأناظيم حصلت اتّفاقاً وصدفةً، من حركات الأجزاء غير المتجزّئة! وقد أشرنا إلى أنّ هذا الكلام لا ينافي ناموس العلم فقط، بل يصادم الإنسانية في فطرتها المودعة فيها فلا جواب له، ولو تمّ التصادف، بطل قانون العلية، وببطلانه تنهدم العلوم من أساسها.

الثاني: إنّه نتيجة الانتخاب الطبيعي والتنازع - التناحر - في البقاء. توضيح ذلك على سبيل الاختصار: إنّ شارلز روبرت داروين الانجليزي (١٨٠٩ - ١٨٨٢م)، دوّن فرضية رجوع الأنواع إلى أصل واحد أو أصول محدودة، وبعبارة أُخرى: أنّ هذه الفرضية تقول: إنّ هذه الأنواع الموجودة من الحيوانات، لم تكن كذلك في أصلها، بل أصلها إمّا نوع واحد أو أنواع محدودة، وجعل لتركيزها نواميس أربعة:

١ - التنازع في البقاء: فكلّ حي ينازع في حفظ كيانه وتثبيت بقائه، وان كان ذلك مستلزماً للتجاوز على الآخرين.

٢ - الانتخاب الطبيعي: يعني أنّ نتيجة التنازع المذكور، بقاء الأصلح وفساد غير الأصلح أو ضعفه جداً.

٣ - قانون المطابقة: وهو تأثير الأمكنة، والأغذية، والملابسات الواقعة في الحياة، في اختلاف الأفراد والأنواع، فقوة أظفار الأسد وحدته لافتراسه، فلو وقع في محلّ لا يمكنه الصيد، واضطر إلى أكل الحشائش - كالدواب مثلاً - تبطل خاصية أظفاره، بل تقوى أنيابه وهكذا.

٤ - قانون الوارثة: وهو أنّ الصفات العارضة والأطوار الاتّفاقية، التي طرأت على الحيوانات من جهة اختلاف الأحوال تنتقل إلى أولادها، فتوجب اختلاف أشكالها، بحيث ينجرّ إلى تخيّل اختلاف أنواعها في الأصل، مع أنّ الاختلاف المذكور نتيجة التوارث بتمادي الزمان، وعليه يترتّب رجوع الأنواع إلى نوع واحد، أو أنواع محدودة.

١٠٤

ولما انتشرت هذه الفرضية فرح المادّيون بها، وحسبوا أنّها كافية لأن يُعلّل بها النظام المحكم الساري في أجزاء العالم، ومعها لا موجب للتشبّث بالصدفة والاتّفاق، الذي يرفضه أوائل العقول الساذجة، وينافره شرف العلم والإنسانية، فقالوا: إنّ الطبيعة وإن كانت غير شاعرة، إلاّ أنّ هذا النظام متولّد من انتخابها بعد التنازع في البقاء، بضميمة المطابقة والوراثة، فارتقاء الموجودات إلى هذه الدرجة من التكامل، معلول لهذه النواميس دون المادة نفسها.

أقول: البحث حول هذه الفرضية عن ناحيتين: الناحية الأُولى في صحّتها في نفسها، والناحية الثانية في استنتاج ما تخيّله الماديون منها.

أمّا الناحية الأُولى وصحّتها في نفسها فلا دليل عليها، غير بعض التخمينات والتخرّصات التي لم يقرّ بها العلم ولا الفلسفة، بل البرهان على خلافها، بل الإنصاف أنّها مخالفة للحسّ والوجدان والأخلاق، كما فصّلنا القول فيها في مجموعتنا المسماة بـ (كشكول محسني)، وقد دلّل على بطلانها غير واحد من باحثي الغرب، حتى أخرجها بعضهم من المسائل العلمية، وجعلها آخر منافيةً للتمدّن الغربي وموجبةً لتأخّره، وحسبها الثالث من الأقاصيص التي تحكيها الأُمهات لأولادها الصغار، بل نسبها بعضهم إلى الجنون... إلى غير ذلك من الكلمات الحادّة التي نقدوا بها هذه النظرية (١) .

وأمّا الناحية الثانية فنقول: إذا سلّمنا هذه الفرضية بتمامها وحسبناها قطعيةً، فلا يمكن استفادة مرام الماديين منها، كما لا يمكن استفادة الحرارة من الثلج!

نقول: مَن الذي أوجد هذه الموجودات؟ مَن الذي خلق هذه الذرّات المركّبة؟ مَن الذي أعطى الطبيعة انتخابها؟ مَن الذي أودع التنازع في كيان الأشياء؟ وهكذا فلابدّ إمّا من الرجوع إلى الصدفة والاتفاق، أو إلى الإيمان بخالق الإنس والجان، وهذا الذي ذكرنا لم يخفَ على داروين نفسه؛ ولذا لم يجعلها دليلاً على إنكار الصانع، بل قيل: إنّه كان عاملاً ومقيّداً بجميع ما جاء في مذهب الپرتستان أرتدوكس (٢) ، من دين المسيح عليه‌السلام ، بل صرّح بأنّ عقائده لا تنافي المذاهب (٣) .

وإليك ملخّص ما كتبه هو إلى بعض الألمانيين عام ١٨٧٣: يستحيل على العقل الرشيد أن تمرّ به خلجة من الشك، في أنّ هذا العالم الفسيح، بما فيه من الآيات البالغة، وتلك الأنفس الناطقة

____________________

(١) الجينات الوراثية أثبتت اليوم خِلقة الإنسان الابتدائية، وأبطلت تحوّل الإنسان من الحيوان، وتدلّ هي على صدق القرآن على أخباره، أنّ الإنسان خُلق كذلك ابتداءً.

(٢) فيلسوف نماها / ٢٢٦.

(٣) المصدر نفسه/ ٢٢٥.

١٠٥

المفكّرة، قد صدر عن مصادفة عمياء؛ لأنّ الأعمى لا يخلق نظاماً ولا يبدع حكمةً، ذلك أكبر برهان يقوم عندي على وجود الله.

ثمّ يقول: ولقد قامت عندي شكوك كثيرة لأَوّل عهدي بالبحث، فسألت: من أين جاءت العلّة الأُولى؟ وهل لها نشأة ومعاد؟ غير أنّي لم ألبث حتى استبان لي، أنّ هذا الشك نفسه قد يخطر للإنسان، إذا فكّر في نشأة المادّة المحسوسة ذاتها، فمن أين جاءت المادة القديمة؟ وهل لها أَوّل؟ أم هي أزلية؟ فإذا كانت أزليةً - وغالبة الظن على ذلك - فمن أين أتت؟ تلك الحدود التي يقف عندها الفكر الإنساني معترفاً بالعجز (١) ، لكنّ الماديين أكثروا السرعة من مقلّدهم - بالفتح - ولم يدروا أنّ هذه التلفيقات على فرضِ صحّتها، لا ترتبط بهوَساتهم أصلاً.

ثمّ إنّ شارلز داروين ليس مؤسّساً لهذه النظرية، بل ذكرها غير واحد ممّن سبقه، كما ذكره فريد وجدي في دائرة المعارف، بل يوجد ذلك في كلمات العرب - إخوان الصفا وغيرهم أيضاً - كما نقلها إسماعيل مظهر في مقدّمة ترجمة أصل الأنواع (٢) ، مع أنّهم من المسلمين، فاتضح من جميع ذلك أنّ هذه النظرية لا تشفي داء الماديين، فإنّ صحّتها لا تصادم وجود الله تعالى، بل ولا غيره من الأصول الدينية، نعم هي غير صحيحة عند القرآن، فإنّه يبيّن خِلقة الإنسان بدواً وينفي - بالدلالة الالتزامية - تكوّنه من القرود وغيرها، فهي تخالف الإسلام في مسألة فرعية جزئية، وقد عرفت أنّ البرهان والحسّ والأخلاق ترجّح جانب القرآن.

ولهم جواب ثالث معروف بالفلسفة الدياليكتيكية، وقد بُنيت على أُصول أربعة:

التغيّر والتحوّل الباطني (في مقابل التغيّر الحاصل من خارج الشيء المسمّى بالميكانيك)، صحّة التناقض والتضاد، بل ضرورة وقوعهما في كلّ شيء، تأثير التقابل وهو ارتباط الأشياء بعضها ببعض، بلا انفصال لشيء منها من هذه السلسلة المرتبطة، تبديل الكمّية إلى الكيفية دفعة واحدة؛ وعليها بنوا إنكار الواجب الوجود والأديان، بل وجميع الأحكام العقلية؛ إذ لا شيء ثابت عندهم أصلاً، بل كلّ شيء له أَوّل ونهاية، وبها علّلوا نظام العالم المتقن! لكن هذه الفرضية واضحة البطلان؛ لأنّ الأصل الأَوّل يشمل نفس هذه الفرضية أيضاً، فلا قيمة لها، فإنّها محكومة بالزوال والاضمحلال.

وحلّه: أنّ التغيّر غير جارٍ في العلوم غير المادية، أَليست نتيجة ضرب الاثنين في الاثنين هي الأربعة، وهل يحتمل أحد أن تكون النتيجة خمسة أو ثلاثة في زمان من الأزمنة؟ لكنّهم لا يفرّقون بين العلوم الطبيعية والعقلية، فيطبّقون أحكام الأُولى على الثانية.

____________________

(١) مقدّمة ترجمة أصل الأنواع بالعربية تأليف إسماعيل مظهر / ٢٦.

(٢) أصل الأنواع / ٢٩ - ٤١.

١٠٦

وأمّا صحّة التناقض والتضاد والحكم بوقوعهما، بل بضرورة وقوعهما فضلاً عن إمكانه، فهو مخالف للفطرة الإنسانية والضرورة الأَوّلية، فإنّ امتناعهما ضروري عند كل أحد حتى الصبيان، لكن الأمر اشتبه على الماديين الدياليكتيكيين، ولم يقدروا على ضبط الوحدات المعتبرة في التناقض، وحيث أتوا بأمثلة جزئية دالة على وقوعه، لم يلتفتوا إلى فقدان وحدة أو وحدات منها، فحسبوا أنّهم فازوا بمرادهم! وقد مرّ الكلام فيه (١) .

وأمّا الثالث فلا كلّية وتعميم فيه ولا دليل على ذلك، وأمّا الرابع فهو باطل وما قيل في وجهه مضحك جداً، ولا ينبغي أن نضيّع الوقت بإطالة الكلام معهم إثباتاً ونفياً، ولعمرك إنّ وضوح فساد كلام المادّيين وشدّة اختلاله، دليل آخر على وجود الواجب الوجود، وضرورة إثبات الصانع المختار العليم ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) .

وعلى الجملة: أنّ جميع فرضيات الماديين حول مبدأ العالم، وتلفيقاتهم حول نظام العالم البديع، ترجع إلى صدفة عمياء لا غير، وهي تناقض مبدأ العليّة العامّة الشاملة غير القابلة للاستثناء، فلا تغرنّكم كثرة تعابيرهم وفرضياتهم، فدقّق النظر تجد صدق قولنا، وبعد ثبوت تركّب الذرّة وتجزئتها، فقد سقط معبود الماديين إلى اليوم وإلى الأبد.

____________________

(١) وخلاصة الكلام أنّ الماديين اشتبهوا في مبدأ التناقض، أَوّلا باشتباه التضاد الفلسفي بالتضاد العلمي، وثانياً بعدم الفرق بين التناقض والتضاد الفلسفيين، وثالثاً بإمكان الأخيرين وضرورة وقوعهما! غافلين عن أنّ التناقض الفلسفي لو كان ممكناً، لكان إنكارهم على مخالفيهم باطلاً؛ لصحّة ووقوع التناقض وعدمه!

١٠٧

خاتمة

اعلم أنّ معرفته تعالى على درجات: الدرجة الأُولى: ما يحصل من الدلائل الإنيّة. الدرجة الثانية: ما يثبت بالبراهين الشبيهة باللم. الدرجة الثالثة: ما يستقرّ بالمشاهدة القلبية، ولها عرض عريض رزقنا الله إيّاها، ففي رواية أبي الحسن الموصلي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: (ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أرَه. قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) (١) .

وفي دعاء يوم عرفة المنسوب إلى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام : (إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك، كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهِر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟ ومتى بعُدت حتى تكون الآثار هي التي تُوصل إليك؟ عَميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبّك نصيباً... منك أطلب الوصول إليك، وبك استدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك... أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدّوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتى لم يحبّوا سواك... إلخ) هذا، وكل ميسّر لِما خلق لأجله.

واعلم أنّ معرفة معظم المؤمنين الباحثين - فضلاً عن العوام - بالله تعالى إنّما هي بمفاهيم كلية يضم بعضها مع بعض، تنطبق على الموجود الواحد المخصوص وهو الله تعالى، كمفهوم الواجب الوجود غير المركّب والمتعدّد، وكمفهوم الصانع والخالق الحكيم المدبّر، وكمفهوم القديم الأزلي الأبدي الباقي ونحوها، وهي معرفة علمية يكتسبها أهل المعقول من المباحث الفلسفة والكلامية.

وأمّا المعرفة القلبية الإشراقية الإلهامية - وما شئت فسمِّها به - فهي تحصل من العبودية، والإخلاص، والخضوع مع صفاء الروح، والمؤلّف الفقير الناقص حيث لم يذق حلاوة الإيمان في باطنه، يعلم أنّ إيمانه بالله تعالى، ومعرفته علمية لا معرفته قلبية. فـ ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (٢) .

____________________

(١) أُصول الكافي ١ / ٩٨.

(٢) الحجر ١٥ / ٩٩.

١٠٨

المقصد الثاني

في صفاته الثبوتية

تمهيد

الموقف الأَوّل: في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية

الموقف الثاني: في صفاته الثبوتية المدحية

الموقف الثالث: في صفاته الثبوتية الفعلية الجمالية

١٠٩

المقصد الثاني

في صفاته الثبوتية

تمهيد

كل ما أوجب اتّصاف الواجب به كمالاً وبهاءً بلا استتباع نقص، فهو صفة ثبوتية، وما لم يكن كذلك فهو صفة سلبية؛ لِما سيمرّ عيك في محلّه - إن شاء الله - من أنّه كامل في غاية الكمال، كيف وهو مصدر كلّ كمال فلا سبيل للنقص إليه أبداً؟.

وأمّا ما ذكره بعض المتكلّمين، وشاع في الألسن، من حصر الصفات الثبوتية في الثمانية، (١) والسلبية في السبعة، (٢) فخطأ محض، ولعلّه؛ للاهتمام بها، أو لوقوع الاختلاف فيها، أو لاحتياجها إلى الاستدلال، وغير ذلك من الاعتبارات، وإلاّ فلا حدّ لحميد صفاته وجميل أفعاله.

وقد ورد في الشرع له تعالى أوصاف كثيرة جمّة، كما يظهر لمَن راجع الأخبار ولا سيما الأدعية.

ثمّ إنّ مصادر هذه النعوت - كالعلم والقدرة والرحمة مثلاً - تسمّى في اصطلاحهم بـ (صفات الله)، ومشتقاتها - مثل العالم والقادر والرحيم - بـ (أسماء الله).

إذا تبيّن ذلك فاعلم أنّ جميع صفاته تعالى:

إمّا حقيقة محضة، وهي ما لا يعتبر في ثبوته له تعالى لحاظ شيء آخر، مثل الحياة، والوجوب، والحقية، مثلاً، فهو حيّ واجب حق بلا لحاظ أمر آخر يتوقّف عليه صدق هذه الصفات وأمثالها.

إمّا إضافيّة محضة، وهي ما لا تحقّق له إلاّ بعد وجد شيء آخر، كالرزق والخلق والرحمة وغيرها، فإنّها لا تثبت إلاّ إذا كان هناك موجود مرزوق مخلوق مرحوم.

وإمّا حقيقية ذات إضافة، وهي ما لا يتوقف مفهومه على شيء آخر، وليس الإضافة مأخوذةً في واقعها، إلاّ أنّها تعرض له، وان شئت فقل: إنّ تحقّق هذا القسم من الصفات غير موقوف على

____________________

(١) كما قال شاعرهم:

عالم وقادر وحى است مريد ومدرك

هم قديم وابدى دان متكلم صادق

(٢) كما قيل:

نه مركّب بود ونه جسم مرئى نه محل

لا شريك است ومعانى تو غنى دان خالق

١١٠

أمر ثانٍ، لكن ترتّب أثرها لا يكون إلاّ بإضافتها إلى شيء مقدور، كالقدرة مثلاً، فإنّ أصل تحقّقها له تعالى لا يحتاج إلى شيء آخر، فليست الإضافة معتبرةً في مفهومها، لكن أثر القدرة لا يتنجّز إلاّ بوجود مقدور.

وإمّا سلبية، وهي ما يُعتبر في مفهومها السلب، كالبساطة والتجرّد والوحدة والغنى وأشباهها؛ إذ الأَوّل سلب التركيب، والثاني سلب المادة وعوارضها، والثالث سلب الشركة، والرابع سلب الفقر وهكذا، فهذا القسم وإن كان على صورة الثبوت لكنّها من النفي حقيقة، على حدّ سلب الجسمية والمعاني والرؤية والحلول والاتحاد، وغيرها من الصفات السلبية ظاهراً وواقعاً.

ثمّ يقال للقسم الأَوّل والثالث: الصفات الذاتية، والصفات الكمالية، ويعبّر عن القسم الثاني بالصفات الفعلية، والصفات الإضافية، والصفات الجمالية، وهنا قسم آخر لم يذكروه وسمّيناه بالصفات المدحية، وسيأتي بحثها في هذا المقصد إن شاء الله، ويسمّى الجميع بالصفات الثبوتية، وأمّا القسم الرابع فيقال له - بكلا نوعيه - الصفات السلبية، والصفات الجلالية، والصفات التقديسية، والذي يهم في المقام بيانه هو فرق الذاتية والفعلية، وأنّه كيف نعرف أنّ هذه الصفة الثبوتية فعلية وهي حادثة، وتلك ذاتية وهي قديمة؟

وإليك ذكر ما يفرّق بينها من الموازين.

١ - كلّ صفة أمكن نفيها عن الواجب القديم، وصحّ إثبات نقيضها له، فهي فعلية، وإلاّ فهي ذاتية؛ وذلك لأنّ الصفة الذاتية إمّا واجبة بل عين ذاته كما هو الحق، وإمّا واجبة الثبوت للذات فلا يمكن انفكاكها عنها (١) .

٢ - كلّ صفة كان لها ضدّ وجودي فهي فعلية؛ إذ الذاتية عين الذات، وستعرف في محله أن لا ضدّ للذات الواجبة، وأمّا إذا لم يكن لها ضدّ فلا يجب أن تكون ذاتيةً، فالملازمة من أحد الطرفين كما لا يخفى.

٣ - كلّ صفة اعتبرت في مفهومها الإضافة فهي فعلية؛ لاحتياجها إلى غير الواجب، فلا يعقل كونها ذاتيةً، وهذا واضح، وكلّ صفة لم تكن إضافية محضة فهي ذاتية؛ إذ لا واسطة بين الفعلية والذاتية؛ فحيث إنّ الصفة غير الإضافية المحضة لا تكون فعليةً؛ للزوم الإضافة في قوام الفعل، فهي ذاتية لا محالة.

٤ - كلّ ما وقع تحت قدرته فهو من الصفات الفعلية، وما لم يقع فهو من الصفات الذاتية؛

____________________

(١) وأمّا الصدق والعدل، وأن لا يجوز سلبهما عن الله تعالى في شيء من الأوقات عند الناس، إلاّ أنّ سلبهما بسلب منشائهما، فيقال: إنّه لم يكن متكلّماً ومعاملاً أزلاً فلا يكون صادقاً وعادلاً.

١١١

والسر في ذلك واضح، فإنّ الخارج عن القدرة ليس إلاّ الواجب.

٥ - كلّ صفة أمكنة وقوعها تحت الإرادة فهي فعلية، وإلاّ فهي ذاتية، ويظهر وجهه ممّا سبق.

وأمّا قوله تعالى: ( وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ) (١) ، وقوله عليه‌السلام : (شاء - أي الله - أن لا يكون شيء في ملكه إلاّ بعلمه) حيث تعلّق المشية بالقدرة وبكون الشيء معلوماً له تعالى، مع أنّ القدرة والعلم من الصفات الذاتية، فلابدّ من توجيههما بوجه مقبول.

٦ - كلّ صفة وقعت في حيّز ألفاظ دالّة على الحدوث والإمكان فهي فعلية لا محالة، ومن الألفاظ المذكور: سوف، سين الاستقبال، جملة من حروف الجر، عسى، ونظائرها، الفاء العاطفة الدالة على الترتيب، ثمّ، إذا، إن، لو، وغير ذلك.

قال الله تعالى: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ ) (٢) ، ( سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ ) (٣) ، ( لِيُضِلَّ قَوْماً ) (٤) ، ( عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) (٥) ، ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى ) (٦) ، ( إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ ) (٧) ، ( فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) ، ( وَلَوْ شِئْنَا ) (٨) .

وأمّا قوله تعالى: ( وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ ) (٩) ، وقوله: ( إِلاّ لِنَعْلَمَ ) (١٠) وأمثاله فسيأتي ما يتعلّق به في مبحث علمه إن شاء الله.

ثمّ إنّ هذا الميزان الأخير السادس - لمكان اتخاذه من ظواهر الألفاظ - ظني غير قطعي، إذا تقرّر ذلك فلنبحث في هذا المقصد عن المواقف الثلاثة: الموقف الأَوّل: في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية، والموقف الثاني: في صفاته الثبوتية المدحية التي لم يذكرها العلماء، والموقف الثالث: في صفاته الثبوتية الفعلية الجمالية.

____________________

(١) الشورى ٤٢ / ٢٩.

(٢) المائدة ٥ / ٥٤.

(٣) التوبة ٩ / ٧١.

(٤) التوبة ٩ / ١٠٩.

(٥) التوبة ٩ / ١٠٢.

(٦) المؤمنون ٢٣ / ٤٥.

(٧) النحل ١٦ / ٤٠.

(٨) الأعراف ٧ / ١٧٦.

(٩) الأنفال ٨ / ٢٣.

(١٠) البقرة ٢ / ١٤٣.

١١٢

الموقف الأَوّل

في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية

الفصل الأَوّل: في قدرته

الفصل الثاني: في علمه

الفصل الثالث: سمعه وبصره

الفصل الرابع: في حياته

١١٣

الفصل الأَوّل

في قدرته تعالى

الناحية الأُولى: في إثبات أصل القدرة

الناحية الثانية: في كيفية القدرة وتفسيرها

الناحية الثالثة: في عموم قدرته

مطالب مهمّة

١١٤

الفصل الأَوّل

في قدرته تعالى

والكلام فيه من نواحٍ ثلاث:

الناحية الأُولى:

في إثبات أصل القدرة

فنقول: إنّ ما يدل على ذلك وجوه:

الأَوّل: إنّ القدرة الواجبة لا تستحيل على الذات الواجبة الوجود قطعاً، فهي إذن ثابتة له؛ لِما مرّ من قاعدة الملازمة.

الثاني: إنّ هذه الكائنات المشهودة، تدل على أنّ الله الذي أوجدها قادر بأتم قدرة، أمّا الصغرى - وهي كون الواجب خالقاً لها - فقد مرّ إثباتها في المقصد الأَوّل بأكمل بيان، وقد عرفت في المدخل أيضاً، أنّ الكائنات الممكنة محتاجة إلى فيضه حدوثاً وبقاءً، وأمّا الكبرى فهي من الأوّليات البديهية، وهذه الحجة أقوى الحجج وأتمّها وأظهرها بلا ريب.

الثالث: القدرة الممكنة متحقّقة في الخارج حسّاً ووجداناً، وهي تقتضي القدرة الواجبة؛ إذ كلّ ما بالغير لابدّ وأن ينتهي إلى ما به الغير دفعاً للدور أو التسلسل، ولا تُعقل القدرة الواجبة إلاّ للذات الواجبة، ثمّ إنّ اختلاف ما بالغير عمّا به الغير سنخاً ونوعاً، وإن كان ممكناً، إلاّ أنّ ما به القدرة لا يكون إلاّ قدرة، كما يظهر وجهه للمتأمّل.

الرابع: العجز نقص، والنقص عليه محال، فهو قادر؛ لعدم واسطة بين القدرة والعجز، إلاّ أنّ المدّعى أظهر من الكبرى بمراتب.

الخامس: اتّفاق الملل والنحل، وإجماع الأنبياء، والآيات القرآنية، والروايات المتواترة، تدل على أنّ الله قادر. ذكره بعض المتكلمين.

أقول: اتّفاقهم وإجماعهم من جهة الأدلة العقلية المتقدّمة لا أنّه تعبّدي، على أنّ المطلوب ليس أمراً محسوساً يصحّ فيه التواتر، وحجّية قول النبي بل نبوّته، وحجية القرآن وصدقه، موقوفة على قدرته تعالى، كما سيأتي في محلّه، فلو توقّف إثبات القدرة عليها للزم الدور.

السادس: ما في المنظومة وشرحها للسبزواري من قوله: (وكونه تعالى نوراً على القدرة

١١٥

دلّ؛ لأنّ الفياضيّة لازم النور، وهذا النور عين المشيّة والشعور) (١) .

أقول: وسيأتي أنّ المشيّة ليست عين وجوده، على أنّ الاستدلال أيضاً غير واضح، فهذا الوجه أيضاً غير تام عندنا.

لا يقال: القادر على الفعل قادر على الترك، وإلاّ كان موجباً؛ ضرورة تساوي القدرة إلى الطرفين، لكن العدم غير مقدور؛ لأنّه أزلي، ولأنّه نفي محض لا يصلح لأن يكون أثراً.

فإنّه يقال: القادر هو الذي يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل، لا أن يفعل العدم، وأمّا أزلية العدم فهي لا تنافي القدرة؛ لأنّ استمراره بيد القادر، والشبهة سخيفة جداً؛ لأنّها تبطل القدرة مطلقاً، مع أنّها وجدانية ومحسوسة في الحيوان.

الناحية الثانية: في كيفية القدرة وتفسيرها

وهذه مسألة هامّة جداً، وقد أصبحت من أهم معارك الآراء الفلسفية والأنظار الكلامية، والتضارب فيها شديد جداً بحيث نسبت طائفة إلى الجهل والضلال، وابتليت فرقة بالتكفير والتفسيق.

وتصوير النزاع في هذه المسألة:

أنّ الواجب الوجود هل يتمكن من ترك الفعل أو لا؟ وإن شئت فقل: إنّ ما يصدر عنه هل هو واجب منه أم لا؟ بل يمكنه الترك والفعل معاً، فلا وجوب للفعل منه، وإنّما الوجوب بعد تعلّق إرادته، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

وبكلمة أوضح بياناً: لا شك عند الموحّدين أنّ الله مختار في خلقه وفعله، لكن هل اختياره من سنخ اختيار الحيوان، الذي هو بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل، أم لا بل هو من سنخ آخر؟

المتكلّمون على الأَوّل، والفلاسفة على الثاني، وحيث إنّ البحث عنه مهم جداً، نبدأ بنقل ما أفاده الباحثون من الطرفين فيها؛ حتى تتّضح المسألة المذكورة حقّ وضوحها، ولنكن حين الاستدلال والاختيار على بصيرة تامّة من أمرنا.

فنقول: قال الفيلسوف الشهير في أسفاره (٢): إنّ للقدرة تعرفينِ مشهورين:

أحدهما: صحّة الفعل ومقابله أعني الترك.

وثانيهما: كون الفاعل في ذاته، بحيث إنّ شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

والتفسير الأَوّل للمتكلمين والثاني للفلاسفة، ومن المتأخّرين من ذهب إلى أنّ المعنيين

____________________

(١) منظومة السبزواري / ١٧٢.

(٢) الأسفار، المجلد الثاني، الفصل الأَوّل من الموقف الرابع، (الطبعة القديمة).

١١٦

متلازمان بحسب المفهوم والتحقّق، وأنّ مَن أثبت المعنى الثاني يلزمه المعنى الأَوّل قطعاً؛ وذلك لأنّ الفاعل إذا كان بحسب ذاته بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، كان لا محالة من حيث ذاته - مع عزل النظر عن المشيّة واللامشيّة - يصح منه الفعل والترك، وإن كان يجب منه الفعل إذا وجب المشية، والترك إذا وجب اللامشيّة، فلزوم الفعل ووجوبه من تلقاء دوام المشية ووجوبها، لا ينافي صحّة الترك على تقدير اللامشيّة، وكذلك قياس مقابله في الاعتبارين.

أقول: ما ذكره غلط وخبط، فإنّ الصحة والجواز في الفعل ومقابله، مرجعهما الإمكان الذاتي، وتحقّقه مستحيل فيه تعالى؛ فإنّه وجوب بلا إمكان، وإنّما يجوز تلك النقائص عند مَن يجعل صفاته زائدةً على ذاته كالأشاعرة، أو يجعل الداعي على صنعه وإيجاده أمراً مبايناً، فيكون ذاته بذاته مع قطع النظر عن هذه الزوائد؛ صفةً كانت أو داعياً، جائز المشيئة واللامشيئة صحيح الفاعلية واللافاعلية، وأمّا عند مَن وحّده وقدّسه عن شوائب الكثرة والإمكان، فالمشية المتعلّقة بالجود والإفاضة عين ذاته بذاته، بلا تغاير بين الذات والمشيئة خارجاً وذهناً، بلا اختلاف حيثية تقييدية وتعليلية، فصدق القضية الشرطية القائلة: إن شاء فعل، لا ينافي وجوب المقدّم، وضرورة العقد الحملي له ضرورة أزلية دائمة، وكذا الشرطية القائلة: إن لم يشأ لم يفعل، لا ينافي استحالة المقدّم امتناعاً ذاتياً، وضرورة نقيضه ضرورة أزلية، فعلم أنّ التفسير الثاني صادق عند الحكماء دون الأَوّل، ولا تلازم بينهما إلاّ في القادر الذي يكون إرادته زائدةً على ذاته، وأمّا الواجب فلكونه فوق التمام، وبذاته البسيطة الحقة يفعل ما يفعل، لا بمشيئة زائدة، ولا بهمة عارضة، لازمة أو مفارقة، فهو بمشيئته وعلمه ورضائه وحكمته، التي هي عين ذاته يفيض الخير ويجود النظام، وهذا أتم أنحاء القدرة، وأفضل ضروب الصنع، ولا يلزم من ذلك جبر كفعل الماء في تبريده... إلخ انتهى كلامه مع تغيير ما.

وقال الحكيم السبزواري: لا يلزمنها - أي القدرة - حدوث ما انفعل، أي الحدوث الزماني في المقدور القابل للأثر، خلافاً للمتكلّمين، فاعتبروا في مفهوم القدرة انفكاك متعلّقها وقتاً ما عن الذات - (وبعضهم اعتبروا في القدرة إمكان الترك إمكاناً ذاتياً، وبعضهم إمكانه إمكاناً وقوعياً، والإمكان الوقوعي ما لا يلزم من فرض وقوعه محال، والحال أنّ فيه محالاً كلّ المحال؛ لأنّ عدم المعلول كاشف عن عدم علّته، كعدم العقل الأَوّل أو عدم الفعل مطلقاً؛ وبعضهم اعتبروا الوقوع في الترك، وفيه: أنّه تخلّف المعلول عن العلّة التامّة) (١) - وقد عرّفوا قدرته بصحّة الفعل والترك، وهو باطل؛ إذ الصحّة هي الإمكان، وواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات، فالقدرة كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل... فالحق تعالى

____________________

(١) هذه الجملة مذكورة في حاشية شرح المنظومة، ونحن أدرجناها في المتن، بين قوسين.

١١٧

موجِب - بسكر الجيم - أي فاعل يجب فعله بقدرته وأخياره، وهذا على مذهب الحكيم حيث يقول: الشيء ما لم يجب لم يوجد، وليس موجَباً - بفتح الجيم - أي فاعلاً يجب فعله لا بقدرته واختياره كالمضطر، تعريض إلى مَن نسب إلى الحكماء إطلاقهم الموجب عليه بهذا المعنى، بأنّه حرّف الكلمة عن موضعها (١) ... إلخ.

وقال المحقّق الطوسي قدّس سره في قواعد العقائد: والقادر هو الذي يصحّ منه أن يفعل الفعل ولا يجب، وإذا فعل فعلاً باعتبار (اختيار ظ) وإرادة لداع يدعوه إلى أن يفعل، ويقابله الموجب، وهو الذي يجب أن يصدر عنه الفعل ويجب أن يقارنه فعله؛ لأنّه لو تأخّر الفعل عنه لَما كان صدور الفعل عنه واجباً؛ إذ لم يصدر عنه في الحال المتقدّم على الصدور. والمتكلّمون يقولون بأنّ الباري تعالى قادر، إذا كان فعله حادثاً غير صادر عنه في الأزل، ويلزم القائل بالقِدم كون فاعله موجباً.

والحكماء يقولون: كل فاعل فَعل بإرادةٍ مختارٌ، سواء قارنه الفعل في زمانه أو تأخّر عنه، وموضع الخلاف في الداعي، فإنّ المتكلّمين يقولون: إنّه لا يدعو الداعي إلاّ إلى معدوم ليصدر عن الفاعل وجوده، بعد الداعي بالزمان، أو تقدير الزمان، ويقولون: إنّ هذا الحكم ضروري والحكماء ينكرونه (٢) انتهى.

قال الحكيم اللاهيجي في شوارقه: إنّه تعالى قادر مختار، بمعنى أنّه يتمكّن من الفعل والترك، بمعنى أنّه تعالى بحيث قد يتخلّف عنه الفعل، فإنّ القدرة بهذا المعنى هو المتنازع فيه بين المتكلمين والحكماء، وأمّا القدرة بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالم وتركه بالنظر إلى ذاته تعالى، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فمتفق عليه بين الفريقين... إلى أن قال: فالنزاع إذن ليس في معنى القدرة، الذي هو المفهوم الشرطي، بل في وجوب وقوع مفهوم المقدّم وعدم وجوبه (٣) .

قال العلاّمة الحلي قدّس سره في ضمن كلام له: لزم خروج الواجب تعالى عن كونه قادراً، ويكون موجباً، وهذا هو الكفر الصريح؛ إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة إنّما هو هذه المسألة (٤) !

قال في شرح المواقف: أي يصح منه إيجاد العالم وتركه، فليس شيء منهما لازماً لذاته بحيث يستحيل انفكاكه عنه، وإلى هذا ذهب الملّيون كلّهم، وأمّا الفلاسفة فإنّهم قالوا: إيجاده

____________________

(١) شرح المنظومة / ١٧٢.

(٢) شرح قواعد العقائد / ٣٩.

(٣) الشوارق ٢ / ٢١٠ - ٢١١.

(٤) إحقاق الحق ٢ / ١١٦.

١١٨

للعالم على النظام الواقع من لوازم ذاته، فأنكروا القدرة بالمعنى المذكور... وأمّا كونه تعالى قادراً بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فهو متّفق عليه بين الفريقين... (١) إلخ.

قال القوشجي في شرح التجريد: ذهب الملّيون قاطبةً إلى أنّ تأثير الواجب في العالم بالقدرة والاختيار، على معنى أنّه يصح منه فعل العالم وتركه، وذهب الفلاسفة إلى أنّ تأثيره فيه بالإيجاب (٢) انتهى.

وكذا الإصبهاني في شرحه مطالع الأنظار على طوالع الأنوار.

وقال بعض الفضلاء السادة في شرحه على نهج البلاغة: وقيل: هو (أي القادر) كون ذاته بذاته في الأزل، بحيث يصحّ منه خلق الأشياء فيما لا يزال على وِفق علمه بها، وهي عين ذاته، وقيل: هي - القدرة - علمه بالنظام الأكمل من حيث أنّه يصحّ صدور الفعل عنه، وقيل: هي عبارة عن نفي العجز عنه، وقيل: هي فيض الأشياء عنه بمشيئته التي لا تزيد على ذاته، وهي العناية الأزلية (٣) انتهى.

تعقيب تحصيلي

هذه نبذة من كلماتهم في المسألة، وهي تدلّك على حقيقة القولين المذكورين دلالةً واضحة، ولمزيد تنقيح البحث نذكر ما يستفاد من هذه التعابير، وهو أُمور:

الأَوّل: إنّ البحث ليس بلفظي كما توهم، ولا ملازمة بين القولين أصلاً كما زعم، فإن المتكلّمين يعتبرون الصحّة التي هي الإمكان في تعريف القدرة، والفلاسفة ينكرونها أشدّ الإنكار.

فالتعريف الأَوّل - وهو صحّة الفعل والترك - صحيح عند أصحاب الكلام، وباطل بزعم أرباب الفلسفة، وأمّا التعريف الثاني - وهو إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل - فهو ينطبق على كلا المسلكين، فإنّ صحّة الشرطية لا تنافي ضرورة المقدّم وامتناع التالي ولا إمكانهما، فالمتكلّم على الثاني والفلسفي على الأوّل.

الثاني: اعتراف الحكماء بصحة تعريف المتكلّمين، في الذي كان إرادته زائدةً على ذاته، وكان داعيه أمراً مبايناً، فإنّ الفعل بالنظر إلى ذاته من حيث هي ممكن الصدور والترك، والخلاف فيمَن كان إرادته وداعيه عين ذاته بلا فرق أبداً.

الثالث: ضرورة العالم بالنسبة إلى ذاته تعالى من حيث هي ذاته، وعدم إمكان تخلّفه عنها -

____________________

(١) شرح المواقف ٣ / ٤١.

(٢) شرح التجريد / ٣٤٨.

(٣) منهاج البراعة ١ / ٣٠٩.

١١٩

سواء كان إمكاناً ذاتياً أو وقوعياً- فضلاً عن وقوع الترك، كما ظهر من كلام الأسفار وشرح المنظومة، فما تقدّم من الشوارق من أنّ القدرة، بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالَم وتركه بالنظر إلى ذاته، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فمتفق عليه بين الفريقين، ساقط جداً فإنّ فعل العالَم بالنسبة إلى ذاته تعالى ضروري عند الحكماء، فأين الاتفاق؟ نعم التعريف الثاني متّفق عليه بينهما على نحو ما عرفت.

الرابع: معنى اختيار الواجب عند الحكماء، هو صدور الفعل عنه مقارناً للعلم والرضاء فقط، ولا يعتبرون إمكان التخلّف فيه ولو إمكاناً ذاتياً، بل يرون امتناعه كما مرّ، وهذا بخلاف المتكلّمين، فإنّهم يرون وقوع التخلّف شرطاً في مفهوم الاختيار، كما يظهر من عبارة المحقّق الطوسي، أو إمكان التخلّف إمّا ذاتياً أو وقوعياً، كما نقله السبزواري عن بعضهم.

أقول: فالإيجاب عند الأَوّلين هو صدور الفعل من غير العلم والرضاء به، وعند الآخرين صدوره بلا جواز تخلّفه، فالحكيم إذا ادّعى أنّ الواجب القديم مختار يعني به: أنّه عالم بصدور فعله عنه، وليس كالشمس في إشراقها والنار في إحراقها. قال خاتم الفلاسفة في أسفاره: فإذن ما يقال من أنّ الفرق بين الموجب والمختار: أنّ المختار ما يمكنه أن يفعل وألاّ يفعل، والموجب ما لا يمكنه أن لا يفعل، كلام باطل؛ لأنّك قد علمت أنّ الإرادة متى كانت متساويةً لم تكن جازمةً، وهناك يمتنع حدوث المراد إلاّ عند مَن نفى العلّية والمعلولية بين الأشياء كالأشاعرة، ومتى ترجّح أحد طرفيها على الآخر صارت موجبةً للفعل، ولا يبقى حينئذٍ بينها وبين سائر الموجبات فرق من هذه الجهة، بل الفرق ما ذكرنا، من أنّ المريد هو الذي يكون عالماً بصدور الفعل الغير المنافي عنه، وغير المريد هو الذي لا يكون عالماً بما يصدر عنه -كالقوى الطبيعية- وإن كان الشعور حاصلاً، لكن الفعل لا يكون ملائماً، بل منافراً، مثل الـمُلجَأ على الفعل فإنّ الفعل لا يكون مراداً له... إلخ.

الخامس: محور النزاع ومناط البحث في المقام هو الداعي، فإنّه إن ثبت زيادته على ذاته تعالى تمّ قول المتكلّمين؛ إذ الفعل حينئذٍ بالنسبة إلى الذات من حيث هي ممكن الصدور واللاصدور، كما ذكره في الأسفار وهو واضح، أو لأنّ الداعي لا يدعو إلى المعدوم بالضرورة، كما نقله العلاّمة الطوسي عن المتكلّمين، بل تقدّم عن التفتازاني (١) أنّه متّفق عليه بين الفلاسفة والمتكلّمين، وعليه فإنكار الحكماء في قول المحقّق الطوسي المتقدّم - حيث قال: والحكماء ينكرونه - راجع إلى الداعي نفسه، لا إلى عدم داعويته إلى المعدوم فتأمّل.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المراد بالداعي - كما يظهر من مسفوراتهم - هو إرادته التابعة

____________________

(١) تقدّم في الصفحة ٨١ من هذا الجزء.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296