صراط الحق الجزء ١

صراط الحق20%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132089 / تحميل: 7360
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

٢ - إذا جعلنا الذرّة بين الجسمين كالصحيفتين، فقهراً تلاقي السطحين من الجسمين المذكورين، وعليه فيكون لها سطحان؛ إذ لا يعقل تلاقي السطحين بسطح واحد بالضرورة.

وهنا وجوه أُخرى تدلّ على تركّبها بصورة قاطعة، لكنّ هذين الوجهين من أبسطها وأقربها إلى الأفهام الساذجة. فإذن، نثبت أنّ هذه الذرّات والأجزاء الصغار - سواء في ذلك ذرات ذيمقراط، وأمواج روتر فورد، الذي كسر الذرّة واستكشف أمواجها كما تقدّم - مركّبة، فلابدّ لها من مركِّب فاعل التركيب، وهو الله الواحد القهّار.

وأمّا كون الحركة ليست من نفس المادة، بل هو من غيرها - وهو الله تعالى - فلِما تقرّر في كتب الكلام والفلسفة، من لزوم تعدّد المحرّك والمتحرّك فلاحظ.

هذا وعلى قولهم من الحركة الذاتية، يلزم تركّب الأجزاء، وإن سلّمنا إمكان بساطتها في نفسها، فإنّ الأجزاء لها جهة مشتركة في الجوهرية، وجهة مميّزة؛ لاختصاص كلّ منها بحركة في جهة تتوجه إليها حركة الذرّة الأُخرى؛ إذ لو كان حركاتها إلى جهة واحدة بلا انحراف، لَما تشكّل الأجسام منها بالضرورة، وهكذا الكلام، في قول بخنز: فإنّ محلّ الدفع غير الجذب، فيتركّب الجزء، وإن جُعل الدفع في جزء والجذب في جزء، فهذا أيضاً يلزم التركّب من جزء مشترك بين الجزءين في الجوهرية، ومن جزء مميّز بالدفع والجذب. وهذا يكفي لهدم جميع ما أسّسوه، وإبطال ما ذكروه بصورة قاطعة، ولا يبقى للعاقل احتمال في بطلان مبدئية الذرّات للعالم، فإذن، لابدّ من الالتزام والإذعان، بوجود الواجب القديم المجرّد عن المادة ولواحقها.

أضف إلى ذلك أنّ المادة - كما نادوا بأعلى أصواتهم - حقيقة واحدة، والحقيقة الواحدة لا يصدر عنها آثار مختلفة، فكيف يسوغ لهم، استناد هذه الموجودات المتفاوتة المتباينة إلى المادة المزبورة؟ فإن صحّ ذلك، وأمكن بروز الآثار المتفاوتة عن حقيقة فاردة، أصبحت العلوم الطبيعية عقيمةً ولا تُنتج شيئاً؛ بداهة أنّ التجربة لا تقع إلاّ على موارد محدودة، يُعلم منها أنّ هذه الحقيقة ذات أثر كذا، فيوضع ذلك قانوناً كلّياً وقاعدةً شاملة، فيقال مثلاً: إنّ الدواء الفلاني يزيل المرض الفلاني مطلقاً؛ اعتماداً في الكلية المذكورة، على أنّ الحقيقة الواحدة لا يختلف أثرها، وأمّا إذا فرضنا جواز اختلافه فلا يتمّ قاعدةً تجربية قطعاً، فالعلوم التجربية كالفلسفة تقتضي عدم استناد العالم إلى الذرّات المذكورة، وقد نُقل أنّ بعض متفكّري الغرب تنبّه لذلك فآمن بالله العظيم، فلو صحّ بساطة المادة لَما صلحت للعلّية المطلقة من هذه الناحية (١) .

____________________

(١) الزمر ٣٩ / ٦٢.

١٠١

النظام الكامل

يقتضي على علّية المادة

ولئن أغمضنا النظر عن جميع ما تقدّم، من تزييف مبدئية المادة للعالم، لكان نظام الخِلقة، وإتقان الطبيعة، أحسن شاهد وأقوى كاشف، عن وجود المبدأ العليم المريد الحكيم، وقد ظلت العلوم الطبيعية تكشف لنا أسرار الكون، وعجائب الخِلقة، ودقائق الصنع، بما يندهش منه العقول، أَفليس هذا العالم البديع المنظّم - بكراته السامية، وشموسه المضيئة، وميكروباته الصغيرة، وموجوداته الحية، ونباتاته النامية، وجماداته المتنوّعة، وما أُودع في كلّ منها من الحكمة والدقّة - دليلاً على وجود المعبود الواجب القديم المجرّد؟ أَليست قبة واحدة تحكي عن بنّاء عالم بقانون العمارة والبناء؟ أيمكن أن يقال: إنّ طائرة واحدة طارت إلى السماء بلا سائق أو مدبّر؟ وهكذا، فإذا دلّت ماكنة صغيرة على فاعلها الشاعر، فكيف لا يدلّ هذا النظام البهي الجميل على علم فاعله؟!

وهذه الدلالة ضرورية بديهية لا يمكن لذي شعور إنكارها، فكما لا يمكن أن يصير الجاهل البدوي، مدرّساً في العلوم المختلفة بلا تعلّم، فكذا المادة لا تكون خلاّقة لهذا النظام الكامل التام، بل هو يكشف عن وجود مدبّر عالم حكيم وهو الله تعالى. وهذا - لمكان بداهته، وشدّة جلائه، وارتكازه في النفوس الإنسانية - لا يحتاج إلى زيادة بيان، وكثرة إيضاح، فضلاً عن توسيط برهان حسب الاحتمالات، الذي ابتكره بلز پاسكال عام ١٦٥٤م وقَبله عنه غيره، هذا مع أنّه غير تام عندي في نفسه.

وعلى الجملة: مَن شك في هذا الدليل، فقد خرج عن الفطرة السليمة الإنسانية، والقرآن الحكيم في جملة من آياته المباركة قد نبّه الإنسان من هذا الطريق على معرفة ربّه فقال: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً * تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ) (١) وقال: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً

____________________

(١) الفرقان ٢٥ / ٥٩ - ٦٢.

١٠٢

وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاّ كُفُوراً ) (١) وقال: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، وأمّا السنة فهي مشحونة بأمثالها.

____________________

(١) الفرقان ٢٥ / ٤٧ - ٥٠.

(٢) المؤمنون ٢٣ / ١٢ - ١٤.

١٠٣

ما يقول المادّيون

عن هذا النظام الأجمل؟

حينما تستنطق الماديين في انبثاق هذا النظام الأكمل عن الطبيعة الجامدة العمياء يجيبونك بوجهين:

الأَوّل: إنّه اتّفاق وتصادف، فهذه الأناظيم حصلت اتّفاقاً وصدفةً، من حركات الأجزاء غير المتجزّئة! وقد أشرنا إلى أنّ هذا الكلام لا ينافي ناموس العلم فقط، بل يصادم الإنسانية في فطرتها المودعة فيها فلا جواب له، ولو تمّ التصادف، بطل قانون العلية، وببطلانه تنهدم العلوم من أساسها.

الثاني: إنّه نتيجة الانتخاب الطبيعي والتنازع - التناحر - في البقاء. توضيح ذلك على سبيل الاختصار: إنّ شارلز روبرت داروين الانجليزي (١٨٠٩ - ١٨٨٢م)، دوّن فرضية رجوع الأنواع إلى أصل واحد أو أصول محدودة، وبعبارة أُخرى: أنّ هذه الفرضية تقول: إنّ هذه الأنواع الموجودة من الحيوانات، لم تكن كذلك في أصلها، بل أصلها إمّا نوع واحد أو أنواع محدودة، وجعل لتركيزها نواميس أربعة:

١ - التنازع في البقاء: فكلّ حي ينازع في حفظ كيانه وتثبيت بقائه، وان كان ذلك مستلزماً للتجاوز على الآخرين.

٢ - الانتخاب الطبيعي: يعني أنّ نتيجة التنازع المذكور، بقاء الأصلح وفساد غير الأصلح أو ضعفه جداً.

٣ - قانون المطابقة: وهو تأثير الأمكنة، والأغذية، والملابسات الواقعة في الحياة، في اختلاف الأفراد والأنواع، فقوة أظفار الأسد وحدته لافتراسه، فلو وقع في محلّ لا يمكنه الصيد، واضطر إلى أكل الحشائش - كالدواب مثلاً - تبطل خاصية أظفاره، بل تقوى أنيابه وهكذا.

٤ - قانون الوارثة: وهو أنّ الصفات العارضة والأطوار الاتّفاقية، التي طرأت على الحيوانات من جهة اختلاف الأحوال تنتقل إلى أولادها، فتوجب اختلاف أشكالها، بحيث ينجرّ إلى تخيّل اختلاف أنواعها في الأصل، مع أنّ الاختلاف المذكور نتيجة التوارث بتمادي الزمان، وعليه يترتّب رجوع الأنواع إلى نوع واحد، أو أنواع محدودة.

١٠٤

ولما انتشرت هذه الفرضية فرح المادّيون بها، وحسبوا أنّها كافية لأن يُعلّل بها النظام المحكم الساري في أجزاء العالم، ومعها لا موجب للتشبّث بالصدفة والاتّفاق، الذي يرفضه أوائل العقول الساذجة، وينافره شرف العلم والإنسانية، فقالوا: إنّ الطبيعة وإن كانت غير شاعرة، إلاّ أنّ هذا النظام متولّد من انتخابها بعد التنازع في البقاء، بضميمة المطابقة والوراثة، فارتقاء الموجودات إلى هذه الدرجة من التكامل، معلول لهذه النواميس دون المادة نفسها.

أقول: البحث حول هذه الفرضية عن ناحيتين: الناحية الأُولى في صحّتها في نفسها، والناحية الثانية في استنتاج ما تخيّله الماديون منها.

أمّا الناحية الأُولى وصحّتها في نفسها فلا دليل عليها، غير بعض التخمينات والتخرّصات التي لم يقرّ بها العلم ولا الفلسفة، بل البرهان على خلافها، بل الإنصاف أنّها مخالفة للحسّ والوجدان والأخلاق، كما فصّلنا القول فيها في مجموعتنا المسماة بـ (كشكول محسني)، وقد دلّل على بطلانها غير واحد من باحثي الغرب، حتى أخرجها بعضهم من المسائل العلمية، وجعلها آخر منافيةً للتمدّن الغربي وموجبةً لتأخّره، وحسبها الثالث من الأقاصيص التي تحكيها الأُمهات لأولادها الصغار، بل نسبها بعضهم إلى الجنون... إلى غير ذلك من الكلمات الحادّة التي نقدوا بها هذه النظرية (١) .

وأمّا الناحية الثانية فنقول: إذا سلّمنا هذه الفرضية بتمامها وحسبناها قطعيةً، فلا يمكن استفادة مرام الماديين منها، كما لا يمكن استفادة الحرارة من الثلج!

نقول: مَن الذي أوجد هذه الموجودات؟ مَن الذي خلق هذه الذرّات المركّبة؟ مَن الذي أعطى الطبيعة انتخابها؟ مَن الذي أودع التنازع في كيان الأشياء؟ وهكذا فلابدّ إمّا من الرجوع إلى الصدفة والاتفاق، أو إلى الإيمان بخالق الإنس والجان، وهذا الذي ذكرنا لم يخفَ على داروين نفسه؛ ولذا لم يجعلها دليلاً على إنكار الصانع، بل قيل: إنّه كان عاملاً ومقيّداً بجميع ما جاء في مذهب الپرتستان أرتدوكس (٢) ، من دين المسيح عليه‌السلام ، بل صرّح بأنّ عقائده لا تنافي المذاهب (٣) .

وإليك ملخّص ما كتبه هو إلى بعض الألمانيين عام ١٨٧٣: يستحيل على العقل الرشيد أن تمرّ به خلجة من الشك، في أنّ هذا العالم الفسيح، بما فيه من الآيات البالغة، وتلك الأنفس الناطقة

____________________

(١) الجينات الوراثية أثبتت اليوم خِلقة الإنسان الابتدائية، وأبطلت تحوّل الإنسان من الحيوان، وتدلّ هي على صدق القرآن على أخباره، أنّ الإنسان خُلق كذلك ابتداءً.

(٢) فيلسوف نماها / ٢٢٦.

(٣) المصدر نفسه/ ٢٢٥.

١٠٥

المفكّرة، قد صدر عن مصادفة عمياء؛ لأنّ الأعمى لا يخلق نظاماً ولا يبدع حكمةً، ذلك أكبر برهان يقوم عندي على وجود الله.

ثمّ يقول: ولقد قامت عندي شكوك كثيرة لأَوّل عهدي بالبحث، فسألت: من أين جاءت العلّة الأُولى؟ وهل لها نشأة ومعاد؟ غير أنّي لم ألبث حتى استبان لي، أنّ هذا الشك نفسه قد يخطر للإنسان، إذا فكّر في نشأة المادّة المحسوسة ذاتها، فمن أين جاءت المادة القديمة؟ وهل لها أَوّل؟ أم هي أزلية؟ فإذا كانت أزليةً - وغالبة الظن على ذلك - فمن أين أتت؟ تلك الحدود التي يقف عندها الفكر الإنساني معترفاً بالعجز (١) ، لكنّ الماديين أكثروا السرعة من مقلّدهم - بالفتح - ولم يدروا أنّ هذه التلفيقات على فرضِ صحّتها، لا ترتبط بهوَساتهم أصلاً.

ثمّ إنّ شارلز داروين ليس مؤسّساً لهذه النظرية، بل ذكرها غير واحد ممّن سبقه، كما ذكره فريد وجدي في دائرة المعارف، بل يوجد ذلك في كلمات العرب - إخوان الصفا وغيرهم أيضاً - كما نقلها إسماعيل مظهر في مقدّمة ترجمة أصل الأنواع (٢) ، مع أنّهم من المسلمين، فاتضح من جميع ذلك أنّ هذه النظرية لا تشفي داء الماديين، فإنّ صحّتها لا تصادم وجود الله تعالى، بل ولا غيره من الأصول الدينية، نعم هي غير صحيحة عند القرآن، فإنّه يبيّن خِلقة الإنسان بدواً وينفي - بالدلالة الالتزامية - تكوّنه من القرود وغيرها، فهي تخالف الإسلام في مسألة فرعية جزئية، وقد عرفت أنّ البرهان والحسّ والأخلاق ترجّح جانب القرآن.

ولهم جواب ثالث معروف بالفلسفة الدياليكتيكية، وقد بُنيت على أُصول أربعة:

التغيّر والتحوّل الباطني (في مقابل التغيّر الحاصل من خارج الشيء المسمّى بالميكانيك)، صحّة التناقض والتضاد، بل ضرورة وقوعهما في كلّ شيء، تأثير التقابل وهو ارتباط الأشياء بعضها ببعض، بلا انفصال لشيء منها من هذه السلسلة المرتبطة، تبديل الكمّية إلى الكيفية دفعة واحدة؛ وعليها بنوا إنكار الواجب الوجود والأديان، بل وجميع الأحكام العقلية؛ إذ لا شيء ثابت عندهم أصلاً، بل كلّ شيء له أَوّل ونهاية، وبها علّلوا نظام العالم المتقن! لكن هذه الفرضية واضحة البطلان؛ لأنّ الأصل الأَوّل يشمل نفس هذه الفرضية أيضاً، فلا قيمة لها، فإنّها محكومة بالزوال والاضمحلال.

وحلّه: أنّ التغيّر غير جارٍ في العلوم غير المادية، أَليست نتيجة ضرب الاثنين في الاثنين هي الأربعة، وهل يحتمل أحد أن تكون النتيجة خمسة أو ثلاثة في زمان من الأزمنة؟ لكنّهم لا يفرّقون بين العلوم الطبيعية والعقلية، فيطبّقون أحكام الأُولى على الثانية.

____________________

(١) مقدّمة ترجمة أصل الأنواع بالعربية تأليف إسماعيل مظهر / ٢٦.

(٢) أصل الأنواع / ٢٩ - ٤١.

١٠٦

وأمّا صحّة التناقض والتضاد والحكم بوقوعهما، بل بضرورة وقوعهما فضلاً عن إمكانه، فهو مخالف للفطرة الإنسانية والضرورة الأَوّلية، فإنّ امتناعهما ضروري عند كل أحد حتى الصبيان، لكن الأمر اشتبه على الماديين الدياليكتيكيين، ولم يقدروا على ضبط الوحدات المعتبرة في التناقض، وحيث أتوا بأمثلة جزئية دالة على وقوعه، لم يلتفتوا إلى فقدان وحدة أو وحدات منها، فحسبوا أنّهم فازوا بمرادهم! وقد مرّ الكلام فيه (١) .

وأمّا الثالث فلا كلّية وتعميم فيه ولا دليل على ذلك، وأمّا الرابع فهو باطل وما قيل في وجهه مضحك جداً، ولا ينبغي أن نضيّع الوقت بإطالة الكلام معهم إثباتاً ونفياً، ولعمرك إنّ وضوح فساد كلام المادّيين وشدّة اختلاله، دليل آخر على وجود الواجب الوجود، وضرورة إثبات الصانع المختار العليم ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) .

وعلى الجملة: أنّ جميع فرضيات الماديين حول مبدأ العالم، وتلفيقاتهم حول نظام العالم البديع، ترجع إلى صدفة عمياء لا غير، وهي تناقض مبدأ العليّة العامّة الشاملة غير القابلة للاستثناء، فلا تغرنّكم كثرة تعابيرهم وفرضياتهم، فدقّق النظر تجد صدق قولنا، وبعد ثبوت تركّب الذرّة وتجزئتها، فقد سقط معبود الماديين إلى اليوم وإلى الأبد.

____________________

(١) وخلاصة الكلام أنّ الماديين اشتبهوا في مبدأ التناقض، أَوّلا باشتباه التضاد الفلسفي بالتضاد العلمي، وثانياً بعدم الفرق بين التناقض والتضاد الفلسفيين، وثالثاً بإمكان الأخيرين وضرورة وقوعهما! غافلين عن أنّ التناقض الفلسفي لو كان ممكناً، لكان إنكارهم على مخالفيهم باطلاً؛ لصحّة ووقوع التناقض وعدمه!

١٠٧

خاتمة

اعلم أنّ معرفته تعالى على درجات: الدرجة الأُولى: ما يحصل من الدلائل الإنيّة. الدرجة الثانية: ما يثبت بالبراهين الشبيهة باللم. الدرجة الثالثة: ما يستقرّ بالمشاهدة القلبية، ولها عرض عريض رزقنا الله إيّاها، ففي رواية أبي الحسن الموصلي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: (ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أرَه. قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) (١) .

وفي دعاء يوم عرفة المنسوب إلى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام : (إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك، كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهِر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟ ومتى بعُدت حتى تكون الآثار هي التي تُوصل إليك؟ عَميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبّك نصيباً... منك أطلب الوصول إليك، وبك استدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك... أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدّوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتى لم يحبّوا سواك... إلخ) هذا، وكل ميسّر لِما خلق لأجله.

واعلم أنّ معرفة معظم المؤمنين الباحثين - فضلاً عن العوام - بالله تعالى إنّما هي بمفاهيم كلية يضم بعضها مع بعض، تنطبق على الموجود الواحد المخصوص وهو الله تعالى، كمفهوم الواجب الوجود غير المركّب والمتعدّد، وكمفهوم الصانع والخالق الحكيم المدبّر، وكمفهوم القديم الأزلي الأبدي الباقي ونحوها، وهي معرفة علمية يكتسبها أهل المعقول من المباحث الفلسفة والكلامية.

وأمّا المعرفة القلبية الإشراقية الإلهامية - وما شئت فسمِّها به - فهي تحصل من العبودية، والإخلاص، والخضوع مع صفاء الروح، والمؤلّف الفقير الناقص حيث لم يذق حلاوة الإيمان في باطنه، يعلم أنّ إيمانه بالله تعالى، ومعرفته علمية لا معرفته قلبية. فـ ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (٢) .

____________________

(١) أُصول الكافي ١ / ٩٨.

(٢) الحجر ١٥ / ٩٩.

١٠٨

المقصد الثاني

في صفاته الثبوتية

تمهيد

الموقف الأَوّل: في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية

الموقف الثاني: في صفاته الثبوتية المدحية

الموقف الثالث: في صفاته الثبوتية الفعلية الجمالية

١٠٩

المقصد الثاني

في صفاته الثبوتية

تمهيد

كل ما أوجب اتّصاف الواجب به كمالاً وبهاءً بلا استتباع نقص، فهو صفة ثبوتية، وما لم يكن كذلك فهو صفة سلبية؛ لِما سيمرّ عيك في محلّه - إن شاء الله - من أنّه كامل في غاية الكمال، كيف وهو مصدر كلّ كمال فلا سبيل للنقص إليه أبداً؟.

وأمّا ما ذكره بعض المتكلّمين، وشاع في الألسن، من حصر الصفات الثبوتية في الثمانية، (١) والسلبية في السبعة، (٢) فخطأ محض، ولعلّه؛ للاهتمام بها، أو لوقوع الاختلاف فيها، أو لاحتياجها إلى الاستدلال، وغير ذلك من الاعتبارات، وإلاّ فلا حدّ لحميد صفاته وجميل أفعاله.

وقد ورد في الشرع له تعالى أوصاف كثيرة جمّة، كما يظهر لمَن راجع الأخبار ولا سيما الأدعية.

ثمّ إنّ مصادر هذه النعوت - كالعلم والقدرة والرحمة مثلاً - تسمّى في اصطلاحهم بـ (صفات الله)، ومشتقاتها - مثل العالم والقادر والرحيم - بـ (أسماء الله).

إذا تبيّن ذلك فاعلم أنّ جميع صفاته تعالى:

إمّا حقيقة محضة، وهي ما لا يعتبر في ثبوته له تعالى لحاظ شيء آخر، مثل الحياة، والوجوب، والحقية، مثلاً، فهو حيّ واجب حق بلا لحاظ أمر آخر يتوقّف عليه صدق هذه الصفات وأمثالها.

إمّا إضافيّة محضة، وهي ما لا تحقّق له إلاّ بعد وجد شيء آخر، كالرزق والخلق والرحمة وغيرها، فإنّها لا تثبت إلاّ إذا كان هناك موجود مرزوق مخلوق مرحوم.

وإمّا حقيقية ذات إضافة، وهي ما لا يتوقف مفهومه على شيء آخر، وليس الإضافة مأخوذةً في واقعها، إلاّ أنّها تعرض له، وان شئت فقل: إنّ تحقّق هذا القسم من الصفات غير موقوف على

____________________

(١) كما قال شاعرهم:

عالم وقادر وحى است مريد ومدرك

هم قديم وابدى دان متكلم صادق

(٢) كما قيل:

نه مركّب بود ونه جسم مرئى نه محل

لا شريك است ومعانى تو غنى دان خالق

١١٠

أمر ثانٍ، لكن ترتّب أثرها لا يكون إلاّ بإضافتها إلى شيء مقدور، كالقدرة مثلاً، فإنّ أصل تحقّقها له تعالى لا يحتاج إلى شيء آخر، فليست الإضافة معتبرةً في مفهومها، لكن أثر القدرة لا يتنجّز إلاّ بوجود مقدور.

وإمّا سلبية، وهي ما يُعتبر في مفهومها السلب، كالبساطة والتجرّد والوحدة والغنى وأشباهها؛ إذ الأَوّل سلب التركيب، والثاني سلب المادة وعوارضها، والثالث سلب الشركة، والرابع سلب الفقر وهكذا، فهذا القسم وإن كان على صورة الثبوت لكنّها من النفي حقيقة، على حدّ سلب الجسمية والمعاني والرؤية والحلول والاتحاد، وغيرها من الصفات السلبية ظاهراً وواقعاً.

ثمّ يقال للقسم الأَوّل والثالث: الصفات الذاتية، والصفات الكمالية، ويعبّر عن القسم الثاني بالصفات الفعلية، والصفات الإضافية، والصفات الجمالية، وهنا قسم آخر لم يذكروه وسمّيناه بالصفات المدحية، وسيأتي بحثها في هذا المقصد إن شاء الله، ويسمّى الجميع بالصفات الثبوتية، وأمّا القسم الرابع فيقال له - بكلا نوعيه - الصفات السلبية، والصفات الجلالية، والصفات التقديسية، والذي يهم في المقام بيانه هو فرق الذاتية والفعلية، وأنّه كيف نعرف أنّ هذه الصفة الثبوتية فعلية وهي حادثة، وتلك ذاتية وهي قديمة؟

وإليك ذكر ما يفرّق بينها من الموازين.

١ - كلّ صفة أمكن نفيها عن الواجب القديم، وصحّ إثبات نقيضها له، فهي فعلية، وإلاّ فهي ذاتية؛ وذلك لأنّ الصفة الذاتية إمّا واجبة بل عين ذاته كما هو الحق، وإمّا واجبة الثبوت للذات فلا يمكن انفكاكها عنها (١) .

٢ - كلّ صفة كان لها ضدّ وجودي فهي فعلية؛ إذ الذاتية عين الذات، وستعرف في محله أن لا ضدّ للذات الواجبة، وأمّا إذا لم يكن لها ضدّ فلا يجب أن تكون ذاتيةً، فالملازمة من أحد الطرفين كما لا يخفى.

٣ - كلّ صفة اعتبرت في مفهومها الإضافة فهي فعلية؛ لاحتياجها إلى غير الواجب، فلا يعقل كونها ذاتيةً، وهذا واضح، وكلّ صفة لم تكن إضافية محضة فهي ذاتية؛ إذ لا واسطة بين الفعلية والذاتية؛ فحيث إنّ الصفة غير الإضافية المحضة لا تكون فعليةً؛ للزوم الإضافة في قوام الفعل، فهي ذاتية لا محالة.

٤ - كلّ ما وقع تحت قدرته فهو من الصفات الفعلية، وما لم يقع فهو من الصفات الذاتية؛

____________________

(١) وأمّا الصدق والعدل، وأن لا يجوز سلبهما عن الله تعالى في شيء من الأوقات عند الناس، إلاّ أنّ سلبهما بسلب منشائهما، فيقال: إنّه لم يكن متكلّماً ومعاملاً أزلاً فلا يكون صادقاً وعادلاً.

١١١

والسر في ذلك واضح، فإنّ الخارج عن القدرة ليس إلاّ الواجب.

٥ - كلّ صفة أمكنة وقوعها تحت الإرادة فهي فعلية، وإلاّ فهي ذاتية، ويظهر وجهه ممّا سبق.

وأمّا قوله تعالى: ( وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ) (١) ، وقوله عليه‌السلام : (شاء - أي الله - أن لا يكون شيء في ملكه إلاّ بعلمه) حيث تعلّق المشية بالقدرة وبكون الشيء معلوماً له تعالى، مع أنّ القدرة والعلم من الصفات الذاتية، فلابدّ من توجيههما بوجه مقبول.

٦ - كلّ صفة وقعت في حيّز ألفاظ دالّة على الحدوث والإمكان فهي فعلية لا محالة، ومن الألفاظ المذكور: سوف، سين الاستقبال، جملة من حروف الجر، عسى، ونظائرها، الفاء العاطفة الدالة على الترتيب، ثمّ، إذا، إن، لو، وغير ذلك.

قال الله تعالى: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ ) (٢) ، ( سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ ) (٣) ، ( لِيُضِلَّ قَوْماً ) (٤) ، ( عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) (٥) ، ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى ) (٦) ، ( إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ ) (٧) ، ( فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) ، ( وَلَوْ شِئْنَا ) (٨) .

وأمّا قوله تعالى: ( وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ ) (٩) ، وقوله: ( إِلاّ لِنَعْلَمَ ) (١٠) وأمثاله فسيأتي ما يتعلّق به في مبحث علمه إن شاء الله.

ثمّ إنّ هذا الميزان الأخير السادس - لمكان اتخاذه من ظواهر الألفاظ - ظني غير قطعي، إذا تقرّر ذلك فلنبحث في هذا المقصد عن المواقف الثلاثة: الموقف الأَوّل: في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية، والموقف الثاني: في صفاته الثبوتية المدحية التي لم يذكرها العلماء، والموقف الثالث: في صفاته الثبوتية الفعلية الجمالية.

____________________

(١) الشورى ٤٢ / ٢٩.

(٢) المائدة ٥ / ٥٤.

(٣) التوبة ٩ / ٧١.

(٤) التوبة ٩ / ١٠٩.

(٥) التوبة ٩ / ١٠٢.

(٦) المؤمنون ٢٣ / ٤٥.

(٧) النحل ١٦ / ٤٠.

(٨) الأعراف ٧ / ١٧٦.

(٩) الأنفال ٨ / ٢٣.

(١٠) البقرة ٢ / ١٤٣.

١١٢

الموقف الأَوّل

في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية

الفصل الأَوّل: في قدرته

الفصل الثاني: في علمه

الفصل الثالث: سمعه وبصره

الفصل الرابع: في حياته

١١٣

الفصل الأَوّل

في قدرته تعالى

الناحية الأُولى: في إثبات أصل القدرة

الناحية الثانية: في كيفية القدرة وتفسيرها

الناحية الثالثة: في عموم قدرته

مطالب مهمّة

١١٤

الفصل الأَوّل

في قدرته تعالى

والكلام فيه من نواحٍ ثلاث:

الناحية الأُولى:

في إثبات أصل القدرة

فنقول: إنّ ما يدل على ذلك وجوه:

الأَوّل: إنّ القدرة الواجبة لا تستحيل على الذات الواجبة الوجود قطعاً، فهي إذن ثابتة له؛ لِما مرّ من قاعدة الملازمة.

الثاني: إنّ هذه الكائنات المشهودة، تدل على أنّ الله الذي أوجدها قادر بأتم قدرة، أمّا الصغرى - وهي كون الواجب خالقاً لها - فقد مرّ إثباتها في المقصد الأَوّل بأكمل بيان، وقد عرفت في المدخل أيضاً، أنّ الكائنات الممكنة محتاجة إلى فيضه حدوثاً وبقاءً، وأمّا الكبرى فهي من الأوّليات البديهية، وهذه الحجة أقوى الحجج وأتمّها وأظهرها بلا ريب.

الثالث: القدرة الممكنة متحقّقة في الخارج حسّاً ووجداناً، وهي تقتضي القدرة الواجبة؛ إذ كلّ ما بالغير لابدّ وأن ينتهي إلى ما به الغير دفعاً للدور أو التسلسل، ولا تُعقل القدرة الواجبة إلاّ للذات الواجبة، ثمّ إنّ اختلاف ما بالغير عمّا به الغير سنخاً ونوعاً، وإن كان ممكناً، إلاّ أنّ ما به القدرة لا يكون إلاّ قدرة، كما يظهر وجهه للمتأمّل.

الرابع: العجز نقص، والنقص عليه محال، فهو قادر؛ لعدم واسطة بين القدرة والعجز، إلاّ أنّ المدّعى أظهر من الكبرى بمراتب.

الخامس: اتّفاق الملل والنحل، وإجماع الأنبياء، والآيات القرآنية، والروايات المتواترة، تدل على أنّ الله قادر. ذكره بعض المتكلمين.

أقول: اتّفاقهم وإجماعهم من جهة الأدلة العقلية المتقدّمة لا أنّه تعبّدي، على أنّ المطلوب ليس أمراً محسوساً يصحّ فيه التواتر، وحجّية قول النبي بل نبوّته، وحجية القرآن وصدقه، موقوفة على قدرته تعالى، كما سيأتي في محلّه، فلو توقّف إثبات القدرة عليها للزم الدور.

السادس: ما في المنظومة وشرحها للسبزواري من قوله: (وكونه تعالى نوراً على القدرة

١١٥

دلّ؛ لأنّ الفياضيّة لازم النور، وهذا النور عين المشيّة والشعور) (١) .

أقول: وسيأتي أنّ المشيّة ليست عين وجوده، على أنّ الاستدلال أيضاً غير واضح، فهذا الوجه أيضاً غير تام عندنا.

لا يقال: القادر على الفعل قادر على الترك، وإلاّ كان موجباً؛ ضرورة تساوي القدرة إلى الطرفين، لكن العدم غير مقدور؛ لأنّه أزلي، ولأنّه نفي محض لا يصلح لأن يكون أثراً.

فإنّه يقال: القادر هو الذي يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل، لا أن يفعل العدم، وأمّا أزلية العدم فهي لا تنافي القدرة؛ لأنّ استمراره بيد القادر، والشبهة سخيفة جداً؛ لأنّها تبطل القدرة مطلقاً، مع أنّها وجدانية ومحسوسة في الحيوان.

الناحية الثانية: في كيفية القدرة وتفسيرها

وهذه مسألة هامّة جداً، وقد أصبحت من أهم معارك الآراء الفلسفية والأنظار الكلامية، والتضارب فيها شديد جداً بحيث نسبت طائفة إلى الجهل والضلال، وابتليت فرقة بالتكفير والتفسيق.

وتصوير النزاع في هذه المسألة:

أنّ الواجب الوجود هل يتمكن من ترك الفعل أو لا؟ وإن شئت فقل: إنّ ما يصدر عنه هل هو واجب منه أم لا؟ بل يمكنه الترك والفعل معاً، فلا وجوب للفعل منه، وإنّما الوجوب بعد تعلّق إرادته، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

وبكلمة أوضح بياناً: لا شك عند الموحّدين أنّ الله مختار في خلقه وفعله، لكن هل اختياره من سنخ اختيار الحيوان، الذي هو بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل، أم لا بل هو من سنخ آخر؟

المتكلّمون على الأَوّل، والفلاسفة على الثاني، وحيث إنّ البحث عنه مهم جداً، نبدأ بنقل ما أفاده الباحثون من الطرفين فيها؛ حتى تتّضح المسألة المذكورة حقّ وضوحها، ولنكن حين الاستدلال والاختيار على بصيرة تامّة من أمرنا.

فنقول: قال الفيلسوف الشهير في أسفاره (٢): إنّ للقدرة تعرفينِ مشهورين:

أحدهما: صحّة الفعل ومقابله أعني الترك.

وثانيهما: كون الفاعل في ذاته، بحيث إنّ شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

والتفسير الأَوّل للمتكلمين والثاني للفلاسفة، ومن المتأخّرين من ذهب إلى أنّ المعنيين

____________________

(١) منظومة السبزواري / ١٧٢.

(٢) الأسفار، المجلد الثاني، الفصل الأَوّل من الموقف الرابع، (الطبعة القديمة).

١١٦

متلازمان بحسب المفهوم والتحقّق، وأنّ مَن أثبت المعنى الثاني يلزمه المعنى الأَوّل قطعاً؛ وذلك لأنّ الفاعل إذا كان بحسب ذاته بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، كان لا محالة من حيث ذاته - مع عزل النظر عن المشيّة واللامشيّة - يصح منه الفعل والترك، وإن كان يجب منه الفعل إذا وجب المشية، والترك إذا وجب اللامشيّة، فلزوم الفعل ووجوبه من تلقاء دوام المشية ووجوبها، لا ينافي صحّة الترك على تقدير اللامشيّة، وكذلك قياس مقابله في الاعتبارين.

أقول: ما ذكره غلط وخبط، فإنّ الصحة والجواز في الفعل ومقابله، مرجعهما الإمكان الذاتي، وتحقّقه مستحيل فيه تعالى؛ فإنّه وجوب بلا إمكان، وإنّما يجوز تلك النقائص عند مَن يجعل صفاته زائدةً على ذاته كالأشاعرة، أو يجعل الداعي على صنعه وإيجاده أمراً مبايناً، فيكون ذاته بذاته مع قطع النظر عن هذه الزوائد؛ صفةً كانت أو داعياً، جائز المشيئة واللامشيئة صحيح الفاعلية واللافاعلية، وأمّا عند مَن وحّده وقدّسه عن شوائب الكثرة والإمكان، فالمشية المتعلّقة بالجود والإفاضة عين ذاته بذاته، بلا تغاير بين الذات والمشيئة خارجاً وذهناً، بلا اختلاف حيثية تقييدية وتعليلية، فصدق القضية الشرطية القائلة: إن شاء فعل، لا ينافي وجوب المقدّم، وضرورة العقد الحملي له ضرورة أزلية دائمة، وكذا الشرطية القائلة: إن لم يشأ لم يفعل، لا ينافي استحالة المقدّم امتناعاً ذاتياً، وضرورة نقيضه ضرورة أزلية، فعلم أنّ التفسير الثاني صادق عند الحكماء دون الأَوّل، ولا تلازم بينهما إلاّ في القادر الذي يكون إرادته زائدةً على ذاته، وأمّا الواجب فلكونه فوق التمام، وبذاته البسيطة الحقة يفعل ما يفعل، لا بمشيئة زائدة، ولا بهمة عارضة، لازمة أو مفارقة، فهو بمشيئته وعلمه ورضائه وحكمته، التي هي عين ذاته يفيض الخير ويجود النظام، وهذا أتم أنحاء القدرة، وأفضل ضروب الصنع، ولا يلزم من ذلك جبر كفعل الماء في تبريده... إلخ انتهى كلامه مع تغيير ما.

وقال الحكيم السبزواري: لا يلزمنها - أي القدرة - حدوث ما انفعل، أي الحدوث الزماني في المقدور القابل للأثر، خلافاً للمتكلّمين، فاعتبروا في مفهوم القدرة انفكاك متعلّقها وقتاً ما عن الذات - (وبعضهم اعتبروا في القدرة إمكان الترك إمكاناً ذاتياً، وبعضهم إمكانه إمكاناً وقوعياً، والإمكان الوقوعي ما لا يلزم من فرض وقوعه محال، والحال أنّ فيه محالاً كلّ المحال؛ لأنّ عدم المعلول كاشف عن عدم علّته، كعدم العقل الأَوّل أو عدم الفعل مطلقاً؛ وبعضهم اعتبروا الوقوع في الترك، وفيه: أنّه تخلّف المعلول عن العلّة التامّة) (١) - وقد عرّفوا قدرته بصحّة الفعل والترك، وهو باطل؛ إذ الصحّة هي الإمكان، وواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات، فالقدرة كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل... فالحق تعالى

____________________

(١) هذه الجملة مذكورة في حاشية شرح المنظومة، ونحن أدرجناها في المتن، بين قوسين.

١١٧

موجِب - بسكر الجيم - أي فاعل يجب فعله بقدرته وأخياره، وهذا على مذهب الحكيم حيث يقول: الشيء ما لم يجب لم يوجد، وليس موجَباً - بفتح الجيم - أي فاعلاً يجب فعله لا بقدرته واختياره كالمضطر، تعريض إلى مَن نسب إلى الحكماء إطلاقهم الموجب عليه بهذا المعنى، بأنّه حرّف الكلمة عن موضعها (١) ... إلخ.

وقال المحقّق الطوسي قدّس سره في قواعد العقائد: والقادر هو الذي يصحّ منه أن يفعل الفعل ولا يجب، وإذا فعل فعلاً باعتبار (اختيار ظ) وإرادة لداع يدعوه إلى أن يفعل، ويقابله الموجب، وهو الذي يجب أن يصدر عنه الفعل ويجب أن يقارنه فعله؛ لأنّه لو تأخّر الفعل عنه لَما كان صدور الفعل عنه واجباً؛ إذ لم يصدر عنه في الحال المتقدّم على الصدور. والمتكلّمون يقولون بأنّ الباري تعالى قادر، إذا كان فعله حادثاً غير صادر عنه في الأزل، ويلزم القائل بالقِدم كون فاعله موجباً.

والحكماء يقولون: كل فاعل فَعل بإرادةٍ مختارٌ، سواء قارنه الفعل في زمانه أو تأخّر عنه، وموضع الخلاف في الداعي، فإنّ المتكلّمين يقولون: إنّه لا يدعو الداعي إلاّ إلى معدوم ليصدر عن الفاعل وجوده، بعد الداعي بالزمان، أو تقدير الزمان، ويقولون: إنّ هذا الحكم ضروري والحكماء ينكرونه (٢) انتهى.

قال الحكيم اللاهيجي في شوارقه: إنّه تعالى قادر مختار، بمعنى أنّه يتمكّن من الفعل والترك، بمعنى أنّه تعالى بحيث قد يتخلّف عنه الفعل، فإنّ القدرة بهذا المعنى هو المتنازع فيه بين المتكلمين والحكماء، وأمّا القدرة بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالم وتركه بالنظر إلى ذاته تعالى، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فمتفق عليه بين الفريقين... إلى أن قال: فالنزاع إذن ليس في معنى القدرة، الذي هو المفهوم الشرطي، بل في وجوب وقوع مفهوم المقدّم وعدم وجوبه (٣) .

قال العلاّمة الحلي قدّس سره في ضمن كلام له: لزم خروج الواجب تعالى عن كونه قادراً، ويكون موجباً، وهذا هو الكفر الصريح؛ إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة إنّما هو هذه المسألة (٤) !

قال في شرح المواقف: أي يصح منه إيجاد العالم وتركه، فليس شيء منهما لازماً لذاته بحيث يستحيل انفكاكه عنه، وإلى هذا ذهب الملّيون كلّهم، وأمّا الفلاسفة فإنّهم قالوا: إيجاده

____________________

(١) شرح المنظومة / ١٧٢.

(٢) شرح قواعد العقائد / ٣٩.

(٣) الشوارق ٢ / ٢١٠ - ٢١١.

(٤) إحقاق الحق ٢ / ١١٦.

١١٨

للعالم على النظام الواقع من لوازم ذاته، فأنكروا القدرة بالمعنى المذكور... وأمّا كونه تعالى قادراً بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فهو متّفق عليه بين الفريقين... (١) إلخ.

قال القوشجي في شرح التجريد: ذهب الملّيون قاطبةً إلى أنّ تأثير الواجب في العالم بالقدرة والاختيار، على معنى أنّه يصح منه فعل العالم وتركه، وذهب الفلاسفة إلى أنّ تأثيره فيه بالإيجاب (٢) انتهى.

وكذا الإصبهاني في شرحه مطالع الأنظار على طوالع الأنوار.

وقال بعض الفضلاء السادة في شرحه على نهج البلاغة: وقيل: هو (أي القادر) كون ذاته بذاته في الأزل، بحيث يصحّ منه خلق الأشياء فيما لا يزال على وِفق علمه بها، وهي عين ذاته، وقيل: هي - القدرة - علمه بالنظام الأكمل من حيث أنّه يصحّ صدور الفعل عنه، وقيل: هي عبارة عن نفي العجز عنه، وقيل: هي فيض الأشياء عنه بمشيئته التي لا تزيد على ذاته، وهي العناية الأزلية (٣) انتهى.

تعقيب تحصيلي

هذه نبذة من كلماتهم في المسألة، وهي تدلّك على حقيقة القولين المذكورين دلالةً واضحة، ولمزيد تنقيح البحث نذكر ما يستفاد من هذه التعابير، وهو أُمور:

الأَوّل: إنّ البحث ليس بلفظي كما توهم، ولا ملازمة بين القولين أصلاً كما زعم، فإن المتكلّمين يعتبرون الصحّة التي هي الإمكان في تعريف القدرة، والفلاسفة ينكرونها أشدّ الإنكار.

فالتعريف الأَوّل - وهو صحّة الفعل والترك - صحيح عند أصحاب الكلام، وباطل بزعم أرباب الفلسفة، وأمّا التعريف الثاني - وهو إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل - فهو ينطبق على كلا المسلكين، فإنّ صحّة الشرطية لا تنافي ضرورة المقدّم وامتناع التالي ولا إمكانهما، فالمتكلّم على الثاني والفلسفي على الأوّل.

الثاني: اعتراف الحكماء بصحة تعريف المتكلّمين، في الذي كان إرادته زائدةً على ذاته، وكان داعيه أمراً مبايناً، فإنّ الفعل بالنظر إلى ذاته من حيث هي ممكن الصدور والترك، والخلاف فيمَن كان إرادته وداعيه عين ذاته بلا فرق أبداً.

الثالث: ضرورة العالم بالنسبة إلى ذاته تعالى من حيث هي ذاته، وعدم إمكان تخلّفه عنها -

____________________

(١) شرح المواقف ٣ / ٤١.

(٢) شرح التجريد / ٣٤٨.

(٣) منهاج البراعة ١ / ٣٠٩.

١١٩

سواء كان إمكاناً ذاتياً أو وقوعياً- فضلاً عن وقوع الترك، كما ظهر من كلام الأسفار وشرح المنظومة، فما تقدّم من الشوارق من أنّ القدرة، بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالَم وتركه بالنظر إلى ذاته، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فمتفق عليه بين الفريقين، ساقط جداً فإنّ فعل العالَم بالنسبة إلى ذاته تعالى ضروري عند الحكماء، فأين الاتفاق؟ نعم التعريف الثاني متّفق عليه بينهما على نحو ما عرفت.

الرابع: معنى اختيار الواجب عند الحكماء، هو صدور الفعل عنه مقارناً للعلم والرضاء فقط، ولا يعتبرون إمكان التخلّف فيه ولو إمكاناً ذاتياً، بل يرون امتناعه كما مرّ، وهذا بخلاف المتكلّمين، فإنّهم يرون وقوع التخلّف شرطاً في مفهوم الاختيار، كما يظهر من عبارة المحقّق الطوسي، أو إمكان التخلّف إمّا ذاتياً أو وقوعياً، كما نقله السبزواري عن بعضهم.

أقول: فالإيجاب عند الأَوّلين هو صدور الفعل من غير العلم والرضاء به، وعند الآخرين صدوره بلا جواز تخلّفه، فالحكيم إذا ادّعى أنّ الواجب القديم مختار يعني به: أنّه عالم بصدور فعله عنه، وليس كالشمس في إشراقها والنار في إحراقها. قال خاتم الفلاسفة في أسفاره: فإذن ما يقال من أنّ الفرق بين الموجب والمختار: أنّ المختار ما يمكنه أن يفعل وألاّ يفعل، والموجب ما لا يمكنه أن لا يفعل، كلام باطل؛ لأنّك قد علمت أنّ الإرادة متى كانت متساويةً لم تكن جازمةً، وهناك يمتنع حدوث المراد إلاّ عند مَن نفى العلّية والمعلولية بين الأشياء كالأشاعرة، ومتى ترجّح أحد طرفيها على الآخر صارت موجبةً للفعل، ولا يبقى حينئذٍ بينها وبين سائر الموجبات فرق من هذه الجهة، بل الفرق ما ذكرنا، من أنّ المريد هو الذي يكون عالماً بصدور الفعل الغير المنافي عنه، وغير المريد هو الذي لا يكون عالماً بما يصدر عنه -كالقوى الطبيعية- وإن كان الشعور حاصلاً، لكن الفعل لا يكون ملائماً، بل منافراً، مثل الـمُلجَأ على الفعل فإنّ الفعل لا يكون مراداً له... إلخ.

الخامس: محور النزاع ومناط البحث في المقام هو الداعي، فإنّه إن ثبت زيادته على ذاته تعالى تمّ قول المتكلّمين؛ إذ الفعل حينئذٍ بالنسبة إلى الذات من حيث هي ممكن الصدور واللاصدور، كما ذكره في الأسفار وهو واضح، أو لأنّ الداعي لا يدعو إلى المعدوم بالضرورة، كما نقله العلاّمة الطوسي عن المتكلّمين، بل تقدّم عن التفتازاني (١) أنّه متّفق عليه بين الفلاسفة والمتكلّمين، وعليه فإنكار الحكماء في قول المحقّق الطوسي المتقدّم - حيث قال: والحكماء ينكرونه - راجع إلى الداعي نفسه، لا إلى عدم داعويته إلى المعدوم فتأمّل.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المراد بالداعي - كما يظهر من مسفوراتهم - هو إرادته التابعة

____________________

(١) تقدّم في الصفحة ٨١ من هذا الجزء.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الشافعية ، والثاني : لا خيار ؛ لحصول الملك في الحال وقد يؤدّي المالك الزكاة من غيره(١) .

ولو دفع المالك الزكاة من موضع آخر سقط خيار المشتري ؛ لزوال العيب ، ويحتمل ثبوته ؛ لإِمكان أن يخرج المدفوع مستحقاً فيبيع الساعي المال ، ولو أخرج الزكاة ثم باع فلا خيار.

ولو قلنا ببطلان البيع في قدر الزكاة - كما اختاره الشيخ(٢) والشافعي(٣) - صحّ البيع في الباقي ، فللمشتري الخيار ، ولا يسقط خياره بأداء الزكاة من موضع آخر ؛ لأنّ العقد في قدر الزكاة لا ينقلب صحيحاً بذلك.

مسألة ١٣٣ : لو ادّعى المالك تلف النصاب أو إبداله في الحول أو عدم انتهاء الحول قُبل قوله‌ من غير يمين سواء في ذلك السبب الظاهر والخفي ، وسواء ادّعى ما هو الظاهر أو خلافه - وهو أحد قولي الشافعي(٤) - لأنّه أمين فيما في يده ، لأنّ الزكاة تجب على طريق المواساة والرفق فقُبل قوله فيه.

والقول الثاني للشافعي : إن ادّعى الظاهر مثل عدم حولان الحول كان القول قوله ولا تجب اليمين بل يستحب أن يعرضها الساعي عليه للاستظهار وزوال التهمة.

فإن حلف فلا كلام ، وإن امتنع لم يطالبه بشي‌ء ؛ لأنّ اليمين ليست واجبة ، بخلاف المستودع إذا ادّعى التلف أو الردّ فإنّ اليمين تجب وإن كان أميناً ؛ لأنّ الوديعة حقّ للآدمي المتعيّن فكانت مبنيّةً على التضيّق ، والزكاة حقّ لله تعالى وجبت على طريق المواساة ، ولا يتعيّن فيها حقّ الآدمي وإنّما هو جهة لصرفها فافترقا.

____________________

(١) المجموع ٥ : ٤٦٩ ، فتح العزيز ٥ : ٥٥٤.

(٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٠٨.

(٣) المجموع ٥ : ٤٦٩ ، فتح العزيز ٥ : ٥٥٣.

(٤) المجموع ٦ : ١٧٣ - ١٧٤.

٢٠١

وإن كان الظاهر مع الساعي مثل أن يدّعي إبدال النصاب أو أنّه باعه ثم اشتراه ، أو ادّعى أنّه كان وديعة ستة أشهر ثم ملكه ، أو ادّعى دفع الزكاة إلى غير هذا الساعي فإنّ الأصل عدم ما ذكره إلّا أنّ القول قوله ؛ لأنّه أمين.

وفي وجوب اليمين وجهان : الوجوب ؛ لأنّه خلاف الظاهر ، وليس بجيّد ؛ لما تقدّم ، وعدمه بل هي استظهار مستحب.

فعلى الأول لو امتنع طولب بالزكاة ولا يحلف الساعي ؛ لأنّه نائب عن الفقراء ، والنائب كالوكيل لا يحلف ، ولا يمكن إحلاف الفقراء ؛ لعدم تعيّنهم قبل الدفع.

ثم اعترض على نفسه : بأنّ الحكم لا يثبت بالنكول وقد ثبت هنا.

وأجاب : بأنّ الحكم ليس بالنكول بل بوجود النصاب في يده حولاً ، وإنّما يقبل قوله مع يمينه في إسقاطها ، فإذا لم يحلف اُخذ منه بالسبب المتقدّم ، كما لو امتنعت من اللعان(١) حُدّت بلعان الزوج لا بنكولها.

وعلى الثاني : إذا امتنع لم يطالب بالزكاة(٢) .

تذنيب : لو شهد عليه عدلان ببقاء عين النصاب أو بإقراره بما ينافي دعواه المسقطة للزكاة سمعت واُلزم بالزكاة.

مسألة ١٣٤ : لو عزل الزكاة فتلفت قبل أن يسلّمها إلى أهلها‌ إمّا المستحق أو الإِمام أو الساعي ، فإن كان بعد إمكان الأداء ضمن ولم تسقط عنه ، ووجبت عليه شاة اُخرى لا قيمة التالفة وإن كانت أزيد.

وإن كان قبل إمكان الأداء فالوجه عندي السقوط ، وبه قال مالك(٣) ؛

____________________

(١) يعني : كما في اللعان إذا لا عن الزوج ، لزم المرأة حدّ الزنا ، فإن لاعنت سقط ، وان امتنعت لزمها الحدّ لا بامتناعها بل بلعان الزوج. اُنظر : الهامش التالي.

(٢) المجموع ٦ : ١٧٤.

(٣) بداية المجتهد ١ : ٢٤٨ ، مقدمات ابن رشد ١ : ٢٣٥ - ٢٣٦ ، المدونة الكبرى ١ : ٣٤٤ - ٣٤٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٦.

٢٠٢

لأنّها أمانة في يده فإذا تلفت لم يضمن كالساعي ، ولأنّه حقّ يتعيّن بتعيينه ، فإذا تلف لم ينتقل إلى غيره ، لأصالة البراءة.

وقال الشافعي : لا تسقط(١) ، لأنّ المال في يده مشترك فلا يتميّز حقّ غيره بفعله كالمشترك.

والاُولى ممنوعة ، نعم على تقدير قوله بأنّ إمكان الأداء شرط في الوجوب يسقط الفرض ، وعلى تقدير أنّه شرط الضمان يسقط بقدر ما تلف ، ووجب الباقي.

مسألة ١٣٥ : لو كان عنده أجناس مختلفة يقصر كلٌّ منها عن النصاب لم تجب الزكاة‌ وإن كانت لو جمعت زادت - عند علمائنا أجمع - سواء في ذلك المواشي والغلّات والنقدان.

وقد وقع الاتّفاق على عدم ضمّ جنس إلى جنس آخر في غير الحبوب والأثمان.

فالماشية ثلاثة أجناس : الإِبل والبقر والغنم لا يضمّ جنس منها إلى الآخر ، والأثمار لا يضمّ جنس إلى غيره فلا يضمّ التمر إلى الزبيب ، ولا تضم الأثمان إلى شي‌ء من السائمة ولا من الحبوب والاثمار.

ولا خلاف في أنّ أنواع الأجناس يضمّ بعضها إلى بعض في إكمال النصاب ، ولا خلاف في أنّ العروض للتجارة والأثمان لها يضمّ بعضها إلى بعض إلّا أنّ الشافعي لا يضمّها [ إلّا ](٢) إلى جنس ما اشتريت به ؛ لأنّ نصابها معتبر به(٣) .

واختلف الجمهور في ضمّ الحبوب بعضها إلى بعض ، وفي ضمّ أحد النقدين إلى الآخر.

____________________

(١) حلية العلماء ٣ : ١٤٦.

(٢) زيادة أثبتناها من المصدر.

(٣) المغني ٢ : ٥٩١ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٥٩.

٢٠٣

فعن أحمد ثلاث روايات : إحداها كقولنا بعدم الضمّ مطلقاً ، ويعتبر النصاب في كلّ جنس منها - وبه قال عطاء ومكحول وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح بن حي وشريك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي. لأنّها أجناس فاعتبر النصاب في كلّ جنس منها منفرداً كالثمار والمواشي(١) .

وقال عكرمة وأحمد - في رواية - وحكاه ابن المنذر عن طاوس : إنّ الحبوب كلّها يضمّ بعضها إلى بعض في إكمال النصاب(٢) - قال أبو عبيد : لا نعلم أحداً من الماضين جمع بينهما إلّا عكرمة(٣) - لقولهعليه‌السلام : ( لا زكاة في حب ولا تمر حتى يبلغ خمسة أوسق )(٤) .

وقال مالك والليث وأحمد في رواية : يضمّ الحنطة إلى الشعير ، والقِنْطيّات(٥) بعضها إلى بعض(٦) .

وفي ضم الذهب إلى الفضة عن أحمد روايتان ، فعلى الضمّ يؤخذ من كل جنس على قدر ما يخصّه ، ولا يؤخذ من جنس عن غيره إلّا الذهب والفضة فإنّ في إخراج أحدهما عن الآخر روايتين(٧) .

____________________

(١) المغني ٢ : ٥٩١ - ٥٩٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٥٩ ، المجموع ٥ : ٥١٢ ، حلية العلماء ٣ : ٨٤ ، بداية المجتهد ١ : ٢٦٦ ، الأموال لأبي عبيد : ٤٧٥.

(٢) المغني ٢ : ٥٩٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٥٩ ، المجموع ٥ : ٥١٣.

(٣) الأموال لأبي عبيد : ٤٧٥ ، المغني ٢ : ٥٩٢.

(٤) أورده كما في المتن ابنا قدامة في المغني ٢ : ٥٩٢ ، والشرح الكبير ٢ : ٥٥٩ ، وانظر أيضاً : سنن البيهقي ٤ : ١٢٨.

(٥) القِطْنيات ، جمع ، واحدتها : قِطْنية بكسر القاف ، وهي : الحبوب التي تدّخر كالحمّص والعدس ونحوهما. لسان العرب ١٣ : ٣٤٤ « قطن ».

(٦) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٠٣ ، بداية المجتهد ١ : ٢٦ ، المدونة الكبرى ١ : ٣٤٨ ، المنتقى للباجي ٢ : ١٦٧ - ١٦٨ ، المغني ٢ : ٥٩٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٦٠ ، المجموع ٥ : ٥١٣ ، فتح العزيز ٥ : ٥٦٩ ، حلية العلماء ٣ : ٨٤ ، الأموال لأبي عبيد : ٤٧٤.

(٧) المغني ٢ : ٥٩٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٦١.

٢٠٤

٢٠٥

المقصد الثالث

فيما تستحب فيه الزكاة‌

وفيه فصلان :

الأَوّل : في مال التجارة.

وفيه بحثان :

الأَوّل : في تحقيق ماهية مال التجارة.

مسألة ١٣٦ : مال التجارة هو المملوك بعقد معاوضة للاكتساب عند التملّك‌ ، فقصد التجارة لا بدّ منه فلو لم يقصده أو قصد القُنية ابتداءً أو انتهاءً لم يصر مال تجارة ، ولا يكفي مجرّد النيّة دون الشراء.

واقتران القصد بالملك(١) ، فلو كان يملك عرضاً لقُنيته فقصد التجارة بعد ذلك لم يصر للتجارة ، ولم ينعقد الحول عليه - وبه قال الشافعي وأحمد في رواية(٢) - لأنّ الأصل القُنية ، والتجارة عارض فلم ينصرف إليها بمجرّد النيّة كما لو نوى الحاضر السفر لم يثبت له حكم بدون الفعل.

____________________

(١) يعني : لا بدّ من اقتران القصد بالملك أيضاً.

(٢) الأم ٢ : ٤٨ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٦ ، المجموع ٦ : ٤٨ - ٤٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤١ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩ ، المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١.

٢٠٦

وعن أحمد رواية : أنّ العرض يصير للتجارة بمجرّد النية ؛ لقول سمرة : أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نخرج الصدقة ممّا يعدّ للبيع(١) ؛ وبالنيّة يصير معدّاً للبيع(٢) .

وليس بجيّد ؛ فإنّ النزاع وقع في أنّ المنويّ هل هو معدّ للبيع أم لا؟

وفي وجه للشافعي : أنّه يصير بالقصد مال التجارة كما لو كان عنده عرض للتجارة فنوى جعله للقُنية فإنّه يصير للقُنية(٣) .

والفرق ما تقدّم من أنّ الأصل الاقتناء ، والتجارة عارضة ، وبمجرّد النيّة يعود حكم الأصل ، ولا يزول حكم الأصل بمجرّدها.

مسألة ١٣٧ : ويشترط أن يملكه بفعله‌ إجماعاً ، فلو انتقل إليه بميراث لم يكن مال تجارة.

ويشترط أن يملكه بعوض عندنا - وبه قال الشافعي(٤) - فلو قصد التجارة عند الاتّهاب أو الاصطياد أو الاحتشاش أو الاغتنام أو قبول الوصية ، لم يصر مال التجارة.

وكذا لو قصد التجارة عند الردّ بالعيب أو الاسترداد حتى لو اشترى عرضاً للقُنية بمثله ثمّ ردّ ما اشتراه بعيب أو رُدّ عليه ما باعه فأخذه(٥) على قصد التجارة لم يصر مال تجارة.

لقول الصادقعليه‌السلام : « إن أمسك التماس الفضل على رأس ماله‌

____________________

(١) سنن أبي داود ٢ : ٩٥ / ١٥٦٢ ، سنن البيهقي ٤ : ١٤٦ - ١٤٧ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٢٧ - ١٢٨ / ٩.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٦ ، المجموع ٦ : ٤٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤١ - ٤٢ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، وهو قول الكرابيسي من الشافعية.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٦ ، المجموع ٦ : ٤٨ و ٤٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤٢ و ٤٣ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩.

(٥) في « ط ، ف » والطبعة الحجرية : فأخذ. وما أثبتناه من « ن ».

٢٠٧

فعليه الزكاة »(١) وهو يدلّ على اعتبار رأس المال فيه.

ولأنّ القصد بالتجارة الاكتساب ، ولا يتحقّق المعنى إلّا إذا كان للسلعة رأس مال ، ولأنّه لم يملكه بعوض فأشبه الموروث.

وقال بعض الجمهور : لا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغيره ، لأنّه ملكه بفعله فأشبه ما لو ملكه بعوض(٢) .

والفرق ظاهر.

إذا ثبت هذا ، فإن كان عنده ثوب قُنية فاشترى به عبداً للتجارة ، ثمّ رُدّ الثوبُ بعيب انقطع حول التجارة ، ولا يكون الثوب مال تجارة ، لأنّه لم يكن مال تجارة حتى يعود عند انقطاع البيع على ما كان عليه.

ولو كان عنده ثوب للتجارة فباعه بعبد للقُنية ، ثم رُدّ عليه الثوب بالعيب لم يكن مال تجارة ؛ لأنّ قصد القُنية قطع حول التجارة.

مسألة ١٣٨ : يشترط كونها معاوضةً محضة‌ ، فلو اشترى بنيّة التجارة كان المتاع مال تجارة سواء اشتراه بعرض أو نقد ، وسواء اشتراه بعين أو دَيْن ، وسواء كان الثمن مال قُنية أو مال تجارة.

ولو صالح على عرض للتجارة بَديْن أو عين للقُنية أو التجارة صار العوض مال تجارة.

ولو خالع امرأته وقصد التجارة في عرض الخُلع ، أو نكحت امرأة ونوت التجارة في الصداق لم يصر مال تجارة ؛ لأنّ النكاح والخُلع ليسا من عقود التجارات والمعاوضات المحضة ، وهو أحد وجهي الشافعي ، وفي الآخر : إنّه مال تجارة ؛ لأنّه ملك بالمعاوضة فيكتفى به في تعلّق الزكاة كما يكتفى به لثبوت‌

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥٢٧ ( باب الرجل يشتري المتاع فيكسد عليه والمضاربة ) الحديث ١ ، التهذيب ٤ : ٦٨ / ١٨٥ ، الاستبصار ٢ : ١٠ / ٢٨ ، بتفاوت يسير.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٩.

٢٠٨

الشفعة(١) .

والأصل ممنوع.

مسألة ١٣٩ : يشترط الحول في تعلّق زكاة التجارة‌ إجماعاً ، فلو ملك مالاً للتجارة انعقد عليه الحول من حينئذٍ ، فإذا تمّ الحول تعلّقت الزكاة به ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )(٢) وهو عام.

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « إذا حال الحول فليزكّها » وقد سأله محمد بن مسلم عن الرجل توضع عنده الأموال يعمل بها(٣) .

مسألة ١٤٠ : ويشترط النصاب - في الثمن في زكاة التجارة - في الحول من أوله إلى آخره‌ ، فلو نقص في الابتداء بأن يشتريه بأقلّ من نصاب ، ثم زاد السعر في أثناء الحول حتى بلغ نصاباً أو نقص في الانتهاء بأن كان قد اشترى بنصاب ، ثم نقص السعر عند انتهاء الحول أو في الوسط بأن يشتري بنصاب ، ثم ينقص السعر في أثناء الحول ، ثم يرتفع السعر في آخره فلا زكاة عند علمائنا ، وبه قال الثوري وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأحمد وابن المنذر والشافعي - في قول - لأنّه قال : يعتبر الحول فيه والنصاب فيجب اعتبار كمال النصاب في جميع الحول كسائر الأموال التي يعتبر لها ذلك(٤) .

وقال أبو حنيفة : يعتبر في أوله لينعقد عليه الحول ، وفي آخره ؛ لأنّه وقت الوجوب ، ولا يعتبر فيما بينهما - وهو قول للشافعي أيضاً - لأنّ الأسعار‌

____________________

(١) المجموع ٦ : ٤٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤٣.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ٥٧١ / ١٧٩٢ ، سنن الدارقطني ٢ : ٩٠ و ٩١ / ١ و ٣.

(٣) الكافي ٣ : ٥٢٨ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٨ / ١٨٦ ، الإستبصار ٢ : ١٠ / ٢٩.

(٤) المغني والشرح الكبير ٢ : ٦٢٥ ، المجموع ٦ : ٥٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٠١.

٢٠٩

تنخفض وترتفع ويعسر ضبطها ومراقبتها(١) .

ونمنع المشقّة ؛ فإنّ المتاع إن لم يقارب النصاب لم يحتج إلى تقويم لظهور معرفته ، وإن قارب سهل عليه التقويم ، وإلّا بني على أصالة البقاء لو كان نصاباً ، وعدم الزيادة لو قصر.

وقال مالك : إنّه يعتبر في آخر الحول - وهو أصح وجوه الشافعي - لكثرة اضطراب القِيَم(٢) ؛ وقد تقدّم.

مسألة ١٤١ : يشترط وجود رأس المال من أول الحول إلى آخره‌ ، فلو نقص رأس المال ولو حبّة ( في الحول )(٣) أو بعضه لم تتعلّق الزكاة به ، وإن عادت القيمة(٤) استقبل الحول من حين العود عند علمائنا أجمع - خلافاً للجمهور(٥) كافة - لأنّ الزكاة شُرّعت إرفاقاً بالمساكين فلا يكون سبباً لإِضرار المالك فلا يشرع مع الخسران ، ولأنّها تابعة للنماء عندهم وهو منفي مع الخسران.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « إن أمسك متاعه ويبتغي رأس ماله فليس عليه زكاة ، وإن حبسه بعد ما وجد رأس ماله فعليه الزكاة بعد ما أمسكه بعد رأس ماله »(٦) .

احتجّوا بالعموم. والخاص مقدَّم.

____________________

(١) المبسوط للسرخسي ٢ : ١٧٢ ، اللباب ١ : ١٤٩ ، المغني ٢ : ٦٢٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٦ ، المجموع ٦ : ٥٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٠١.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٦ ، المجموع ٦ : ٥٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٠١.

(٣) ورد بدل ما بين القوسين في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق والطبعة الحجرية : ( في أثناء الحول ) وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٤) أي : إذا بلغ رأس المال.

(٥) كما في المعتبر للمحقق الحلّي : ٢٧٣.

(٦) الكافي ٣ : ٥٢٨ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٨ / ١٨٦ ، الاستبصار ٢ : ١٠ / ٢٩.

٢١٠

البحث الثاني

في الأحكام‌

مسألة ١٤٢ : زكاة التجارة مستحبة غير واجبة‌ عند أكثر علمائنا(١) ، وبه قال ابن عباس وأهل الظاهر كداود وأصحابه ومالك(٢) ، وقال الشافعي : هو القياس(٣) ، لقولهعليه‌السلام : ( عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق )(٤) ولم يفصّل بين ما يكون للتجارة والخدمة.

وقولهعليه‌السلام : ( ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة )(٥) فلو لا أنّ التجارة تحفظ من الزكاة وتمنع من وجوبها ما دلّهم عليها.

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « ليس في المال المضطرب به زكاة »(٦) .

وقال الباقرعليه‌السلام : « يا زرارة إنّ أبا ذر وعثمان تنازعا على عهد‌

____________________

(١) منهم : الشيخ المفيد في المقنعة : ٤٠ ، والشيخ الطوسي في النهاية : ١٧٦ ، والمبسوط ١ : ٢٢٠ ، والجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ٢٠٤ ، والخلاف ٢ : ٩١ ، المسألة ١٠٦ ، والسيد المرتضى في جُمل العلم والعمل ضمن رسائله ٣ : ٧٥ ، والمحقق في شرائع الإِسلام ١ : ١٤٢.

(٢) المجموع ٦ : ٤٧ ، فتح العزيز ٦ : ٣٩ ، المغني والشرح الكبير ٢ : ٦٢٣ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩.

(٣) حكاه الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٩٢ ، المسألة ١٠٦.

(٤) شرح معاني الآثار ٢ : ٢٨ ، مسند أحمد ١ : ١٢١ ، سنن البيهقي ٤ : ١١٨.

(٥) أورده كما في المتن الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٩٢ ، وبتفاوت يسير في الأموال لأبي عبيد : ٤٥٤ / ١٣٠٠.

(٦) التهذيب ٤ : ٧٠ / ١٩٠ ، الاستبصار ٢ : ٩ / ٢٥.

٢١١

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عثمان : كل مال [ من ](١) ذهب أو فضة يدار ويعمل به ويتجر [ به ](٢) ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول ، فقال أبو ذر : أما ما اتّجر به أو دير وعُمل به فليس فيه زكاة ، إنّما الزكاة فيه إذا كان ركازاً كنزاً موضوعاً فإذا حال عليه الحول ففيه الزكاة ، فاختصما في ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : فقال : القول ما قال أبو ذر »(٣) .

ولأصالة البراءة ، ولدلالة مفهوم وجوب الزكاة في تسعة على نفيه عمّا سواها ، وغير ذلك.

وقال بعض علمائنا بالوجوب(٤) ، وهو قول الجمهور كالفقهاء السبعة وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي - في الجديد - وأبي عبيد وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي(٥) ، لقول سَمُرة : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعدّه للبيع(٦) .

والأمر للندب تارة ، وللوجوب اُخرى ، فيحمل على الأول جمعاً بين الأدلّة ، ولو حمل على الوجوب حمل المعدّ للبيع على أحد النُصب التسعة ، والفائدة : إيجاب الزكاة وإن لم يتّخذ للقنية.

مسألة ١٤٣ : قد بيّنا أنّ شرط التعلّق عدم الخسران‌ ، وأن لا يطلب بنقص من رأس المال ، فإن بقي ناقصاً أحوالاً استحب أن يزكّيه عن سنة واحدة لقول الصادقعليه‌السلام وقد سأله العلاء عن المتاع لا اُصيب به رأس المال‌

____________________

(١و٢) زيادة من المصدر.

(٣) التهذيب ٤ : ٧٠ / ١٩٢ ، الاستبصار ٢ : ٩ / ٢٧.

(٤) يظهر القول بالوجوب من الصدوق في الفقيه ٢ : ١١.

(٥) المغني والشرح الكبير ٢ : ٦٢٣ ، المجموع ٦ : ٤٧ ، فتح العزيز ٦ : ٣٨ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩ ، بدائع الصنائع ٢ : ٢٠ ، اللباب ١ : ١٤٨.

(٦) سنن أبي داود ٢ : ٩٥ / ١٥٦٢ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٢٧ - ١٢٨ / ٩ ، سنن البيهقي ٤ : ١٤٦ - ١٤٧.

٢١٢

عليّ فيه زكاة؟ قال : « لا » قلت : أمسكه سنين ثم أبيعه ما ذا عليّ؟ قال : « سنة واحدة »(١) .

مسألة ١٤٤ : لو طُلب في أثناء الحول بزيادة أو نمى المتاع‌ بأن كانت مواشي فتوالدت ، أو نخلاً وغيره فأثمر لم يبن حول النماء على حول الأصل ، بل كان حول الأصل من حين الانتقال إذا كان نصاباً ، والزيادة من حين ظهورها ؛ لأنّها مال لم يحل عليه الحول فلا تتعلّق به الزكاة ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )(٢) .

وقال مالك وإسحاق وأبو يوسف وأحمد : حول النماء مبني على حول الأصل ؛ لأنّه تابع له في الملك فيتبعه في الحول كالسخال والنتاج(٣) .

ونمنع الحكم في الأصل وعلّية المشترك.

وقال أبو حنيفة : يبنى حول كل مستفاد على حول جنسه نماءً كان أو غيره(٤) .

وقال الشافعي : إن نضّت(٥) الفائدة قبل الحول لم يبن حولها على حول النصاب واستأنف لها حولاً ؛ لأنّها فائدة تامة لم تتولّد ممّا عنده فلم تبن على حوله كما لو استفاد من غير الربح.

ولو اشترى سلعة بنصاب فزادت قيمتها عند رأس الحول فإنّه يضم الفائدة ، ويزكّي عن الجميع ، بخلاف ما إذا باع السلعة قبل الحول بأكثر من‌

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٦٩ / ١٨٩ ، الاستبصار ٢ : ١١ / ٣٢.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ٥٧١ / ١٧٩٢ ، سنن أبي داود ٢ : ١٠١ / ١٥٧٣ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٦ / ٦٣٢ ، سنن الدارقطني ٢ : ٩٠ / ١ ، سنن البيهقي ٤ : ٩٥.

(٣) المغني ٢ : ٦٣٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤٢ ، بداية المجتهد ١ : ٢٧١ ، المنتقى للباجي ٢ : ١٤٤.

(٤) المغني ٢ : ٦٣٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤٢.

(٥) المال الناضّ ، هي : الدراهم والدنانير. الصحاح ٣ : ١١٠٧ « نضض ».

٢١٣

نصاب فإنّه يزكّي عند رأس الحول عن النصاب ، ويستأنف للزيادة حولاً(١) .

ولا فرق عندنا بين ذلك كلّه في عدم الضمّ.

تذنيب : لو اشترى للتجارة بما ليس بنصاب فنمى حتى صار نصاباً انعقد الحول عليه من حين صار نصاباً في قول أكثر العلماء ، لأنّه لم يحل الحول على نصاب فلم تجب فيه الزكاة كما لو نقص في آخره(٢) .

وقال مالك : لو كان له خمسة دنانير فتاجر فيها فحال الحول وقد بلغت نصاباً تعلّقت بها الزكاة(٣) ، وقد سلف بطلانه.

مسألة ١٤٥ : لو اشترى شقصاً للتجارة بألف ثم صار يساوي ألفين فعليه زكاة ألفين‌ ، فإن جاء الشفيع أخذه بألف ، لأنّ الشفيع إنّما يأخذ بالثمن لا بالقيمة ، والزكاة على المشتري ؛ لأنّها ثبتت وهو في ملكه ، ولو لم يأخذه الشفيع لكن وجد(٤) به عيباً فردّه فإنّه يأخذ من البائع ( ألفاً)(٥) .

ولو انعكس الفرض فاشتراه بألفين وحال الحول وقيمته ألف فلا زكاة عندنا ؛ للنقصان عن رأس المال.

وعند الجمهور عليه زكاة ألف ، ويأخذه الشفيع إن أخذه ويردّه بالعيب بالألفين ، لأنّهما الثمن الذي وقع البيع به(٦) .

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٣٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤٢ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع وفتح العزيز ٦ : ٥٨.

(٢) المغني ٢ : ٦٣٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٥.

(٣) المغني ٢ : ٦٣٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٦ ، المدونة الكبرى ١ : ٢٦١ ، بداية المجتهد ١ : ٢٧١.

(٤) أي : وجد المشتري.

(٥) ورد بدل ما بين القوسين في النسخ الخطية والطبعة الحجرية : ( أيضاً ) وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٦) المغني ٢ : ٦٣١ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤٣ ، المجموع ٦ : ٧٤.

٢١٤

مسألة ١٤٦ : لعلمائنا قولان في أنّ العامل يملك الحصة أو الاُجرة‌ ، فالأشهر الأول.

ومن قال : إنّه يملك الحصة ، اختلفوا على قولين : أحدهما : أنّه يملك بالظهور ، والآخر : يملك بالإِنضاض ، وسيأتي(١) البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

فإن قلنا لا يملك حصّة ، فالزكاة بأجمعها على المالك ؛ لأنّه يملك الربح والأصل معاً ، وإن قلنا : يملك بالظهور - وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين(٢) - فعلى المالك زكاة الأصل ونصيبه من الربح.

وفي حصة العامل قولان : عدم الزكاة ؛ لأنّ ملكه غير مستقرّ عليه ، لأنّه وقاية لرأس المال عن الخسران.

والثاني : الثبوت ؛ للملك ، والتمكّن من التصرف فيه كيف شاء ، والقسمة ، وتعلّق حق الفقراء بذلك الجزء الذي هو لهم أخرجه عن كونه وقايةً لخسران يعرض ، وقوّاه الشيخ(٣) ، وللشافعي كالقولين(٤) .

وله آخر : أنّه كالمغصوب ، لأنّه غير متمكّن من التصرف فيه على حسب مشيئته(٥) .

وإن قلنا : إنّه يملك بالقسمة والإِنضاض - وهو أصح قولي الشافعي ، وبه قال مالك والمزني(٦) - فزكاة رأس المال على المالك.

____________________

(١) يأتي في المبحثين : الأول والرابع من الفصل الثالث من المقصد الرابع في القراض.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ٣٩٤ ، المجموع ٦ : ٧١ و ١٤ : ٣٧٧ - ٣٧٨ ، حلية العلماء ٥ : ٣٤١ ، المغني ٥ : ١٦٩.

(٣) المبسوط للطوسي ١ : ٢٢٤ وفيه : ولو قلنا : إنّ ذلك له كان أحوط.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٧١ - ٧٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٥ - ٨٦.

(٥) المجموع ٦ : ٧٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٦.

(٦) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ و ٣٩٤ ، المجموع ٦ : ٧١ و ١٤ : ٣٧٧ ، فتح العزيز ٦ : ٨٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٤١.

٢١٥

وقيل : كذا الربح بأجمعه ، لأنّ الجميع له(١) .

ويحتمل في نصيب العامل العدم ، أمّا على المالك : فلأنّه يجري مجرى المغصوب أو الملك الضعيف لتأكّد حقّ العامل فيه ، وأمّا العامل : فلعدم ملكه به.

وإيجاب الزكاة في الربح كلّه على المالك ضعيف ، لأنّ حصة العامل متردّدة بين أن تسلم فتكون له ، أو تتلف فلا يكون له ولا للمالك شي‌ء فكيف يجب عليه زكاة ما ليس له بوجه!؟ وكونه نماء ماله لا يقتضي إثبات الزكاة عليه ؛ لأنّه لغيره.

إذا عرفت هذا ، فإن قلنا بثبوت الزكاة في حصّة العامل فإنّما تثبت لو بقيت حولاً نصاباً ، أو يضمّها إلى ما عنده من أموال التجارة غيرها وتبلغ نصاباً.

ولا يبنى حول نصيب العامل على حول رأس المال عند علمائنا - وهو أحد وجهي الشافعية - لأنّه في حقه أصل مقابل بالعمل.

والثاني للشافعية : البناء ؛ لأنّه ربح كنصيب المالك(٢) . وليس بجيّد.

وعلى ما اخترناه ، فابتداء الحول من حين الظهور ؛ لحصول الملك حينئذٍ ، أو الإِنضاض والقسمة ؛ لأنّ استقرار الملك يحصل حينئذٍ.

ويحتمل من يوم تقويم المال على المالك لأخذ الزكاة ، ولا يلزمه إخراج الزكاة قبل القسمة ، فإذا اقتسماه زكّاه لما مضى من الأحوال - كالدَّين يستوفيه - عند الشافعية(٣) .

والأقوى عندي : أنّه يخرج في الحال ؛ لتمكّنه من القسمة.

تذنيب : لو أراد العامل إخراج الزكاة من عين مال القراض احتمل أن‌

____________________

(١) القول للشافعية ، اُنظر : المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٧١ ، فتح العزيز ٦ : ٨٥.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٨٦.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٨٦ ، المجموع ٦ : ٧٢.

٢١٦

يستبد به ، لأنّ الزكاة من المؤن اللازمة للمال كاُجرة الدلّال والكيّال.

ويحتمل أنّ للمالك منعه ؛ لأنّ الربح وقاية لرأس المال ، فله أن يمنع من التصرف في الربح حتى يسلّم إليه رأس المال ، ويبنى على الاحتمال ما يخرج المالك من زكاة مال القراض إن جعلنا الزكاة كالمؤن احتسب من الربح كما يحتسب أرش جناية عبد التجارة من الربح.

ويحتمل احتسابه من رأس المال ؛ لأنّه مصروف إلى حقّ لزم المالك ، فكان كما لو ارتجع شيئاً من المال.

ويحتمل أنّ ما يخرجه المالك خاصة من رأس المال ؛ لأنّه يختص بلزومه.

مسألة ١٤٧ : إذا حال الحول على العروض قوّمت بالثمن الذي اشتريت به‌ سواء كان نصاباً أو أقلّ ، وسواء كان من الأثمان أو لا ، ولا يعتبر نقد البلد ، وبه قال الشافعي إلّا أنّه قال : إذا كان من جنس الأثمان وكان الثمن أقلّ من نصاب فيه وجهان : أحدهما : أن يقوّم بما اشتراه. والثاني : يقوّم بغالب نقد البلد(١) .

هذا إن لم يملك من النقد الذي ملك به ما تمّ النصاب ، أمّا إذا اشترى للتجارة بمائة درهم وهو يملك مائة أخرى فإنه يقوّم بما ملك به أيضاً ، لأنّه ملك ببعض ما انعقد عليه الحول.

ووافقنا أبو يوسف(٢) في التقويم بما اشتراه مطلقاً ؛ لأنّ نصاب العرض مبني على ما اشتراه به فتثبت الزكاة فيه ، ويعتبر به كما لو لم يشتر به شيئاً.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « إن طلب برأس المال فصاعداً ففيه‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٦٤ ، فتح العزيز ٦ : ٧٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٣.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ٢١ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٠٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٤.

٢١٧

الزكاة ، وإن طلب بالخسران فليس فيه زكاة »(١) ولا يمكن أن يعرف رأس المال إلّا أن يقوّم بما اشتراه به بعينه.

وقال أبو حنيفة وأحمد : تقوّم بما هو أحظّ للمساكين سواء اشتراها بذهب أو فضة أو عروض ، فلو كانت قيمتها بالفضّة دون النصاب وبالذهب نصاباً قوّمت به وإن كان الثمن فضةً ، وبالعكس ، لأنّ قيمته بلغت نصاباً فتثبت الزكاة فيه ، كما لو اشتراه بعرض وفي البلد نقدان مستعملان تبلغ قيمة العرض بأحدهما نصاباً ، ولأنّ تقويمه لحظّ المساكين فيعتبر ما لهم فيه الحظ كالأصل(٢) .

والفرق في الأول ظاهر ؛ فإنّ الثمن بلغ نصاباً ، بخلاف المتنازع ، ومراعاة الفقراء ليست أولى من مراعاة المالك.

فروع :

أ - إذا كان الثمن من العروض قوّم بذهب أو فضة حال الشراء ، ثم يقوّم في أثناء الحول إلى آخره بثمنه الذي اشتري به ، وقوّم الثمن بالنقدين ، فإن قصر أحدهما في الأثناء سقط اعتبار الحول إلى أن يعود إلى السعر ، وإلّا ثبتت.

ولو قصر أحدهما وزاد الآخر مثل أن يشتريه بمتاع قيمته نصاب ، ثم يرخص سعر الثمن أو يغلو فالأقرب حينئذٍ ثبوت الزكاة مع الرخص لا مع الغلاء إلّا أن يكون العرض للتجارة.

ب - لو بلغت قيمته نصاباً بكلّ واحد من النقدين قوّمه بما اشتراه أيضاً.

____________________

(١) أورده الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ١٠٠ ذيل المسألة ١١٤ ، والمحقق في المعتبر : ٢٧٢.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ٢١ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٠٥ ، اللباب ١ : ١٤٨ - ١٤٩ ، المغني ٢ : ٦٢٥ - ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٤ ، فتح العزيز ٦ : ٧٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٤.

٢١٨

وقال أحمد : يقوّم بما شاء إلّا أنّ الأولى إخراج النقد المستعمل في البلد ؛ لأنّه أحظّ للمساكين ، ولو كانا مستعملين أخرج من الغالب في الاستعمال ، ولو تساويا تخيّر(١) .

ج - لو بلغت السلعة نصاباً بأحد النقدين وقصرت بالآخر ثبتت الزكاة ؛ لأنّه بلغ نصاباً بأحد النقدين فثبتت فيها الزكاة كما لو كان عيناً.

مسألة ١٤٨ : تثبت زكاة التجارة في كلّ حول‌ ، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي(٢) ؛ لأنّه مال ثبتت فيه الزكاة في الحول الأول لم ينقص عن النصاب ولم تتبدّل صفته فتثبت زكاته في الحول الثاني كما لو نضّ في أوله ، ولأنّ السبب المقتضي لثبوتها في الأول ثابت في الثاني.

وقال مالك : لا يزكّيه إلّا لحول واحد ، لأنّ الحول الثاني لم يكن المال عيناً في أحد طرفيه فلا تثبت فيه الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عيناً(٣) .

ونمنع ثبوت حكم الأصل.

مسألة ١٤٩ : تخرج الزكاة من قيمة العروض دون عينها ، قاله الشيخ(٤) -رحمه‌الله - على القول بالوجوب - وبه قال الشافعي في أحد القولين ، وأحمد(٥) - لأنّ النصاب معتبر بالقيمة فكانت الزكاة منها كالعين في سائر الأموال.

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٥.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٣ - ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٧.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٣٩.

(٤) الخلاف ٢ : ٩٥ ، المسألة ١٠٩.

(٥) الاُم ٢ : ٤٧ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٦٨ ، فتح العزيز ٦ : ٦٧ ، المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٨.

٢١٩

ولقول الصادقعليه‌السلام : « كلّ عرض فهو مردود إلى الدراهم والدنانير »(١) وهو يدلّ على تعلّق الزكاة بالقيمة.

وقال أبو حنيفة : يتخيّر بين الإِخراج من العين أو من القيمة ، لكن الأصل العين ، فالزكاة تتعلّق بالسلعة وتجب فيها لا بالقيمة ، فإن أخرج العرض أخرج أصل الواجب ، وإن عدل عنه إلى القيمة فقد عدل إلى بدل الزكاة - وهو الثاني للشافعي - لأنّها مال تجب فيه الزكاة فتعلّقت بعينه كسائر الأموال(٢) . ولا بأس بهذا القول.

ويمكن الجواب عمّا قاله الشيخ بأنّ اعتبار النصاب لاستعلام القدر لا لوجوب الإِخراج منه ، وكذا الرواية.

مسألة ١٥٠ : القدر المخرج هو رُبع العُشر إمّا من العين أو القيمة‌ - على الخلاف - إجماعاً ، وقد تقدّم أنّ التقويم بما اشتريت به وإن كان غالب نقد البلد غيره ، لكن الأولى إخراج نقد البلد.

ولو ملكه بعرض للقُنية قوّم في آخر الحول به عندنا.

وقال الشافعي : يقوّم بغالب نقد البلد من الدراهم أو الدنانير ، فإن بلغ به نصاباً أخرج زكاته ، وإلّا فلا ، وإن كان يبلغ بالآخر نصاباً أو كان النقدان جاريين في البلد قوّم بالأغلب ، فإن استويا وبلغ بهما نصابا فوجوه : التخيير بأن يقوّم بما شاء ويخرجه ، ومراعاة الأغبط للفقراء ، والتقويم بالدراهم ، لأنّها أرفق وأصلح ، واعتبار الغالب في أقرب البلاد(٣) .

تذنيب : لو اشترى بنصاب من النقد وبعرض قُنية قوّم ما يقابل الدراهم‌

____________________

(١) أورده الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٩٦ ذيل المسألة ١٠٩ ، والمحقق في المعتبر : ٢٧٣.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ٢١ ، المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٨ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٦٩ ، فتح العزيز ٦ : ٦٨.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٦٦ ، فتح العزيز ٦ : ٧٣ - ٧٤ ، الوجيز ١ : ٩٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٣.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296